قراءات نقدية

الاتجاه الواقعي في مسافة أمان.. مجموعة قصصية للكاتبة هند خضر

يهتم الأدب الواقعي بالتعبير عن هموم المجتمع وقضاياه المتنوعة. وتكمن مهمة الواقعية بمحاكاة الحياة اليومية ورصد مظاهرها الإجتماعية.وتعتبر القصة القصيرة أكثر الفنون الأدبية مرونة وتجريبا للتعبير عن تجارب الواقع. ويجب أن تكون القصة الواقعية ذات بناء محكم ومترابطة الشكل كما يجب أن تكون مكثفة ومركزة. أما بالنسبة للحدث والموقف فمنتزع من العالم الإنساني.والشخصية يجب أن تكون مستوحاة من أشخاص واقعيين.وإذا تحدثنا عن الحوار فيجب أن يكون نشيطا ومؤثرا في نفس المتلقي.

وقد سعت هند خضر بقدر طاقتها الإبداعية أن تنظر إلى المجتمع بشمولية تامة في مجموعتها (مسافة أمان). حيث تناولت قضايا طبقاته وأظهرت رأيها في ما يعترض المجتمع من ظواهر ومشكلات مثل ظاهرة الحب، الثراء، الفقر، قضايا المرأة، الحياة، الموت، الفساد والطفولة وغيرها.ومن هنا نستطيع القول بأن مسافة أمان تنتمي إلى الواقعية الشمولية.

ففي القصة الموسومة ب روح الحياة نجد واقعية الحدث تتمحور حول حادثة واحدة وهي الطفل مجد الذي افترش الرصيف وهمَّ بتناول قطعة من البسكويت ذات وقت مسائي وموقف البطل منه، وقد جاء في مشهد واحد صورته لنا هند خضر. وفي عنصر الشخصية ركزت الكاتبة على البطل فوصفته بعدة أوصاف في ثنايا القصة (إنها عين ذاك الملاك البريء الذي ألقت به الأيام على رصيف منسي) (ولكن انفصال والديه عن بعضهما أوصله إلى ما هو عليه الآن) (بشرته سمراء لفحتها حرارة الشمس دون رحمة) (على يديه تبدو آثار بقع سوداء نتيجة عمله في مكان لتصليح الدراجات النارية).وقد أسهمت هذه الأوصاف في تقديم البطل والتعريف به، وبيان علامات القهر الاجتماعي البارزة عليه في واقع مأساوي سببه انفصال أبويه وانتماءه إلى طبقة مسحوقة .كما تضمنت القصة على إيحاءات بطبيعة الوضعية النفسية لمجد المحروم من الدراسة مثل بقية أقرانه (يفترض أن يكون مثل غيره أبناء جيله يحمل حقيبة ويذهب إلى مدرسته ليتعلم القراءة والكتابة). وهنا تكمن المفارقة السردية التي تصنع ذلك التوتر المكاني التاتج عن صراع وتقابل ثنائي بين عالمين المدرسة والشارع، جسدته الكاتبة في قالب قصصي جمالي يعكس مجموعة من الأبعاد الإنسانية التي تتجلى في هذا الأفق التخييلي.

كما كان للشخصية الهامشية حضورا تمثل في رب العمل وأم مجد (مجد: أنتظر ربّ العمل ريثما يأتي ليأخذني إلى منزلي حيث أسكن مع أمي).

وفي القصة الموسومة بمقهى العشاق استخدمت الكاتبة لغة الحوار كعنصر مهم من عناصر بنائيتها وقد تبنت لغة حالمة عارية من الزوائد كي لا تصرف المتلقي عن هدفها الذي أرادت إيصاله من خلال طرحها لقضية متداولة وشائكة تخص معاناة المرأة، ذلك المخلوق الضعيف الخاضع للسلطة الأبوية التي تحرمها من حريتها. ويتضح هذا خلال ما جاء على لسان البطلة سهى لحبيبها ماجد (لقد تقدم لخطبتي ابن عمي، أعطاه والدي الموافقة وأرغمني على الأمر تحت ذريعة الأعراف والتقاليد من دون أن يأبه لمشاعري). فهذه العبارة على لسان سهى تعكس ما تتلقاه المرأة من تهميش وتقييد لحريتها بإجبارها على الزواج. ونجد هنا بأن الكاتبة سعت من خلال الحوار منح المتلقي متعة الاقتراب من نفس الشخصيات وكشف منطقها فبرزت تجليات الاتجاه الواقعي.

وفي القصة الموسومة ب ولادة جديدة تطرح هند خضر وضعية المرأة وواقعها المؤلم الذي تعيشه في ظل سلطة الرجل وقوانينه التي تخضع للتعنيف والترهيب من خلال البطلة رهف التي تتعرض لأبشع أنواع العنف الجسدي والنفسي من قبل زوجها، لكن الكاتبة والتي يتضح بأنها تقف إلى جانب المرأة الضعيفة تنتصر لبطلتها بشكل خاص وللمرأة بشكل عام من خلال رفض رهف أن تظل ضحية لرجل متخلف بقرارها الانفصال عنه وانتزاع حريتها (أمسكت طفلتها بيدها مغادرة بيت أشبه بالسجن بعد أن تركت له ورقة كتبت عليها: أنا لن أعود إليك). ويتجلى الواقعي في حدث هذه القصة بأن المتلقي يجده يقترب من منابع الحياة في اضطرابها وجريانها بسبب انهيار صرح التعايش الأسري.

وكما كان للمرأة نصيب في قصص هند خضر كان للرجل نصيب آخر، ذلك الرجل المحب في القصة الموسومة ب لذعات الغرام الذي ينتمي إلى طبقة الفقراء ويبتلى بحب غادة ابنة الأسرة الغنية. ها هو يفتدي حبيبته التي تصاب بالفشل الكلوي حتى بعد رفض الأهل خطبته من ابنتهم بحياته.

ومن هنا يتضح لنا أن الكاتبة استقت موضوعاتها من حياة الناس على اختلاف طبقاتهم الإجتماعية فاهتمت بالطبقات الفقيرة المسحوقة وطرحت في أكثر من قصة حياة البؤس والحرمان وأظهرت المفارقات بينها وبين الطبقة الثرية المتخمة. فكانت المجموعة بمثابة مرآة عاكسة للواقع الذي تعيش فيه الكاتبة وقد نجحت في تصويره ونقله كما هو.بقي أن نقول بأن أسلوب هند خضر تميز بالنزوع إلى البساطة والميل إلى الإيجاز والتركيز والاقتصاد في الوصف فجاءت القصة سهلة ومعبرة عن جوها الذي وقعت به وخصوصا تلك التي حملت قضايا. لكننا نجدها في قصص أخرى قد اعتمدت على الرمز والإيحاء وتيار الوعي لذلك جاءت تجربتها عميقة وذات رؤية مكثفة أرادت التعبير عنها بحيث لا تسلم نفسها للمتلقي منذ القراءة الأولى، فتبدو له مكتنزة بالكثير من المعاني والإيحاءات.

***

قراءة: بديعة النعيمي

في المثقف اليوم