قراءات نقدية

الإسلاميَّات في صادق أو القَدَر لفولتير.. دراسة مقارنة (16)

يقف القارئ في قِصَّة "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، على بعض الملامح والأساليب التي تُذكِّر بحكايات "ألف ليلة وليلة"، وذلك من خلال ما يلي:

1-البناء النَّصِّي العام، الذي يبدو شبيهًا ببناء السَّرد في "ألف ليلة وليلة"، في قصصٍ قصيرةٍ متسلسلةٍ، تحت إطارٍ عام. وهذه القصص تعتمد على المغامرة والرِّحلة ومفاجآت الأحداث، وكأنَّ كلَّ فصلٍ في "صادق" ليلةٌ من ليالي (شهرزاد). ونتيجة لهذا فإنَّ البناء الدرامي المتماسك قد يَضعُف بين أجزاء الرواية الجامعة لتلك الأقاصيص؛ وذلك بسبب هذه السِّلسلة من الحكايات المتعاقبة والأحداث الفرعيَّة، التي يأتي فيها الاستطراد غالبًا، حتى تكاد تستقلُّ كلُّ واحدةٍ منها ببنائها الدراميِّ الخاص، لتُعطي معنًى أو حكمةً معيَّنةً داخل إطار الموضوع الذي هو القَدَر وصروفه. وإضافة إلى هذا فإنَّ نهايات رواية "صادق" هي نمط من أنماط النهايات في "ألف ليلة وليلة"؛ حيث تأتي لتُلخِّص الماضي بأسراره وأحداثه، على لسان إحدى الشخصيَّات أو أحد الأبطال، مثلما فعلت الحسناء (أستارتيه) في سرد ما حدث بعد أن غادر (صادقٌ) (بابلَ)، وكذلك فَعَلَ صادقٌ، فقصَّ لمحبوبته هذه ما قابل من صروف الشَّقاء والنأي.(1)

2- لغة السَّرد ونسيجه الأسلوبي يبدوان متشابهين بين قِصَّة (فولتير) وقصص (شهرزاد). ومن ملامح هذا- التي يمكن، حتى للقارئ العام، أن يلحظها- أنَّه كما كان (فولتير) يستعمل عبارات مثل "فوقع مغشيًّا عليه"، أو "فخرَّت مغشيًّا عليها"- ممَّا يُذكِّرنا بعبارات "ألف ليلة وليلة" المألوفة- كان يستخدم تعبيرًا، يكاد لا يغيب عن قِصَّةٍ من قصص (شهرزاد)، كأنْ يقول: "فلمَّا مَثُلَ (صادق) بين يدَي المَلِك والمَلِكَة قبَّل الأرض بين أيديهما". ونحو هذا من أساليب التعبير اللغويَّة والثقافيَّة.

3- بصرف النظر عن أسماء الأماكن أو الأشخاص، التي قد تكون مأخوذة عن قِصَّة (صادق) البابليَّة الأصليَّة، في معظمها على الأقل، فإنَّ هناك تشابهًا بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة" في تصوير بعض الشعوب، وفي النظرة إلى بعض الدِّيانات. من مثل صورة العَرَبيِّ، باهتماماته وأهوائه، وبخاصَّة صورة الأعرابي، الجشع الذي يقطع الطريق ويتاجر في الإماء والرقيق؛ لينال لذَّته من المأكل والمشرب والجسد. تلك الصورة التي نجدها في صورة قاطع الطريق (أربوجاد). فهذه الصورة الشوهاء عن الأعراب- أو من يُسمَّون بلُصوص العَرَب، أو قُطَّاع الطُّرق، أو الصعاليك- نجدها في "ألف ليلة وليلة"، في الأجزاء الأُولى منها. وهي قد تَشِي بأصل هذه (اللَّيالي) القصصيَّة، وأنها ممَّا نُقِل عن (الهند) أو (الفُرس)، أو غيرهم من غير العَرَب؛ من حيث تبدو غير بريئةٍ من المضامين الشُّعوبيَّة.

4- لم تكن صورة اليهوديِّ في "ألف ليلة وليلة" سيِّئة غالبًا إلى الحدِّ الذي بدت عليه في قِصَّة "صادق"(2)، وإنْ كانت بعض الليالي تصوِّر اليهوديَّ على ذلك النحو من السوء. في حين يصوِّر (فولتير) اليهوديَّ جشعًا، يُحِبُّ المال حُبًّا جَمًّا، ويماطل في قضاء الدَّين الذي كان عليه للتاجر العَرَبي. ولعلَّ العداوة التقليديَّة بين المسلم واليهودي- المعزوَّة إلى الصورة النمطيَّة التقليديَّة عن الأخير المتَّسمة بالغدر واللؤم- قد حُوِّلت في قِصَّة "صادق" إلى عداوةٍ عِرقيَّةٍ بين العَرَبيِّ واليهودي. ومن وجهٍ آخر، يمكن أن نرى أنَّ العداوة المصوَّرة بين النصرانيِّ والمسلم في "ألف ليلة وليلة"(3) قد جُعِلَت لدَى (فولتير) بين اليهوديِّ والعَرَبيِّ.(4)

5- تصوير بعض الشخصيَّات السرديَّة، مثل (القزم الأخرس)، الذي قام بدَوْر المساعد للحبيبَين (صادق وأستارتيه)، وكان المنقذ لهما من بطش المَلِك. فمِثل هذه الشخصيَّة يكثر ظهورها في "ألف ليلة وليلة"، وتقوم هناك بأدوار مشابهة. وكذا القولُ عن الحُدْب المذكورين في مملكة (سرنديب)، الذين قاموا بدَوْرٍ مناقض، هو الكيد لصادق والسعي لهلاكه.

6- تسجيل أسماء الأبطال في سجلِّ الكرماء، كما حدث لأولئك النُّـبَلاء الذين قاموا بأعمال إنسانيَّة كريمة في مملكة (بابل).(5) وهذا يُشبِه في الليالي العَرَبيَّة ما كان يأمر به المَلِك من تسجيل قِصَّة البطل، أو عمله النبيل الإنساني، بماء الذهب، ليُحفَظ ذلك في خزينته، فيكون عِبرة لمن يَعتبر.

بهذا يتَّضِح أنَّ اطِّلاع (فولتير) على حكايات "ألف ليلة وليلة"، المترجمة إلى الفرنسيَّة، قد أثمر عن هذه الآثار التي بدت ملامحها في قِصَّته "صادق أو القَدَر". ما يؤكِّد أنَّ علاقته بالليالي العَرَبيَّة كانت، في حميميَّتها، تتجاوز ما قيل حول علاقته الثقافيَّة العامَّة بالشَّرق.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

..................

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 105.

(2) بل صورة النصرانيِّ في اللَّيالي هي السلبيَّة. (تُنظَر، مثلًا: (اللَّيلة 345)، "حكاية (علي شار) مع (زمرد الجارية)": (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 644.

(3) ويُنظَر: القلماوي، سهير، (1959)، ألف ليلة وليلة، (القاهرة: دار المعارف)، 164، 169.

(4) وهذا البُعد العِرقي لم يكن له ظهورٌ يُذكَر في الثقافة الشَّرقيَّة قبل الجريمة الغربيَّة في القرن العشرين باصطناع العداء، ذي الصبغة التاريخيَّة الدِّينيَّة، بين العَرَب واليهود؛ بسبب اختراع دولة احتلالٍ صهيونيَّةٍ في (فلسطين)، تكفيرًا عن جرائم الغرب ضِدِّ اليهود من جهة، واستزراعًا لوكيلٍ بديلٍ للاستعمار في (الشرق الأوسط) من جهة أخرى، ومن ثَمَّ ضرب العصفورَين اليهوديِّ والعَرَبيِّ بحجرٍ عنصريٍّ غربيٍّ واحد!

(5) يُنظَر: فولتير، 38.

 

في المثقف اليوم