قراءات نقدية

الإسلاميَّات في صادق أو القَدَر لفولتير.. دراسة مقارنة (15)

ذكرنا في المقالات السابقة أنَّ قِصَّة "السندباد البحري" قد وُجِدت مُستقِلَّة أوَّل الأمر عن قصص "ألف ليلة وليلة".  وربما كانت هي أوَّل ما قرأه الفرنسيُّون من قصص الليالي.  وإذا كان (فولتير Voltaire، -1787) قد قرأ الليالي، فمن باب أُولَى أنَّه قد أَلَمَّ بتلك القِصَّة، ونالت منه اهتمامًا، قد يكون أكبر من اهتمامه بالقصص الأخرى.

وستَجِد آثارًا من ذلك الاهتمام، أو الاطِّلاع على الأقل، في قِصَّة (فولتير): "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée ".(1)  إذ يبدو (صادق)، الفتَى البابليُّ، شبيهًا إلى حدٍّ ما بـ"السندباد البحري"، الفتى البَصْري؛ فكلاهما يولد غنيًّا مرفَّهًا، يطمع في حياةٍ هانئةٍ سعيدة، ثمَّ تضطرُّه الظروف القَدَريَّة في فترةٍ من الفترات إلى الترحُّل.  وإذا كان (السندباد البحري) قد رحل سبع رحلات في البحر، فقد رحل صادق كذلك سبع رحلات في البرِّ: كانت الأُولى إلى (مِصْر)، والثانية إلى (بلاد العَرَب)، والثالثة إلى (البَصْرة)، والرابعة إلى (سرنديب)، والخامسة إلى (سوريَّة) و(الشام)، والسادسة إلى (بابل)، وفي السابعة خرجَ من (بابل) مغاضبًا، بعد أن زَيَّف السيِّد (إيتوباد) الحقيقة، وكاد يستولي على العرش، وهي الرِّحلة التي التقَى فيها بالناسك فانتقلا في طريق عودتهما إلى بابل من مكان إلى مكان، كما بُيِّن في مقالة سابقة.

ومثلما كان (السندباد البحري) مقدَّمًا عند المَلِك (مهرجان)، وقد نصَّبه مناصب مهمَّة في دولته(2)، فقد حدث كذلك مع (صادق)، في اتصالاته بالملوك.

وقد كان (السندباد البحري) يَصِف عادات البلدان التي ينزلها، كذِكره عادة تلك البلاد التي إذا مات أحد الزوجين دُفِن صاحبه معه، وكذلك ذِكر مَلِك (السُّودان)، إلى غير ذلك من عادات الشعوب وتقاليدها ودِياناتها.  ومثله فعل (صادق)؛ فقد وصفَ عادات بلاد العَرَب، ودِيانتها، وطريقة الحُكم فيها، وكذا في زيارته إلى (سرنديب).

وهناك شَبَهٌ كبيرٌ بين ما يَصِفه (السندباد البحري) من أنَّ أهل (جزيرة حَبِّ الفُلفُل) كانوا إذا مات الزوج أو الزوجة دُفِن الآخَر معه، وبين ما يزعمه (صادق) من أنَّ أهل جزيرة العَرَب كانوا إذا مات الزوج أحرقوا امرأته على أثره.(3)  إلَّا أنَّ الفرق بين النَّصَّين يتبدَّى من أنَّ موقف السندباد كان سلبيًّا جِدًّا حيال هذه العادة، بالرغم من أنَّه قد اكتوى بنارها هو نفسه؛ حيث إنَّه تزوَّج من تلك الجزيرة وماتت امرأته، وكانت هذه العادة المتوارثة تقضي بدفنه معها، مع أنَّه ليس من أهل الجزيرة.  فاكتفى بالعويل والصياح، وظلَّ في القبر حيًّا؛ لأنَّ القبر كان جُبًّا واسعًا يسمح بالحركة والأكل والشُّرب.  والأغرب أنَّه كان كلَّما أنزلوا ميتًا إلى ذاك القبر الجماعي ومعه آخَر حيٌّ، قتلَ الحيَّ وأخذَ زاده وشرابه الذي كان يُزَوَّد به.  وهذا يُضعِف تعاطف القارئ مع البطل، الذي تحوَّل إلى وحشٍ جبان، بلا مشاعِر، حتَّى مع الضحايا أمثاله.  وربما كان يتوقَّع القارئ، مثلًا، أن يتعاون السندباد مع الحيِّ الذي أُنزِل إليه، وبخاصَّة أنَّ أوَّل من أُنزِل إليه امرأةٌ، أُرغِمت على نزول القبر مع زوجها الميت، وهي تبكي وتصيح.  فجاء السندباد وقتلَها ليستولي على ما عندها من الطعام.  وهكذا كان يفعل مع بقيَّة من أُنزِلوا إليه، حتى استطاع أن يَنْقُبَ نَقبًا، أفضى به إلى مكانٍ بعيدٍ عن الأنظار، فهرب.(4)  أمَّا (صادق)، فكان موقفه أمام عادة تحريق النِّساء موقفًا إيجابيًّا نبيلًا، بَدْأً من التقرُّب إلى الأرملة (المُنَى) وإغرائها بالحياة وتنفيرها من هذا الغرور الأحمق، حتى إنها عرضت عليه الزواج بها أخيرًا. وانتهى الأمر إلى أنَّه أقنع التاجر العَرَبيَّ (سيتوك) بترك تلك العادة، بل انتهى الأمر إلى اقتلاع هذه العادة من جذورها في بلاد العَرَب، كما تحكي القِصَّة.  وفي هذا فارقٌ قيميٌّ حضاريٌّ بين الكاتبَين والثقافتَين اللتَين ينتمي إليهما النصَّان؛ فلئن تأثَّر (فولتير) بالليالي العربيَّة، فلقد أضاء فيها هاهنا بعض دياجيها البدائيَّة، ليتحوَّل النصُّ بين يدَيه من نصٍّ لا يرى في الحكاية أكثر من وظيفة الإمتاع والإدهاش إلى نصٍّ يحاول إلى ذلك أن يُضمِّن سرديَّته رسالةً إنسانيَّة، حول الاضطلاع بالمسؤوليَّة في الإصلاح والتغيير والتنوير.

وفي مقال الأسبوع المقبل نفصِّل القول في الملامح المشتركة والأساليب المتقابلة الأخرى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة".

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).

(2)  يُنظَر(1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)،4: 881.

(3)  وقد تقدَّم القول في مقال سابق: إنَّ هٰذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(4)  يُنظَر: ألف ليلة وليلة، 4: 897- 906. 

 

 

في المثقف اليوم