قراءات نقدية

فلنكسر المرايا المهترأة

قراءة في القصة القصيرة تحت عنوان "النورس" للكاتب سعيد عثمان

قصة رائعة باستثنائيتها الإبداعية. العنوان أثار وجود كائن فارض نفسه على حياة الشواطئ. إنه النورس. في كلمة واحدة عنون الكاتب نصه بدون أن يفضح رسالته، باعثا لنا معان ودلالات جذابة، ومثيرا في نفس الآن انتباه القارئ داعيا إياه للاستعداد بما يكفي من اليقظة للتأمل في الكلمات المتبقية. النص له عقدة متسلطة عامة ومحورية ومعاشة اتخذت شكل معادلة في الرياضيات يصعب حلها. تقابل متعة الروح مع تطورات الواقع المتعبة شد القارئ من البداية وبقوة. تفرعت هذه العقدة بأبعادها في باقي فقرات النص واتخذت أشكالا متنوعة ولدت كل واحدة منها نفس السؤال المحير: "هل ساعات أيامنا تستحق اسم حياة؟".

مفهوم الحياة في القصة يستأسد على ذوات مجتمعاتنا، فيمقت تراكم أحداثها. حتى الكتابة والإبداع الأدبي والإعلامي اعتبرهما الكاتب تكرارا قد يكون أقل جودة من انتاجات الماضي. العودة التأملية أمام المرآة المهترئة التي طالها الصدأ، تُذَكِّر البطل بتكرار التفاهة القاتلة للمتعة وتضعه بين براثن الروتين المضني. عاد أماما ثم عاد وتشبث بتكرار العودة محملقا سطحها إلى أن خاطبته التجاعيد وتسلط المشيب بفقدان معنى الحياة. مصمصةُ الشفاه والتهكم بهز الكتف ودوران الرأس كتعبير عن انفعاله على واقع مرفوض لم يهدئ من روعه: "لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد!  ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس".

حتى الهروب إلى الأدب والإبداع الفني أصبح لا فائدة من ورائه ما دام الواقع يجسد لوحات الدراما والأحزان الإنسانية الجارحة للقلوب الوائدة للإرادات:"أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ".

الحياة بجوار الشواطئ قد تخلق الفجوات التي تساعد على استعادة الأمل، لكن للأسف الشديد تستبد أحداث ساعات الواقع فيكون مصير التجديد الضعف والهوان: "تعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله واهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب....". يمكن لحياة الشاطئ بكائناتها الحيوانية أن تساعد القلم على نقر الكلمات...: "تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال...".

البطل يتشبث بانبعاث الأمل في خلق سعادة لحظات حياته ...لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خياله أو يتبلور في وجدانه عنوان مقال جديد أو مشروع رواية لم تخطر ببال بشر، أو نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. تتداخل حياته مع حياة النوارس الطليقة، فيحلق بمخيلته عاليا حول الشراع والسفين، فيحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، ويتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، ويرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين ..". يصطدم بالوجوه البائسة المعتدى على كينونتها، فيهاجمه الأسى من جديد... لا يرى شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام.

في نهاية المطاف يجد السارد نفسه يدور في فراغ حلقاته المتشابكة، يجتر ذكريات جيل التعاسة، جيل هزمه واقعه. مرت سبعون خريفا وسبعون شتاء، ليجد نفسه وسط الغيوم ينظر في صفحاته الفارغة......

إنها حياة لا تتجبر لتحافظ على دفئها. انتفاضة على الذوات بهالة العظماء لا يقابلها إلا نفسية العاجزين. هي درس حياة للبحث عن سعادة ومتعة اللحظات في مجتمعات الجنوب. فلنقل لأرائكنا ومناضدنا التي ملت من وجودنا ولم تعد تتحمل خمولنا واستكانتنا: "اطمئني... سنكسر المرايا المهترئة المخيفة....."

***

الحسين بوخرطة

.............................

النورس / سعيد عثمان

 ليست المرة الأولى التي ألاحظ فيها كم سحقتها السنين وطالها الصدأ، تلك المرآة الضبابية القديمة التي تتململ على سطحها ملامحي، وأنا أتأمل غزو التجاعيد وتسلط المشيب .. عقود مضت وأنا أمصمص الشفاه في دهشة كل مرة، أهزّ الكتف ثم أدير الرأس وأهمس ساخرا وأنا أبتعد: - لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد! ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس؛ أصطحب قلمي ووريقاتي وأزحف متهالكا نحو ركني المعتاد في شرفة منزلي، وأمام بريق اللون الأرجواني على صفحة المياه وخفقات جناحات النوارس حول السفن الرابضة؛ أسند الرأس، ألتقط الأنفاس للحظات، وبنصف وعي أنتظر المغيب وفرار أخر شعاع منهزم  أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ، وأعرف أيضا كم أتململ ضجرا للحظات؛ لكن من بعد طول اعتياد، سرعان ما يتسلل الانفصا. أغمض العينين قليلا، أغيب عن المكان .. تشتد صرخات النوارس تقتسم فتات الغنيمة الأخيرة لهذا النهار، وتعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله و اهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب، أخذت أصفُّ كومة الأوراق بهمة مفتعلة، أتحوْصَل حول نفسي، وأتظاهر بتواتر الإلهام وأنا أنقر بالقلم في رتابة فوق حرف طاولة البامبو العتيقة. حين تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال، كعادتي في مقعدي الأثير، لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خيالي، عنوان مقال جديد .. مشروع رواية لم تخطر ببال بشر .. نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. وعقب الرشفة الأخيرة ها أنذا أدع فنجان قهوتي جانبا وأغوص من جديد في مقعدي، أنحني قليلا، أمسك بالورقة والقلم. للحظات وجدتني أغفو قليلا وأختفي عن الوجود، مثل نورس طليق أحلق عاليا حول الشراع والسفين، أحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، أتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، أرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين .. أتأمل هرولة التلاميذ بحقائبهم الثقيلة، وأسمع كلمات غزل لشاب اشتم نسمات أريج يشِعّ خلف ابتسامة فتاة  مثل كل مرة، لا أعلم تحديدا كم استغرقني الأمر، لكنني فجأة شعرت بالبرد يتغلغل في جسدي، ودبيب التنميل يقتحم أطرافي. انتفضت .. نفضت ذلك الخدر الذي اجتاح رأسي .. نظرت أمامي ومن حولي.. لا شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام. تغوص الشمس أكثر وأكثر في الأفق، تشهق روحي وأنا أراها تحتضر، أحدق في تسلل الظلام في الفراغ .. لفحتني هبة ريح باردة، أنكمش، ينتابني اليأس، أفقد الأمل، أنظر مرة أخرى في أوراقي المتساقطة، أكتشف أنني كنت طوال الوقت أحدق ساكنا في الفراغ، وأن أقلامي جافة وصفحاتي خاوية، وأكتشف - مثل كل مرة - أنني طوال الوقت لم أكن أفعل شيئا، سوى أنني - مثل كل مرة أيضا - كنت أدور وأدور في فراغ حلقاتي المتشابكة، أقتات خوفي، وأجتر ذكريات جيلنا التعس، جيل هزمه واقعه. سبعون خريفا انقضت، سبعون شتاء ولّت لياليهم وأدبرت، وها أنذا وسط الغيوم ما زلت أنظر في صفحاتي الفارغة.. أجلس في نفس المكان، أغوص في اللاشيء، أراقب هجيع كل نورس جريح، وشهقة كل سفين راحلة .. ومن بين ثنايا الذاكرة أستعيد رجيع بعض هتافات آمال غابرة، ألثغ يائسا بالدعاء لكل غريق طوته فورة كل موجة عاتية. مثل نورس عجوز فاتته وليمته؛ عدت أدراجي متثاقل الخطى، وجدتني أتوقف قبالة مرآتي القديمة، أصارع الضباب والغيوم والصدأ، أتصنع الابتسام، أحدق فيها، أخاطبها. هذه المرة خلتها تصرخ في أذني: 'أيها الأحمق الموتور، علامَ الشقاء والحزَن؟ أي خير يُرتجى من رسم حرف جديد ؟ كل الحكايات مروية، كل اِلروايات مسرودة، ما ظلت الآذان صماء مصمتة. على غير قناعة هدأت جوانحي، وضعت وريقاتي وأقلامي في مكانها المعتاد،وانتظرت.. مثل كل مرة، غروب شمس يوم جديد. .....

***

 

في المثقف اليوم