قراءات نقدية

قراءة في ديوان (مساقط الظل) للشاعر نصير الشيخ

الأيقونة الشعرية تؤول في تشكيلات حسية الحلم والظل

توطئة: تمثل الأجزاء الأولى من إيحاءات ورؤى وانطباعات مشروعية القصيدة في ديوان (مساقط الظل) للشاعر الصديق نصير الشيخ، ضمن متواليات منظورة ومتناظرة في عمق تشعبات وتمفصلات (خطاب القصيدة الظلية) أو ما يسمى بقصيدة التوقيعات ذات النزعة الخاصة من الحيوية البلاغية والحافزية الدلالية الموظفة باعتبارات محتملات استيهامية تتولدها أوجه مراوية من لعبة الدلالة المزدوجة في آليات ومكونات الخطاب الشعري المكثف في أفضية تجربة نصوص هذه المختارات الشعرية المؤتلفة.

ـ قصيدة التشكل المقطعي والبنية الفاصلة:

ما يمنح شعرية ديوان (مساقط الظل) ذلك التوجه الاستعاري في تمظهرات أوجه من المحتمل الدلالي، هو ذلك الوازع التأثيري المصاحب بين الملفوظ النصي وحدود شكله المقطعي المرقم أعلاه. وربما إن طبيعة فضاء (قصيدة الظل) كحركة أكثر صدورا بالعلاقة البنائية الفاصلة بين بنية وأخرى، هي ما جعل من خيوط الشد الخطابي أكثر جاذبية ومحورية للعملية الأسلوبية الواردة في محصلات المساحة الشعرية الفاعلة في حراك دوال القصيدة. نتابع مثالا ما جاءت به قصيدة (لذائذ الورد) من وحدات متتابعة، إذ لا تفصلها سوى الأحياز الرقمية الإعدادية وصفة زمنية البياض الفضائي:

ــ 1 ــ

أيتها اللذة

أسحبي بساطكِ

من عروقي. /ص7

ونحن نعاين صفة المخاطب بدءا في تصديرات الجملة الشعرية الأولى من النص، إذ تساورنا من خلالها تصويرية الغواية التركيبية في جملة (أيتها اللذة) وإذا عاينا الجملة ذاتها في مساحة خطابها، لوجدناها قابلية تختزل لذاتها جملة انطباعات آنية من ذات العنونة المركزية (لذائذ الورد)، ذلك لأجل اختزال مستوى محدد من التمثيل في إطار جهة المخاطبة (أيتها اللذة: سكونية الملفوظ ـ أثرا على وظيفة مكونة) فإذا تابعنا ما يوافيها لاحقا من جملة (اسحبي بساطك) لوجدنا أن حالة الجملة جاءت على حدود علاقة غائية، ولو بصورة جزئية ومفصولة عن مسار حدوثها المحتمل من المعنى. ولكن المشهد الشعري بأحواله النواتية بدا لنا مسارا معلوما، ليس بكيفية اكتمال الجمل والأسطر، بل بما يتعلق بالبنى والروابط الماثلة في مستوى اللغة كوظائف إشارية ووصفية وإرسالية (مرسل ـ مرسل إليه / مشار ـ مشار إليه) ومن هنا أي من حدود جملة (من عروقي) نستدرك غائية الاعتبار المسند إلى جهة (الذات ـ كقصدية جهاتية) وتحولاتها في الشطر القادم من المشهد:

ـ 2 ـ

أيتها الحكمة..

امنحينا خيمةً

وسطَ صحراءِ السؤال.. ؟. /ص7

نحن هنا أيضا إزاء بنية خاصة في التشكيل الخطابي الذي تشتغل مؤدياته عبر سياق خاصية الجملة الاستفهامية أخيرا (أيتها الحكمة: موقع تعقلي / أمنحينا خيمة: وضع سيميائي قيد الإيحاء / وسط صحراء السؤال: الإحالة الاستعارية في علاقة معادلة) وهكذا بدت الصور الشعرية كمحكى قصدي ينسج في ملفوظه مساحات متعاقبة من الاستطراد والملامح العلائقية الواقعة بين أفعال وظواهر الدليل المضمر في مشخصات المعنى.

ـ رؤى بزوايا التشكيل ووظائف ملاذات الحلم والمرايا:

وضمن الدائرة الحوارية المنسابة شعرا تنكتب أشكال ومضامين من خيارات الذات الواصفة، ومن خلال لغة تتقصد لذاتها مرادات (القيمة التشكيلية شكلا) خلوصا مقرونا بالأبعاد التلفظية وأنفاسها المعلقة في أحوال ومداليل (الظل ـ المرايا) بحثا في نتائج تراكمات الصور والأحوال الذاتية، وهي تتلمس طريقها بالحضور المتخيل في سياقات الدوال الشعرية. نقرأ ما حلت به وظائف قصيدة (مساقط الظل) من زمن غيابات ونهايات المدن العابرة في أوجه خاصة من الاغتراب والاغترابي:

لافجاجاتِ الحلمِ

ولا نهاياتِ المدنِ

عابرةً لممركَ السري..

لافضاءاتِ الغربةِ،

وهي تستكينُ من طرادها المستديمِ.. /ص11

إن الحديث عن مؤولات الصورة الشعرية، ليس بالأمر اليسير، خاصة عندما تلحقها مصاحبات قادمة من مداخل جمالية نابعة من المعارف التشكيلية أو المحصلة الإطارية من متاهة الدوال الحلمية في فضاء القصيدة. لذا فإننا عندما نقرأ (لا فجاجات الحلم.. ولا نهايات المدن.. عابرة لممرك السري) إذ تباغتنا بصورة فورية ما يكنه المعنى العلامي والمرتبط، عبر قيمة محمولة من ملازمات خلفيات عالم اللوحة التشكيلية، حيث حياة المحاور الصفاتية والوصفية والموصوفة تبدو وكأنها منظورات قادمة من فضاء تشابك الخطوط والجهات والتعرجات الجمالية في مكامن المفهوم التكويني الموظف في أيقونة الصورة الشعرية. وتبعا لهذا نجد إن مجمل أسانيد الدوال في مراحل البوح المتخيل، تحمل في طياتها قواسم وكيفيات وتعابير أثار تقترب من (حلم ــ رؤية ــ تأويل) وعندما نقوم بتلفظ المزيد من الجمل كحال (فجاجات الحلم ــ نهايات المدن ــ ممرك السري) ترانا نستحضر العلاقة الحاصلة بين (اللغة ــ الصورة ــ الحلم) كما أن أمر الكشف عنها كفاعلية في مرحلة التماثل مع الأنواع الأخرى من خطابات الفنون، لا تعفنا من التعامل وإياها كمحمولات شعرية في مكونات قصيدة لذا يلزم علينا تحديد أوليات الأصل في وظيفة النص كمستويات علاقة لغة وصورة وتساؤلات وتوالد حلمي مع جملة خيالات مراوية في عوالم قصيدة المرايا.

1ــ وحدات الدال ومجال فعله:

من البين إن قناة اشتغالية الدال في مسار الملفوظ عبر بنية النص، ذا مهام غير متجلية أحوالية من جهة ما، والأمر الآخر يتعلق بفعالية مجاله الموضوعي في النص، كحالة أو حالات تنتمي إلى صلب رؤية الشاعر الضمنية في إقرارها الدلالي. أقول إن قصيدة الشاعر محفوفة بتشكلاتها اللغوية، وهذا الأمر ما جعلها تبدو في وظيفة الدال كحالة مرسلة إلى جهة إمكانية متشكلة كقول النص في هذه الأسطر: (لا كفضاءات الغربة، وهي تستكين من طرادها المستديم) طبعا إن ظروف قدوم هذه الجمل تتابعا من خلفية (ولا نهايات المدن، عابرة لممرك السري) فعبر هذا وذاك يلاحظ القارىء أن ما يقع بين هذه الجمل، ما لا يشكل معرفا بدوره بالموضوع الذي تنحدر منه بدايات النص ولا من جهة توافر واصلات دلالية بطريقة ما، ما جعل الأجزاء العلوية من النص وكأنها لا تنتمي إلى الأسطر المعروضة قاب قوسين. هذا بدوره ما يعكس حقيقة أن أوجه واصلات الملفوظ لا تبرز في دائرة التمثيلات المباشرة من القول، بقدر ما يجعلها كإضافات محمومة بالاطراد والتوزع دون توافر حلقة الإيصال الفعلي بما يحيط المرسل الشعري من دلالات رابطة، ولو بمقدار جهد الاحصاء. أما لو تعاملنا من ناحية كون لغة الشاعر متكاثرة في محاورها ومستفيضة في بواعثها، فذلك دليلا راجحا على أن أسلوب التعاقب ما بين المفردات كان له مجالية خاصة من مؤشرات الأفعال والرسم بالحروف وبالامتداد الضمني المستكين. وفي مثل هذا الحال يمكننا الجزم بأن آليات السياق لها طاقتها ومحفوفيتها في رؤية الشاعر المتعددة، كما جاءت به هذه الجمل من مظاهر ضمنية من الكشف والمحسوس اللاظاهري:

أفول ٌ

أقمارك السبعة على ورقٍ لا يجفُ،

وبياضٌ هذيانكَ

كخيوطِ دخانٍ في علبةِ صمتْ... !! / ص12

لا شك في أن عاملية المشار إليه (الآخر) هو ما تسمح به الأبنية الاستعارية، وإقامة التوارد والتشكل معه توصيفا، لذا يمكننا تأشير مستوى الغياب بالارتباط مع جملة السابق (تؤبن فيك الهبوط) وعلى هذا النحو حلت لفظة (أفول) تدليلا إلى أقيسة العلاقات الغيابية في (أقمارك السبعة على ورق لا يجف) وجملة (وبياض هذيانك) وغيرها كجملة اللاحق بوصفها الوحدة المستعارة نحو مسارية تعجبية في التوزع والمفترض والنتيجة.

ــ جهات القرائن وإحالات السياق التشكيلي:

أظهرت تجربة ديوان (مساقط الظل) مدى علاقة التوافق بين دلالات القرائن وسياق وشكل الوظيفة الإحالية التي من شأنها تحفيز علامات الاتصال في حركة وشواغل دال المركز (الغياب: ودائع ــ تركات: توليد انقطاعي) وهذا المنحى هو الأكثر إحداثا في سيرورة (القرائن = إحالة = دليل) وقد تضمنت دلالات وعوامل قصيدة (ودائع) ذلك المعنى الموزع بين مؤشرات مكانية وبؤرة زمنية تداركها الخذلان والأفول والاحباط المعنوي في ملامح ووجوه الجنود العائدون من الحرب:

شرفاتٌ معلقةٌ بلا وردٍ

طرقاتٌ مغبرةٌ وإنكساراتُ ظمأْ

صبرٌ موزعٌ على الأسيجةِ،

بلا دفوفٍ أو أكاليلِ رمادٍ... عادوا. / ص18

تتحدد علاقة الجنود القادمون في حركة مساحات جدبة و متوترة، تعكسها أفياء القرائن التفاعلية: (بلا ورد.. طرقات مغبرة.. انكسارات.. ظمأ.. بلا دفوف) إن المراد من وراء هذه المؤشرات الدلالية، هو ذلك الوضع الاخفاقي السائر على ملامح عودة الجنود وأسرار خيبتهم المتصلة ومجال دلالة (أكاليل رماد) وتتعاقب وحدات القرائن الاستعارية في شحوبها المتمحور على هيولة أوليات الأشياء والحالات والمواقف المتصاعدة في خطوط مأساوية ـ ميلودرامية (عادوا.. يخبهم قيظ مرير) أو جملة (يختفي بجيوبهم صنوبر الظلمة) لقد تأسست المقاطع الشعرية في حدود من أوجه القرائن الأحوالية العاكسة لحيوات مرايا الموضوعة الشعرية إذ تبدو القصيدة وكأنها مرثية حول ذلك العرس الدموي المتعاضد بين ذوات الجنود ومظاهر حالات الإيحاء في وجوه المدينة:

ترابُ السرُفاتِ يملأ حنجرةَ المدى،

النهرُ أضيقُ من وساوسهم،. /ص18

هكذا تتسع أشداق بانوراما التوليد الشعري لدى الشاعر، لتلتقط أحوالها السرية عبر معوقات خاصة، ظاهرها آفات الحرب، وباطنها عبرات مكتومة تنم عن ويلات وتراشح مشاعر الهلاك في صدور الجنود، هذه القصيدة على حد تقديري كقارىء، تحمل أوجاعا خاصة ومخصوصة لا يشعر بها سوى ـ جنديا شاعرا ـ أو رساما يمتلك أقصى دقائق الحسية الصورية في أبعاد شعرية هذه المشاهد المؤلمة.

ـ شعرية رؤى القصيدة وآليات تشكيل الشعر:

كما قلنا سابقا في أحدى فروع قراءتنا المبحثية هذه، بأن المبدع نصير الشيخ من أبرز الشعراء الذين يتعاملون مع أدوات الذائقة الشعرية بموجب معالجات متصلة وفاعلية وإمكانية خطاب اللوحة وجمالياتها الذوقية والتوصيفية، لذا فنحن مع نصوص تتشكل بمحاور وتعابير فضاءات القيمة التشكيلية في الفن الخطابي الشعري، وذلك عبر ماهية أفكار الصورة المجعولة والملتزمة في غمار اشتغالاتها بالمستويات الأكثر تصورا وتصويرا وتشكلا وكفاءة. نطالع ما جاءت به قصيدة (أضيئي يا سنوات العتمة):

بلا زادٍ وموسيقى،،

أعمى الكمانِ،

يلوذُ بالوردِ بلا أشواقهِ المتشابكة

يزحفُ كالعشبِ كليلِ العاصفة

يتقشفُ الليلكُ من أسرارهِ. /ص21

وينطوي هذا المدى من الرؤية في مغامرة الشكل الأكثر توغلا في معالم (الصورة ـ مكامن الرؤية ـ كفاءة الفاعل الدال) وبمعنى ما نقول أن الشاعر يود أن يقدم نموذجه الشعري عبر مساحة محفوفة بالتوقد والعنفوان التصويري، ذلك تبعا للعنونة المركزية النواتية (أضيئي يا سنوات العتمة) حيث يتعامد الدال الشعري في وضعية الفقدان (بلا زاد وموسيقى) تحديدا كيفيا عبر جملة اللاحق (أعمى الكمان) الذي راح يستعين بمجلى مسار التوليد عبر جملة (يلوذ بالورد بلا أشواقه المتشابكة) فهنا إذا حالة مفقودة في كينونة الدال الذي راح يستأنف كشوفاته عبر جملة (يزحف كالعشب ــ كليل العاصفة) وما يديم خيبة التوقع هو ذلك الحد من الاستدلال في كونه (يتقشف الليلك من أسراره ) وعلى هذا النحو يحق لنا التساؤل حول أساس هذا البعد من القول الشعري: فهل من يحدد تجليات الكتابة لدى الشاعر النص أم اللوحة؟ إذا افترضنا بأن النص هو الأول والأخير في مشاغل هوية الرؤية الشعرية للملفوظ، فلا أتصور من جهتي أن القصيدة حمالة لكل هذه الأوجه من الرسم والصورية، دون الاستعانة بوسائل بلاغية أكثر اقتدارا؟ ولكن من الواضح أن الشاعر كان منقادا من أفق الصورة وحجم زمنها الأيقوني المبثوث على فكرة اللوحة، وليس من تمفصلات مقادير التصوير المشهدي في النص، ذلك لأن اللغة في المتن النصي، بدت وكأنها تلك الأبعاد الثبوتية في مساحة بوح اللوحة وليس اقتصارا على حركية أفعال الرؤية الشعرية. ولكننا مع ذلك نرحب بهذه التقانة الجميلة من لدن الشاعر الذي هو أيضا له الباع الطويل في منطقة التذوق الفني، ما جعله شاعرا حاذقا في رسم عوالم اللوحة الشعرية في مجمل أبعادها المؤثرة:

بلا زادٍ وموسيقى

خفياً يستردُ غناءهُ

ويحبسُ بالراحاتِ أوردةَ الطبيعةِ،

يقطرُ الرمانُ من أحزانهِ،

... واقفٌ يلكأُ أغصان التوجسِ،

من ساقِ سنبلةٍ بقرني الفجيعةِ،. /ص25

ــ تعليق القراءة:

هكذا وجدنا مجمل الأجزاء الأحوالية في دلالات قصائد ديوان (مساقط الظل) كمعادلات بوحية ذات مؤثرات معالجة مبعثها فضاء اللوحة التشكيلية التي استأثرها الشاعر بخطوط المشهد الذاتي وتفاصيل وخلفيات أخرى من حضور الموضوعة الشعرية المعاينة لأشد مؤشرات بؤرة المسكوت عنه الذي غدا تشعيرا في الانموذج الشعري ذاته وعبر حالاته التي لا تغادر أفياء شجرة الشعر وخطابه المحفوف بأسمى الاشارات والعلامات المكتنزة والمتمكنة في حالات ذائقة المقروء الشعري.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم