قراءات نقدية

جماليات القبح في ديوان رؤى بروكوست العجائبية للحبيب اعزيزي

لقد أصبحت قصيدة النثر، منذ مدة قصيرة، زهرة كبيرة في حديقة الأدب العربي، فاستقطبت أقلاما من مختلف الحساسيات الجديدة، وذلك بعد رفضها ومعارضتها في بداية نشوئها من طرف أعلام الشعر العربي ونقاده. لكنها نمت شيئا فشيئا حتى أصبحت تيارا شعريا بخصائصه الحالية، غير أن توهجها الحقيقي راجع إلى الإمكانات التعبيرية التي تتيحها للشاعر الرافض لقيود الوزن، سواء في الشعر العمودي أو شعر التفعيلة، بل رفض أيضا للأغراض الشعرية المبتذلة، لمعانقة الواقع بكل تموجاته وتناقضاته، وفي هذا السياق تأتي تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي الذي نسائل ديوانه "رؤى بروكوست العجائبية" الصادر عن دار بصمة سنة 2022.

الشعر صوت السماء، والنثر صوت الأرض، لكن القراءة الأولية للديوان، تسقط هذه المعادلة، وتجعل الشعر، في هذه التجربة، صوت الجحيم، صوت إن كان صوتا، أو لعله أنات وصرخات مدججة بالحمولة الثقافية والدينية لأساطير هندوسية مثل "شيفا"، وفرعونية مثل "الأنوبيس"، وإغريقية مثل "بروكوست"، علاوة على رموز مثل الكرسي الهربائي والسمام والعمال.... استراتيجية الشاعر في بناء نصه الشعري مختلفة ومغايرة، وهي التي تخلق تميزه وفرادته، يقول في قصيدته الأولى "النّظر بنصف عين":

وأَنظُرُ إليَّ

ولو بنصف عينٍ

من تحت الكرسيّ الكهربائيّ

غربَ الجحيمِ

هناكَ

تحت أحذيةِ الفيالقِ

فأنا أحبو في الشارعِ الرئيسيِّ

هنا

بين سرايا الخوذاتِ

العسكريةِ

ولم أجد وجهكَ المسروقَ

بين الأجسادِ التي

سقطت

صباح هذا الغروب

مقطع شعري يعكس القلق الوجودي العميق من الخسارة التي لا تعوض أبدا، والبحث الدائم عن المعنى في عالم اللامعقول، الذات الشاعرة القلقة تتخبط في السديم، ينتابها العجز والتيه، ينظر الشاعر إلى نفسه بنصف عين، فالضمير المتكلم، والهوية المتشظية، جعلته لسان إنسان يعيش شقاء الحداثة حيث يستحي المرء من النظر إلى نفسه/وطنه، أو النظر ربما إلى ما آلت إليه الأمور، وما آلت إليه الأمور هو الجحيم، الحياة جحيم، والشاعر مناضل يصور السقوط التراجيدي للمعنى، قتل رمزي للإنسان مع استحضار دلالات الكرسي الكهربائي، وسيلة الإعدام، ليرى غرب الجحيم، أحذية الفيالق والخوذات العسكرية، القبح الذي يحاصر الإنسان ويطفئ ابتسامته، فهناك في الحياة/الجحيم يقول: لم أجد وجهكَ المسروقَ، فالوجه هنا، يفتح آفاقا كبيرة للتأويل، الوجه/الوطن، الوجه/الحرية، الوجه/الحب، الوجه/العدل... لكن القلق الوجودي الذي رافق صوت الشاعر في جل قصائده، يهمس بين الفينة والأخرى باقتراب النهاية التراجيدية.

ديوان يحمل بين طياته مشاعر مشاعر الغضب والتيه والقلق، تقابلها مشاعر إنسانية نبيلة (الإخلاص، الوفاء، الكرامة...) ما فتئ شاعرنا يحفر لها لحدا تلو آخر، لتهيمن صورة القبح على الجمال، القبح الذي عبر عنه شاعرنا بلغة شعرية أضفت عليه سحنة شعرية وحمالية، وهذا ما قصدناه في العنوان "جماليات القبح...". تظهر في عالم القبح شخصية الشاعر/الإنسان/المناضل متأبطا صورا شعرية تجعل القبيح جميلا، فما فائدة الشعر إن لم يعبر عن انتكاساتنا وخيباتنا، يقول الشاعر:

أشمُّ رائحةَ جسدكَ

في هذا الزقاقِ

وأعرفُ

أنك لا تستطيعُ النداءَ

لا تستطيعُ

رفعَ الرأسِ يا وطنِي

خارجَ أسوارِ بيضةٍ

فارغةٍ من الآحِ

الوطن جسد يحترق، وتلك لعنة الشاعر المناضل، أن يعيش بؤسه وهو يفكر بالمدرجين بدماء القهر والفقر، يشم شاعرنا رائحة الوطن/الجسد في الزقاق، ويعرف أنه لا يستطيع النداء، حرقة الانتماء، وقلق وجودي ليس لمصير فرديّ، بل لوطن مثخن بالجراح، وكأن الديوان رثاء يملؤه الصراخ المتواصل في الجحيم، لاسيما في قصيدة "المثول بين يدي كلاب الجحيم" والتي يقول فيها:

اسمع زعيمَ الثورةِ النَّاعمةِ في اليسار

اسمع المناضلةَ التي توبخُ هذا الصباح زوجها الجذريّ الخائن

اسمع الدركيّ

اسمع الوزير الذي أعفيَ البارحة

استراتيجية انتقاد عوالم الجحيم/الواقع في قالب شعري سردي يقوم على التوازي وصنع عجائبية العالم، عجائبية تخلق شعرية دلالية موغلة في رمزيتها، يقول في قصيدة "بروكوست العجائبية":

اليومَ هاتفتُ بعض الملائكةِ

من هاتفي الخلوي طبعاً

*

أني أريد النوم رجاء ليوم كاملٍ

في هدوء جذري مثل حذاء مرميّ

مثل من ينتظر وصول كارثة

ها هو شاعرنا يطلب الخلاص، خلاص روح قلقة تبحث عن الارتماء في اللامعنى علها تستعيد توازنها في هذا العالم/الجحيم. والجحيم هنا ليس مكانا بل هو أقرب إلى الجحيم السارتري، الإنسان الجحيم. كما يبدو أن الشاعر أضناه القلق الإيديولوجي الثاوي بين أنفاسه الشعرية، لنلاحظ تغيرا في بعض قصائده التي تنزع إلى السخرية كأسلوب لمواجهة القبح، وهو ما صنع أسلوبا شعريا يجمع بين الصورة الشعرية الساخرة وبشاعة الواقع، يقول في قصيدة "المؤمنون بسماء ونصف":

لازلنا نبكي بأفواه باردة جدّا

تماما مثل سفينة مقلوبة في مرسَى

نكره النظر نحو الأسفلِ

والمساواة بين الجنسينِ

في الرأي والملكية العامة

في التخلص من معلبات الميتافيزيقا

الكوميديا السوداء، أو حين تصبح السخرية أسلوبا لمقاومة الألم والظلم والانتكاسة، أليس سخرية أن يبكي المرء بفاه بارد جدا مثل سفينة مقلوبة في مرسى؟ إنها شعرية الخراب، شعرية الجحيم الموغل في حميميته. هكذا يتسلح الشاعر بأسلوب السخرية كاستراتيجية لمواجهة التشوهات، ودمى أحدب نوتردام التي تسكن الإنسان الشرقي، راسما صورة كاريكاتورية عن أرضنا الجحيم، يقول:

الأرض تهرب

وتهرب ظلال الأشجار

المطر في أرضنا

مثل كلب تعرض لعقاب لا إنساني

يا للعجب

تستمر السخرية في قصيدة "الرباط أو انتظرني نصف صيف: تقول المدينة":

في مدينتي القديمة

ثلاث نسوة يحملن باقة ورد صغيرة

واحدة تسير في اتجاه موعد حب في الحظيرة

واحدة نحو الحفل التنكري

وأخرى في اتجاه المقبرة

يا له من حب، ويا لها من مواعدة، حيث يكون مكان اللقاء حظيرة والحفل التنكري ومقبرة، سخرية يوجه من خلالها الشاعر سهام النقد للمجتمع الغارق في تناقضاته. تستمر السخرية اللاذعة للعالم/الجحيم في قصيدة "الشعر أيضا كلب من الجحيم" والتي يقول فيها:

صديقي بابلو

تسألني اليوم عن الحب والزمن

عن الشعر والحريات

نحن شعب يعض على كم القميص كل مساء

ندرب ما تبقى من الأسنان تحت اللهى

على الرفع من درجة التأهب

إلى اللون البرتقالي

كما تمرن دور الحضانة النزلاء ضد التبول اللاإرادي

يمكن القول إن تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي، تجربة تعكس حساسية جديدة، تجمع بين الإيديولوجيا الثورية التي اتخذت الشعر مطية لمخاطبة القراء/ الجماهير، واللغة الشعرية الزاخرة بالانزياحات الدلالية القائمة على صور شعرية مركبة تشكل عنصر الدهشة والعجائبية في خلق العالم الشعري، علاوة على أسلوب السخرية الذي لجأ إليه الشاعر لتقليص المسافة بين المشبه والمسبه به في التشبيه، والمستعار له والمستعار منه في الاستعارة، وكلما كانت المسافة كبيرة نبعت الشعرية العزيزية، إنها الفجوة مسافة التوتر بلغة كمال أبو ديب، والانزياح بلغة جون كوهين... كل هذا لخلق جمالية القبح طبعا.

***

عبيد لبروزيين

في المثقف اليوم