قراءات نقدية

أدب الشباب.. هل هو مفهوم مُضلٌّل؟

كثيرا ما نسمع بتصنيفات مثل: الأدب النسائي، أدب الطفل، أدب الشباب، الأدب السياسي، الأدب الإسلامي، الأدب الاشتراكي، الأدب الملتزم، أدب السجون، أدب المقاومة، الأدب العمالي، الأدب الصهيوني....

ومنشأ هذه التصنيفات جامعي مرتبط بالبحث الأكاديمي، وهو بالتالي عبارة عن مفاهيم إجرائية، تمليها طبيعة الموضوع وضرورة حصره وتحديده، لضبط دراسته أكاديميا، لكنها تحولت مع الزمن إلى مفاهيم ثابتة معيارية، يقاس بها الأدب، ويخضع في ضوئها للتمييز والتنميط.

وتصبح بعض هذه التصنيفات مضلِّلة، عندما تُغرَق في الإديولوجيا، إذ تبتعد كثيرا عن العلم والموضوعية، مثل الأدب النسائي وهو مفهوم تمييزي، ينطوي على خلفية ذكورية، ويكرس الميز بين نصفي المجتمع، فيمكن الحديث عن النسوية في الأدب سواء أكان رجاليا أو نسائيا، دون التمييز بين أدب للرجال وأدب للنساء، كذلك الشأن بالنسبة لما يسمى بالأدب الإسلامي، أو الأدب الاشتراكي، أو الأدب السياسي أو أدب الالتزام، وأدب الشباب... فهي مفاهيم إديولوجية مسجورة بكثير من الإبهام والالتباس.

أما أدب الطفل فهو الأدب المكتوب للأطفال، نظرا لخصوصية وحساسية مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان، وأهمية القراءة في هذا العمر من أجل تحري الدقة في الكتابة لبناء إنسان سوي، والحال أن كثيرا مما يكتب للطفل عندنا قد يكون مدمرا لنفسية الطفل وعائقا أمام نمو شخصيته وذكائه، محبطا مفرملا لجموح فكره وخياله الإبداعي، وفي الآداب الغربية يدمج أدب الطفل بأدب الناشئة في مفهوم واحد Littérature d'enfance et de jeunesse ويقصد به الأدب الموجه للأطفال والناشئة، ولذلك نفضل تسميته بأدب الطفل والناشئة.

فماذا يقصد الكُتاب والنقاد عندنا بأدب الشباب؟ ولماذا يميزونه عن أدب الطفل والناشئة؟ وإلى أي حد يمكن أن نعتبر مفهوم أدب الشباب علميا؟

ندرج مفهوم أدب الشباب ضمن التصنيفات المضلِّة، ولا نعتبره مفهوما علميا، فباستثناء مرحلة الطفولة (بين 0 و 16 سنة)، حيث التحديد العمري متحرك إلى سنوات العشرين في غالب الأحيان، فنسميه أدب الطفل والناشئة، إذ يهم مرحلة بناء الشخصية، فيُفرَدُ لها أدب خاص بها، باستثناء ذلك، لا نرى أن هناك أدب خاص بالشباب أو بالشيوخ أو بالنساء، فالأدب هو الأدب بعيدا عن معيارية التصنيفات، وليس في مفهوم أدب الشباب ما يستدعي استخدامه حتى في الدراسة الأكاديمية، نظرا لعدم دقته، ولانطوائه على ذهنية الحجر والوصاية.

يظهر الالتباس وغياب الدقة في إحالة المفهوم إلى مرحلة عمرية غير محددة تحديدا دقيقا، والأدب الناجح لا يرتبط بعمر معين، كما يشير إلى الجِدة والتجديد وروح الثورة والتمرد على الأفكار والقوانين الإبداعية السائدة، وفي نفس الآن يُلمِح هذا المفهوم إلى بداية دُربة الكتابة الأدبية والخطوات الأولى لتلمس طريق الإبداع، وهنا خلط كبير بين الشباب والناشئة، حيث عمليا يؤدي مفهوم "أدب الشباب" إلى إلحاق أدب هذه الفئة التي تمتد اليوم إلى ما بعد الخامسة والأربعين بدائرة النقص والقصور وعدم الأهلية الإبداعية، ما يعني حاجة الشباب إلى الحجر والوصاية.

 ذهنية الحجر والوصاية تتجلى في الكثير من المسلكيات السائدة في الوسط الأدبي والثقافي، يقف خلفها منظور استعلائي حيال الشباب، مستصغرٌ لقدراتهم الإبداعية، وهو في الحقيقة خوف دفين من الشباب الذي يمثل جيلا جديدا يحمل في أعماقه نزوعات جذرية، لو تبلورت في الأدب لزعزعت الكثير من قناعات ومسلمات المجتمع التقليدي القائم على الولاء لسلطة القبيلة وأعيانها وأطرها التنظيمية الممتدة في الحقل الثقافي في أرقى تمظهراته، حيث ذهنيات الشيخ والأتْباع والنقل ضد العقل وتكريس المقدس في الكتابة الأدبية من حيث هو تصورات وقوانين رثة للأدب، وعدم الاعتراف بالتّمَيُّز والاختلاف وممارسة التهميش والإقصاء، مع ضعف المنظور التنويري في الممارسة الأدبية، وطغيان نرجسية المبدع المنتفع من الوضع القائم ومن آليات إدارة الشأن الأدبي الرسمية والجمعوية، وتزايدِ خوفه من منافسة المتميزين خاصة منهم الشباب.

إننا نحتفظ بمفهوم أدب الطفل والناشئة وهو الأدب المكتوب من طرف المتخصصين من الكبار سنا لهذه الفئة، وهو أيضا ما يبدعه الأطفال والناشئة من نصوص أدبية قد تنبئ بنبوغ مبكر، ولكننا لا نجد مسوغا لقبول مفهوم "أدب الشباب"، بل يمكننا أن نزعم أن هذا المفهوم لا يعدو أن يكون صيغة مضلِّلة وضعها جيل من "شيوخ" الأدب ضد الشباب الصاعد، لوقف جموحهم الإبداعي ومنع تألقهم.

إن الأدب الجيد الناجح يكتب من طرف الشباب والكهول والشيوخ نساء ورجالا، والإبداع العميق المتطلع إلى الخلود هو الباقي وما عداه يُلقى إلى هاوية النسيان والإهمال، مهما كان عمر من كتبه، ولنا خير مثال في نماذج لا تعد ولا تحصى لا يزال أدبها خالدا وقد ولد في ريعان الشباب منهم على سبيل المثال لا الحصر طرفة بن العبد، الشابي، جبران، السياب، أحمد المجاطي، أمل دنقُل... وكم من الشباب المبدع اليوم يتألقون خارج الحدود فيما تُضرب عليهم عندنا أسوار الحجر والوصاية.

***

عبد القهار الحجاري

 

 

في المثقف اليوم