قراءات نقدية

بحثٌ عن خَلاص النفس

في ديوان "الحديقة التي رَسمت" للشاعر محمد الجباري

يرسم الشاعر المغربي محمد الجباري، في ديوانه "الحديقة التي رسمت"1، عالمين متجاورين متصارعين يَصِحّ أن نسميَ أولها عالمَ النفس الشاعرة الحالمة (أو العيش داخل الحديقة)، وأن نسمي ثانيهما عالم البشر والحجر (أو خارج الحديقة)، وبين العالمين تذهب رؤى الشاعر وتجيء باحثة عن سبيل للحفاظ على العالم الأول حيا طريا وحمايته من أن تزحف عليه كائناتٌ من خارجه فتُحيله هباءً وخواء.

1- داخل الحديقة:

في إيجاز وتكثيف يرسم الشاعر عالما من كلمات تطرزها أحلام، وذكريات، ورؤى محلقة في سماء الحق والخير والجمال. يؤسس حديقة تشتهيها كل نفس ترنو إلى سماء لا يكدر صفوَها شيء، ولا تَشينُها لطخة حزن:

في الحديقة التي رسمتُ

كلُّ العشب كان أخضر

السماء زرقاء

صافية حتى من غَيمةٍ بيضاء

لا يُسمع فيها سوى خرير مِياهٍ

تنحتُ الحجرَ أشكالاً

تَليقُ بالـمَعنى..

كان الوردُ بكل ألوانه الممكنة

الطيورُ جوقةُ عازفينَ

والفراشاتُ

راقصاتُ باليه

يُلقينَ بمَناديل الحزنِ

خارجَ الصَّحو

(الحديقة التي رسمت، ص09- 10).

خُضرةُ عُشبٍ، وزرقةُ سماء، وخريرُ مياه، ووردٌ بألوان شتى، وطيورٌ عازفة، وفراشاتٌ راقصة...عالمٌ من جمال لا سبيل إليه إلا بالسفر في أعماق النفس التي لم تُحِلْها مدنُ الإسمنت جُثةً تسير إلى قبرها لاهية ساهية. هكذا يصوغ الشاعر عالمه الأثير، فيسمع ما لا يسمعه الكثيرون، أو يسمع في قوة ما يَصِلُ أسماعَ الغير خافتاً مهموسا:

هذا الخريرُ

أرهَقهُ الحَجرُ

في رحلةِ النَّهرِ

حتى لا يكادُ

يُسمعُ له صوتٌ

لكنَّ صَخَبَهُ

يغمُر شَرايينَ الذّاكرةِ

كأنه معزوفةٌ

تُرصِّعُ

جَبينَ السِّنين الجَريحة

 (خرير، ص32).

في الذاكرة المزهرة والنفسِ الشاعرة يُسمَع واضحا ما أرهقَ الحَجَرُ مسيره، وأحالَ صوتَه خفيضا..فيها يُسمعُ خريرُ النهر، هديرُ الموج، تغريدُ البلبل، زقزقة العصفور...معزوفة تضمد جراح السنين، وتُغرق النفسَ الظمأى للفرح في نهر من الطمأنينة المشتهاة.4870 محمد الجباري

2- خارج الحديقة:

لكن الشاعر كائنٌ من لحم ودم، يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، وهو مضطر إلى الخروج من حدائق الفرح، والنزول من سماء الصفو إلى أرض الأحزان.

في حركة الخروج هاته يكتوي الشاعر بنار حياةٍ فقَدَتْ معناها الإنساني، فيشكو خواءَ الأفعال من دلالاتها، ويبكي فراقَ الأسماء لمقاصدها، وينوءُ بما يتراءى أمامه من صور العذاب، فيقول في حسرة:

هذه رأسي

أمشي بها عاريةً

تحتَ مظلاتٍ مثقوبةٍ

رأسي التي لا تحتملُ

كلَّ هذا السَّيْلِ

منَ القُبلات المغشوشةِ

وزحفَ الأدخنةِ

وثرثرةَ الجَماجِم

(تحت مظلات مثقوبة، ص05).

هي رأسٌ/ ذاتٌ أصيلةٌ حالمة داخلَ واقع يَحْتلُّه الزَّيف.. ذاتٌ يُحزنها بُعْدُ الشُّقَّة بينها وبين سَيْلٍ من الذوات النقيضة كما يتضح من التقابلات الضدية التي يكشفها المضمَر في هذا المقطع الشعري:

هذه رأسي  وتلك رؤوس مغايرة

أمشي بها عارية خلافا لأكثر الرؤوس

رأسي التي لا تحتمل [الزيف] لى العكس من الرؤوس التي تحتمله..

ويبلغ التقابل الضدّي أوْجَه بالموازنة بين "الرأس"، في مطلع القصيدة، وبين "الجماجم" بعدها بأسطر، فـ"الرأس" حيةٌ، عاقلة، مفكرة، يَقِظة، صريحة، واضحة، عارية، أما "الجماجم" فميتة لا تنتج سوى ثرثرة لا طائل من ورائها.

على أن "الرأس" في النص تُشير، كذلك، إلى القلب الحي النقي، لذلك نراها تَضيق بـ"القبلات المغشوشة" وتنفر من"زحف الأدخنة"، وتَزوَرُّ عن "ثرثرة الجماجم" ازْوِرارا. إنها رأسٌ غارقة في بحر من المعاناة والألم؛ وذلك لأنها تواجه فريدةً وحيدةً سَيْلاً من مظاهر الحياة الزائفة.

ولأن الزيف شقيقُ التفاهة فإنه يسعى لأن يتسلل رويدا رويدا إلى حديقة الشاعر/ الإنسان، ليَعيثَ  في أحلامه وصفائه ورؤاه، فلا يملك الشاعر - وهو الذي لا سلاح له إلا الكلمات - سوى أن يقول مستفهما:

في الحديقة التي لم أرسم لها بابا

كلُّ المنافذ الـمُحْتمَلة كانت مُغلقَةً

لم يَكن في الأمر سوءُ تقدير

أو شططٌ في استعمال الفُرشاة

فمِنْ أين تسَلّل الذُّبول إلى وُرَيْقات العُشب

وانتصبتِ الحُفَرُ بعِنايةٍ

في الممَرّات؟

(الحديقة التي رسمت، ص11).

إنه استفهامُ حيرةٍ واتّهام، فـ"الحُفَر انتصبتْ في الممرات بعنايةٍ" وتخطيطٍ لإفساد الحديقة الفاتنة، ولم تنشأ بفعل عوادي الزمن!

ومع حزن الشاعر لما أصاب حديقته، فإنه لا ينكفئ على نفسه، وأنّى له أن ينكفئ وهو يحمل هموم الإنسان، ويستشرف عالما يسعد فيه الجميع؟ من أجل ذلك رأيناه يُحذّر، ويُنذر، ويشكو افتقاد الأماكن للحميمية، والنقاء، وخفقات الأفئدة، ورعشات النفوس، فيقول في لغة قريبة من مدارك الكثيرين:

ليس ثَمَّةَ أكثرُ عَبَثا

من أن تستيقظي الآن

فليس الصباحُ على ما يُرام

ولا الأمكنة الحَميمةُ

نَفضتِ الغُبارَ

حتى مَواعيدُ المساءِ

بلا رَعَشات

(ليس الصباح على ما يرام، ص08).

ليس الصباح على ما يرام مع أنه زمن الإشراق والضياء، فامكثي بعيدا عن هذا الخراب، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أيتها النفس المنجذبة إلى النور.

3- ملاذ النفس الحالمة:

كيف السبيل إذاً إلى إنقاذ النفس من هذا الخراب المحيط بها من كل ناحية؟

ما أحوجنا إلى أن نتأمل فلسفة الأطفال وهم ينسجون عالما من الفرح والسعادة في بساطة آسرة:

الطفلُ

في باحة الدار

لا يحتاج لأكثر

من خيوط الشمس

يغزل منها

قبعة الأحلام..

ولا لأكثر من سُحبٍ عابرةٍ

يعصر منها

عطرَ الأسرار 

(طفل الباحة، ص21).

من وحي الاستغناء يُفجّر الطفل أنهار الانتشاء، مكتفيا  بخيوط الشمس والسحب العابرة "في باحة الدار" حيث لا سَقفَ يحول بينه وبين مناجاة السماء وتَنزُّل الضياء.

وإلى جانب "صوفية الطفولة" يسلك الشاعر شِعْبا مفضيا إلى عالم الطبيعة حيث تلتقي النفس بأصلها التكويني (التراب) فتَذكُر فطرتها، وتستلذ هذا اللقاء الذي لا تجود به مدن الإسمنت والضوضاء:

رائحةُ التراب

عِطرٌ

لا هو مُتاحٌ

في مُدن الإسمنت

ولا في أروقة المَتاجر

عطرُ التراب

لَذةٌ

أثرٌ لا يمَّحي

(عطر التراب، ص62)

ولا ينسى صاحبُ الحديقة، وهو يقول حَيَّ على الطفولة والطبيعة، أن يُؤذّن في الإنسان أن انظر إلى نفسك، وتأملها، فثمة مواطن الجمال في دواخلها غطّتها "أهوال" الحياة المعاصرة التي تُدني المرءَ مما حَوْلَه، وتُبعده عن أعماقه ودواخله؛ إن النظر إلى الأعماق وصَقْلَها مدخل إلى النور. يقول الشاعر في مقطع من نصوص المجموعة:

" قد تغربُ الشمسُ

قبلَ موعدها

فمَن يُضيءُ الأرضَ

سوى النور الذي

في قلبك"

(يا أنت، ص 28)

نعم إذا استنار القلبُ أضاءَ الكونَ من نوره! فهل إلى استنارة القلوب من سبيل!؟

ذاك سؤال النفس الشاعرة التي تبحث عن خلاص للإنسان من ظلمة العيش الرتيب.

***

أبو الخير الناصري

.....................

سليكي أخوين، طنجة، ط01، 2020م. 

في المثقف اليوم