قراءات نقدية

سلطة الواقع في الخطاب الشذري الحديث

مجموعة" انثيالات عشق"نموذجا

إن فنّ الكتابة الشذرية ليملي على مبدعه الدرجات العالية من التركيز، وتكثيف المشاهد في أقل عدد ممكن من المفردات، وهو نزوع إنما يقود بالضرورة إلى اختزال التجربة إلى أقصى الحدود.

لذا نلفي هذا التوجه يمثل ديدن من يريدون الابتكار في المعنى واختصار الحيوات، فهم يقدّمون للمتلقي على نحو من الدقة والعمق، في الغالب، عصارة تقاطعات عوالم تنجذب ضمن فضاءاتها الذوات الطافحة بالمكابدات، إلى مثل هذا التعبير الوامض.

ثمة من هم على دربة ومراس في هذا المضمار، مثلما هنالك من يشكل هذا الخطاب الشذري في تجاربهم الباكورة أو الخطى الأولى، للإقناع والإمتاع.

فالتجربة التي بين أيدينا، تدل على ما فذلكنا له، إلى حدّ ما، والتي يقف صاحبها عند جملة من أغراض الخطاب الشذري، المبدع المغربي الشاب ياسين اليعكوبي، عبر منجزه" انثيالات عشق" مع إصراره الشديد على تشكيل حضوره الإبداعي الفني الذي تترجمه الومضة أو الشذرة.

قد يبدو من العتبة التي انتقاها لأول كتبه: انثيالات عشق، أن التيمة محمولة على روح الرومنسي، أو أن الذات حالمة، مترفّعة على واقعها، غير أن العكس هو الصحيح، فالفهم الصحيح للواقع لا يتم إلاّ داخل دهاليز تلكم الحلمية أو الهذناية القادرة على صناعة الجمال واستفزاز القارئ به، حدّ الإدهاش والصدمة.4945 انثيالات عشق

إن مثل هذا التقشف في اللغة والذي يسعف العبارة الخاطفة في سريانها، بحيث تعكسه صور الزهد في التفاصيل، لا يخلو من ملمح جمالي وإستطيقي يرعى الشعرية الحديثة، وينحت مضامينها، وفق القواعد المختمرة المنقوعة في اللاوعي، والتي تشد وتبهر، بل تصدم أثناء العملية التواصلية.

يقول الكاتب في إحدى المناسبات:

حتّى وإنْ كنتُ وسطَ حشدٍ مِن الناسِ، فإنَّني مِن دونِكِ وحيدٌ.

ويقول:

لا أستبعدُ إطلاقًا فكرةَ ذوبانِكِ في كوبِ قهوةٍ ساخن!

ويقول أيضا:

ولو أنَّ سيبويهِ رأى جمالَكِ، لوجدناه ينصبُ الفاعلَ ويرفعُ المفعولَ به، فما بالكِ بهذا العبدِ الضّعيفِ!

كما يقول:

عجِبتُ لأمرِ الصُّورِ الشعرية؛ كيف تصيرُ في حضرتِكِ حقيقةً!

ويقول:

حينما أخبرتُهم بأنَّني ظمآن، لم أكنْ –حينها - في حاجةٍ إلى الماءِ، بل كنتُ في حاجةٍ إليكِ!

يقول كذلك:

لا قبيلة بني هاشم، ولا قبيلة بني عبّاس، ولا حتى ليلى أحقُّ بالخلافةِ، وحدكِ الأحقُّ بذلك.

ختام القول أنه ومن خلال هذه المقتطفات، نستشف كيف أن الذات المبدعة في جنوحها للحظة الهاربة من جهة، وتباهيها بواقعية المشهد من جهة ثانية، تفتي بضرورة رفع المحبوبة فوق لائحة من المعطيات والمكونات والذوات العاقلة وغير العاقلة، ففي محطة يتم وضعها، أي المعشوقة، فوق التواجد الرمزي للمها، كما يتم السمو بها إلى الذروة في محطات أخرى، أي وضعها فوق حياة الشاعر وقصائده، ومن هنا، تتحقق الغائية من الفوضى البانية، وكيف أنها هنا في حالة ياسين اليعكوبي، تحاول تبرير أو بالأحرى تفسير لوذ هذا الكاتب بعوالم الشذرة واحتمائه بأقنعتها.

فحتّى سلطان النحاة سيبويه، لو رأى هذه المعشوقة المثلى إذا شئنا، لارتبك وهرطق في الكلام واختلّت قواعد اللغة عنده، دون هذا الحضور الاستطيقي القاهر، من قبل هذه التي يقول عنها اليعقوبي أنها ليست بامرأة، اقلّه في إدراكنا النمطي والمعتاد، كي يرعى بالنهاية قدسية الشذرة، ويحاول تكريس ثقافة هيمنتها عليه هو أولا، قبل إقناع وإمتاع المتلقي بها، ليس إغراقا في الضباية أو استغراقا للملتبس، إنما ذوبانا في تعشّق مكامن الجمال والذود عن رحابه.

يقول:

ما أكتبُهُ ليس غزلًا، ولم يكُنْ يومًا كذلك؛ لأنَّ الغزلَ -كما هو معروف - يُكتَبُ في حقِّ المرأةِ، أما أنا فأكتبُهُ في حقِّ حجرة!

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

في المثقف اليوم