قراءات نقدية

شعرية الليل في مجموعة: امرأة في وادي الفراشات

إن الليل بوصفه زمنا نسبيا للمحو، أو لتعطيل البصري، وكمقابل لذلك، تقديس المسموع، أو النبر الذي تمليه طبيعة التعاقب والتحول، فضلا عن كونه، أي الليل، محتوى يتيح لنا إفراغ كبتنا وعجزنا البشري فيه، مثلما أنه مقبرة للأسرار، نلفيه يُنْقَع في شتى قوالب الاستعارات وسياقات البلاغة، بمعية الشاعرة التونسية العامرية سعد الله، من خلال مجموعة "امرأة في وادي الفراشات" في طبعته الأولى عام 2020، منشورات دار زينب للنشر والتوزيع، تونس.

يأتي هذا الديوان بعد الباكورة" نقر على أوتار الحرف" سنة 2015، الذي كتب عنه الأديب ماجد الربيعي، فديوان" حنين إلى مرافئ الحلم" سنة 2017.

تشبّعت تجربة الشاعرة العامرية سعد الله، بتمذهبات مدارس مختلفة وتشرّبت عصارة شعريات متنوعة، فتأثرت بكل من الشابي شاعر الخضراء، ودرويش والسياب وسركون بولص و أنسي الحاج وغيرهم.. فانعكس ذلك على عموم منجزها، ولقد كتب عنها وتناول شعريتها كثيرون، فعلاوة عن الدكتور منصف الوهابي الذي قال عنها: هذه "فانة" الشعر التي لا تغلق أبدا.. الوجه الابداعي لتطاوين.. شاعرتان متميزتان: هدى الدغاري والعامرية سعد الله).

قارب الشاعر والناقد التونسي الهادي العثماني تجربتها من خلال دراسة عنونها: "نصوص البدايات الواعدة بين الذاتي والموضوعي" و الكاتب والد أنور غنيمي من خلال قراءة بعنوان" أساليب نقل القارئ على عوالم النص"، ومناولتين أبحرتا في عوالم ذات الديوان الذي بين أيدينا، وقّعهما كل من الكاتب علاء حمد تحت عنوان" تكسير المتناهي في شعر العامرية سعد الله" والأديب احميدة الصولي" من مظاهر الانحراف الأسلوبي في دوان امرأة في وادي الفراشات".

هي كتابة المحو، عبر تقمُّص العديد من دلالات التّمحور على الهش والقابل للكسر، على نحو يفيده ويغذيه الأنثوي، مع حمل هذا المكون أو العنصر الفيزيائي على روح المُطلق، بما يمكِّنُ لصوت المرأة، محاولا منحها السلطة على سائر ما يُشكّل لها فروعا وامتدادات، باعتبارها الأصل والمركز على الدوام، تبعا لعوالم متوازية أو متقاطعة.

تتحلى الشاعرة بحضور إبداعي أفقي، يُغدق على النص من عتبات ومضامين النَّرجسي، ما يخوّل لها البصمة الخاصة، ويميّزها بين أسماء وازنة لها ضلوعها في الشعرية العربية الحديثة سواء داخل تونس أو خارجها.

أحيانا تتمّ قراءة المنجز الأدبي من عنوانه، لكن بين صفحات هذه المجموعة المائزة، يختلف الأمر تماما، وإن أحالت عتبته على جملة من التأويلات التي قد تترجمها أسلوبية التَّشْفِير، وتبْسط خرائطيتها لعبة الأقنعة، بيد أننا إزاء هذا العمل على انسيابتيه وبساطة معماريته وعمق ثيماته، نتذوّق إبداع المزج بين طوباوية النص وواقعية المناولة، ضمن إيقاعات الأنثوي المتشبّع بفلكلورية مشوِّقة تنصاع لها إشراقات وتجليات توليفة من الدوال، وكيف أنها توقّع فسيفساء بهذه الخلطة التي تتناغم داخل حدودها معطيات الجندرية والانتماء على حدّ سواء.

تقول:

{فارغٌ

من كلِّ بريقٍ

يُطفئُ فجرَه

ويلبسُ رداء ليله ...

ويمتصُّ بريقَ شهوةٍ

غافيةٍ في طينهِ،

يسْطو على رداءٍ متروكٍ

في بئْرٍ، لا تَرِدهُ دلاءٌ...

يقطعُ عراجينَ أملٍ

تلك المتسرِّبة منْ بين أنامِلهِ

دماءً...}[1].

ربط المقدّس النهار بالبصر، فيما الليل بالمحو، فأثنى على ناشئة الليل.

من هنا ندرك قيمة هذا المكون الفيزيائي، وقيمة الإبداع المنجذب إلى طقوسياته وعوالمه.

كتابة شاعرتنا كتابة محو، من الملفت ما تفجّرُ من صور انتهاكها للجسد مرورا بفخاخ غواياته وطوباويته، إلى واقع الدم، كيف لا؟ وهي ابنة أولى الثورات في عالمنا العربي المخزي بهزائمه وجبروت زعمائه وانتكاساته وتكالب الأعادي على مصالحه وثرواته.

نطالع للشاعرة أيضا، قولها:

{خلف النافذةِ العاريةِ

تمّحي التفاصيلُ

لا شاطئ للفراشات

الفراشات ... التي

نسيتُ ألوانها

على حافة

البروق الضوئية.

لا شاطئ للفراشات

غير خرائطِ الموت

تتفتّح زهورها}[2].

إنها مقاربة أخرى، متمردة على أنساق الكلاسيكي والمُتجاوز، تعرّي صفحات الموت في منعطف تاريخي حاد، كأنما يد مجهولة تحاول إعادة ترتيب مثل هذه الفوضى التي راحت تأكل الخارطة العربية .

كتابة المحو هذه، والموغلة في فصول الأنثوي، وعدل ما هي مسكونة بروح الانتماء، تقلّب هذه الصفحات بروية، وتغضّب خفيض، مشدودة إلى دهشة السؤال، ودوخة الكتابة، وأزمة الهوية، واستفحال الظاهرة.

تقول كذلك:

{لا ملجأ ... لا مخرجَ

لا نجمة ... تفكّ أسر الليل

لا جناحيْن لي

فاعِرني مئزَرك...

الجليدُ دثاري،

أعرني عينيك... أصلِ

صلاة القيامة

أعرني سفينك...

أزفَ الطوفانُ... ولا مرافئَ

لوجهي،

كل المدن تشظّتْ..

مدنٌ صامتةٌ

مدنٌ ميتةٌ

مدنٌ بلا عنوان...}[3].

هي نغمة تكابد اختناقها، تسري على غير هدى، وعلى نحو من التخبّط والعشوائية، مع تيارات اتهام عالم اغتال كباره عناوين الهشاشة والنضارة والنبل والجمال، لصالح أنانيات الساسة، والسقم الأيديولوجي المولّد لمزيد من الاضطهاد والسادية والقمع والتعصّب والإقصاء.

مثلما نقرأ لها:

{كان لا بد أن تخلع الغبار عن وجهك، وتبدو ناصع الخوف حتّى لا تنهشك الأفكار المتربّعة على عرش القصيدة...

عليك أن تقشّرها واحدة ... واحدة، وترميها في فوّهة البركان وتصطاد صورة تليق بوجهك الجديد، تعلّقها على صدر غيمةٍ حالمةٍ.}[4].

تلكم كتابة المحو، تبصمها الأنامل الحالمة، بما يجلو الغبار، ويؤجج خجل الأجيال أمام مرايا شوهها عالم جشع الاقتصاد، بخبث زعمائه، فكان أن عمّ الخراب وتنوعت الحروب وانبجست شلالات الدماء.

كتابة بحث عن ملامح البراءة، بنبر الأنثوي الذي لا يُساوَم في هشاشته وقابليته للكسر، بقدر ما يرفل في رداء صعلكته النبيلة، وخفيض ثوراته، ترعاه صور إبداع الليل، وهو يقول: نعم لكتابة المحو التي تزرع مدّ خيبات الكائن، ألوانا للحياة، وإنصافا للنوراني والمعطّل والمنوَّم فيه.

ختاما نورد بعض ما جاء في غلاف هذه المجموعة الجميلة والمتبّلة بمحطات تشاكل الهوياتي والجندري، كما أسلفنا، من كلمة للدكتور منصف الوهابي:

لعل أظهر ما يغلب على " امرأة في وادي الفراشات " للعامرية سعد الله الإحساس بسيولة الزمان والمكان: الزمان من حيث هو مكان سائل، والزمان من حيث هو زمان متجمّد، بعبارة ابن عربي.وفي هذا النوع من شعرية النثر أو " قصيدة النثر " يخترق الماضي الحاضر...

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

.......................

هامش:

[1] مقتطف من نص" على ضفًّة رداءٍ متروك"، صفحة 14.

[2] نص "من حكايات الفراشات الضوئية "، صفحة45.

[3] نص "قيامة على قارعة الطريق"، صفحة60.

[4] مقتطف من نص" معالم خاوية لامرأة من وادي الفراشات "، صفحة118.

 

في المثقف اليوم