قراءات نقدية

انعطافات متعرجة في محطات العمر في كتاب: تقاسيم على وطن منفرد للاديب يحيى علوان

تألقت النصوص الادبية (النثر والشعر) في حبكتها السردية في جمالية اللغة وايقاعها وانسيابها الشفاف، التي عبرت في ابداع عما يجيش في أعماق الوجدان والمشاعر الطافحة في مخزون الذاكرة في محطات قطار العمر قرابة أربعة عقود ونصف، أي منذ زمن البعث الى يومنا هذا، في تداعياتها التعبيرية والفكرية، على ضفاف لغةجميلة تغري القارئ وتدفعه بتأثيراتها الحسية الى التأمل والتفكير، في أحداث مرت على العراق، ورسمته بالشكل الواقعي والفعلي في مسيرة السيرة الحياتية، في ازمنة ومنعطفات مختلفة من المجازفات. ان النسيج اللغوي يشير بتألق على القدرة في امتلاك ناصية اللغة وجمالها الحسي في الاختيار المفردات، التي لها صدى ورنين مؤثر. وهذه الرحلة الطويلة هي جزء من تاريخ العراق المضطرب، في استنزاف قدرة المواطن على تحمل الأعباء والمعاناة بسبب الإرهاب الفكري والسياسي، في وطن انحرف عن جادة الصواب الى الطريق الوعر بلا عودة، وانتهج سلوك نهج الذل والخنوع للمواطن حتى يخلق الخيبة والإحباط، لذلك أصبحت الحياة والانسان لعبة شطرنجية، على ايقاع التيه والضياع بلا انتظار، حين تجهمت الاجواء بالغبار والسموم (غبار مشبع بسواد الغربان حط فوق المدن / شددنا الرحلَ... حملنا ما تبقى لنا من ضلوع دون وداع، / تهشم الزمن وانسكب) ص210. حتى لم يتدارك العمر أن يلتقط أنفاسه. لم يعط فرصة تنفس الصعداء بدون رحمة. كأنه الحكم بالقصاص الصارم، ان يترك كل شيء حتى يسابق الزمن الوحشي قبل أن يطبق مخالبه المفزعة. يترك كل شيء. الماضي بالضياع. ويجهز نفسه في الرحيل. نحو الدروب المجهولة، طريقها الوعر مليء بالمخاطر والمجازفات، فما على السنونو سوى أن يحمل الوطن الجاحد في أعماق قلبه، ويذهب في منعطفات الزمان بما تحمله الاقدار اللاحقة. هذا صيغة النصوص الأدبية، في لغتها العميقة وما تحمل من صدق المشاعر التي اكتوت بنار تداعيات الواقع ومجرياته المنحرفة، التي داس بانتهاك صلف على القيمة الإنسانية مرغها في الوحل، ووجد نفسه في خضم العواصف المجازفات على مراحل مختلفة من الازمنة. هكذا سكب مخزون الذاكرة، يسرد الاحداث بضمير المتكلم. الذي وجد نفسه بين المطرقة والسندان بدون خيار ولا رجعة (لو قيل لي أمامك خياران... لاخترت الثالث! / عساي أرتب النسيان... واتعلم من دروس عثراتي! / اوضب أحلامي بصورة مغايرة... / وانتقي بداية آخرى لولادتي، كيفما أشتهي أنا... / لا بطلاً، ولا قرباناً، ولا ديكاً عاطلاً يبحث عن كومة قمامة يعتليها! / فقد أقوى في ليل البردِ على البرد... / يصفعني صوت كأنه أتٍ من بئر جف ماءه / × هيهات إنك تطلب المستحيل... قد فات الاوان) ص13. وليس هناك سوى السير في طريق المحنة بجروحها التي لا تندمل، في معايير الزمن المقلوب، ربما جرذ يخرب حاسوب المطارات الدولية، لكن هناك ايضاً جرذ آخر يحكم دولة، ويدعي أنه حارس البوابة الشرقية للامة، ويطلق العنان لشن الحروب الداخلية والخارجية، يطلق العنان للقبضة الحديدية والارهاب الوحشي. يطلق العنان للخراب والدمار وإراقة سفك الدماء وخنق الارواح حتى بالسلاح الكيمياوي (رحماك يا سائس الزمان، قد فاض بنا الصب، فيما تسرق من لحظات تنقضي... / لحيظات خاوية استطالت دهراً / واخرى مكتنزة، خطفت مثل شهاب... / ترى أين تخبئها، وماذا تفعل بها؟! / إن خبأتها في بئر، نشتري دلواً... / وان خبأتها في مغارة، سيدلنا عبق الذكرى... تحرقها؟ / نلم رمادها، نعجنه، نصيره ايقونة تسلينا في ما سيأتي) ص99. إنها رحلة أوديسة (نسبة الى أوديسا الاغريقي) من منبع الطفولة الى مراحل العمر الاخرى، في رحلة الشك واليقين، كمن يبحث عن شهادة حسن السلوك في الوقت الضائع، طالما الوطن انحدر وتدحرج الى الهاوية، حين غزته غربان الشؤم. وخرج من رحمها اللصوص والقتلة، واصبحت الحياة عبارة عن بهلوان سيرك (قم، أترك السيرك، فلا مكان لك بين مهرجانات البهلوان، وألعاب القفز على الرقاب / هذا السيرك تضحك فيه حفنة على بقية الناس، وترضى أن تروض أمة على الغباء والنفاق.. / بالتساوي، توزع الشعارات بين الناس... / قم، يا هذا، فلن يكفكف دمع السماء أحد.. / قم فما زال في باطن العراق حجارة لم يقذفها الزلزال بعد.. / أفق، أنهم يتحايلون على الذاكرة.. / يرمون لها عظمة تتلهى بها) ص126. فما عليه سوى لملمة نفسه على عجل قبل فوات الاوان، فالغربان الوحشية تتربص في السماء والأرض، وتحسب كل شاردة وواردة، ليس هناك وقت تداوي الجروح و البرابرة على الابواب (سلاماً أيها الارق... / سلاماً أيها الوسن.. / الغفو يقرؤكما السلام براية بيضاء، / - لا سبيل الى سلم بيننا ومن أي نوع كان!، فقد خلقنا أعداء وكفى! / تمنيت ذات وهم أن أصل معهما، لو الى هدنة.. / أقبل حتى بمؤقتة، كي استرجع واصل الى احلامي / الزمن يجرجر عربته المتهالكة بخيول شمطاء / غربتي تطيش بي، معول أخرق يصادر فرحتي، فلا يبقى لي سوى الوحشة) ص110. من مهازل القدر السخيف أن يكون العراق لعبة تتقاذفها أقدام البرابرة والتتار الجدد في غزواتهم ويلبسون العراق وبغداد ثوب الحداد والحزن، ويتفتت الاحبة والاهل والاصدقاء، وتتحول مرابع الطفولة والشباب الى أماكن غريبة وموحشة، ويلف الظلام بعباءته على البيوت (هذا الغول الذي حول الناس الى كائنات تلوذ بظلام زوايا البيوت، تتفنن في اجتراح الحيل - المعجزات. للافلات من الموت بأي ثمن؟! / نموت عطشاً! هل يصدق العالم أن بلاد الرافدين وبغداد، التي كانت أم الدنيا طراً - تموت عطشاً) ص72. تدحرجت كرة الثلج ووصلت الى الاحتلال، وينفجر السؤال بالرأس: ماذا يريد المحتل من الوطن؟. وكيف تدير قمامته التي جلبها معه أدارة شؤون الناس؟ ولكن العجب!! (العجيب، ليس في الاحتلال الاجنبي، وانما تقهرني تلك العقول السائدة، التي تدعو الى الامتثال المداح لما يفرض علينا من سكينة القهر... أن نكون طيبين، طيعين ومتحضرين! / أن نفسح المجال للمحتل وزبالته بالتربع على أقدارنا ومستقبلنا) ص142. إنه وجع الناي والذاكرة من بشاعة التي تمشي على الارض و تكبر وتتمدد (فاجع، باطل... ما نراه اليوم! / كنا نمسك بهدب الحلم، ونؤمل النفس ان ما فات قد ولى... / وما سيجيء، لابد ان يكون أحسن لكن هيهات والف هيهات) ص206. وهذا يستدعي أن نفزز السؤال بعلقمة المر: منْ يحمل لوثة العقوق، نحن أم الوطن؟

***

جمعة عبد الله

 

في المثقف اليوم