قراءات نقدية

رحلة الواقع والخيال في مجموعة (هان شر زمان)

هناك متوالية تجمع بين السرد والحياة، عَبر عنها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بمصطلح (الفهم السردي) الذي ينبع من وجود خطاب من الدرجة الاولى هو (الخيال) وتتبعه السردية الحياتية كخطاب من الدرجة الثانية.. في مجموعة (هان شر زمان) الصادرة سنة 2021 سعى القاص ابراهيم اسماعيل عبد الى تحقيق هذه المتوالية، بحرفية السارد المتمكن من ادواته، المُحمل بخبرتين ادبية وحياتية واسعتين، مكنتاه من خلق نوع من الموائمة السردية بين الخيال كمحرك رئيسي لقصصه وبين الواقع الذي ترتكز عليه، دون ان يجعل من احدهما يهيمن على الاَخر، فمجموعته تمثل رحلة الواقع والخيال، التي كتب فيها نصوص تميزت بالواقعية المشحونة بالخيال.. والتي تحتاج الى تأويل واستنباط من قبل القارئ، كونها حملت ابعاد فلسفية وصوفية، استخدم الرمز كدلالة على قصديتها، وجعل من الخيال عنصرا مهما في صناعة نصه السردي، الذي عبر عنه الروائي نجيب محفوظ بقوله (الفرق بين الحكاية والقصة هو الخيال) لذا سعى ابراهيم اسماعيل الى تطبيق مفاهيم واسس القصة الحديثة، والتي تمثل انعكاس لتخيل الواقع وليس الواقع نفسه، فقد غابت ملامح ابطال قصصه وهوياتهم واسمائهم وانتماءاتهم.. وتحولوا الى مجموعة من الادوات البسيطة التي تتحرك بدقة وفق رؤية غارقة في التعقيد، وهي بحاجة الى تأويل لمعرفة سببيتها، فسعى القاص الى جعل القارئ جزءا من مشروعه السردي، واشراكه عبر التأويل والتحليل للوصول الى فهم شخصي لنصوص مجموعته.

اهم عناصر المجموعة:

اولا- اللغة: يمكن تعريف اللغة اصطلاحا على انها مجموعة من الإشارات والرموز، وهي أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، حيث ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا، فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي.. اما في السرد فتلعب اللغة دورا اكثر تعقيدا حيث تشكل وسيلة تواصل غير مباشرة بين الكاتب والمتلقي، وهي بحاجة الى اسلوب متفرد لوضعها في قالب سردي.. كونها لغة الكتابة الدالة على الفعل والحدث المقترن بالزمن او بدون زمن. ويُستخدَم هذا النوع من الكتابة في العديد من القوالب الادبية وفنون السرد المعروفة مثل القصة والرواية.. تميزت لغة هان شر زمان بكونها لغة سهلة خالية من التعقيد او ما يعبر عنه (لغة الغرف المعقمة) غاب عنها الحوار تماماً، تميل الى الشعرية في بعض محطاتها، وهي ميزة في الفن القصصي، كما عبر عن ذلك الناقد حمدي مخلف بقوله (يجب ان تكون لغة القص مجموعة جمل شعرية تخاطب القارئ بإحساس مرهف).. كما في قصة (اثر) التي اجتزئ منها هذا النص (كان المدى واسعا لتنطلق.. لا احد يتعقبها، تناثر شعرها في الهواء الذي يحركه جسمها، قفزات اخرى متسارعات كانت تخال المدى نقطة ما تضعها وسط عينيها).. وقد اتخذت بعض النصوص شكل القصيدة كما في قصة (تكسر):

كسرت انفي، كسرت خاطرها

كسرت ظهري، كسرت فيئها

كسرت لهفتي، كسرت قلبها

ثانيا – قص الهذيان: يمكن تبويب جزء مهم من المجموعة ضمن قص الهذيان كون (هان شر زمان) ليست مجموعة قصصية سردية بقدر ماهي مجموعة من الحراك الذهني، الخالي من الافعال الحقيقية، كان حراك بعض ابطال نصوصها بدوافع غرائزية مصحوبة بالخيال، افقدت النصوص واقعيتها، حتى بدت وكأنها صور ذهنية.. كما في قصة (كفاها ام ضفتاه) والتي تبتدئ بهذا النص للسارد العليم (ما كانت قدماه تجرؤا على تجاوز الضفة الاخرى لولا رؤيته ايها ترفع بكفيها حفنة ماء الغبار هو الاخر قد انزاح الى الوراء كثيرا.. كان القدر بطل لحظته عندما اخرج لقيته الملونة، لا يدري ان كانت لقية حصى ام حجارة تدوين....).

ثالثا – النزعة الصوفية: القص الصوفي مذهب فكري يطرح في بناه التعبيرية والموضوعية مفاهيم دينية او فكرية تمثل فلسفة الوصول الى الحقيقة والسعادة والكمال. في مجموعة (هان شر زمان) شكلت وحدة الوجود احدى الركائز الفلسفية لنصوص المجموعة، فقد طغت النزعة الصوفية على بعض النصوص، بشكل جعل منها حلقة ذكر صوفية هام مريدوها بالطبيعة وذاب وجودهم ووجدانهم فيها، فلم تستثني قصص هان شر زمان اي كائن حي (بشر، حيوانات، حشرات، نباتات) الجميع دخلوا في دوامة البحث عن الوجود واثاروا تساؤلات فلسفية ووجودية ازلية، من خلال حراكهم ومسعاهم وتصوراتهم.. فاغلب نصوص المجموعة توحدت نهايات ابطالها على اختلاف اجناسهم ومشاربهم، بانهم ذابوا وتلاشوا في الوجود.. وسأختار قصة (الصغير) انموذجاً لهذا المنحى القصصي (انساب نحو الجنوب المهيب، لقد ذاب الطين بالماء، وذابت كفا الصغير بالطين، وذابت الرحلة في المجهول ما لا يمكن العودة منه. الصغير كثيرا ما كان يرغب بالذوبان في راشح المياه).

رابعا – الزمان: كانت ازمنة النصوص ذات سياقات مختلفة:

أ‌- زمن عائم، لا يعبر سوى عن جو النص، والظرف اللحظي الذي جرى فيه الحدث المركزي، كما في قصة ثوب (هو والليل والقمر اسياد اللحظة ها هو يراقبها بعدوانية وشراسة).

ب- زمن غائب، فكانت اغلب نصوص المجموعة بلا زمن، يتحرك ابطالها وفق سياق الحدث، بلا ازمنة تعطي دلالة ظرفية لصيرورته.

ج – زمن محدد، احتوت بعض نصوص المجموعة تواريخ دقيقة لأحداث، ربما كانت جزءاً من ذاكرة القاص، وشكلت منعطفات مهمة في حياته، او حياة ناس كان على صلة بهم.. ان عملية زج التواريخ في الفن القصصي تحمل شيء من المجازفة التي قد تؤدي الى اثقال براءة النص وتشظيه، لكن ابراهيم اسماعيل عَمد على استخدام هذا الاسلوب السردي ليجعل القارئ يتوقف بصورة قسرية عند تلك الاحداث، ويحاول ايجاد تصورات لها، من خلال ذاكرته الشخصية التي تمثل جزءا من الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي، كما في قصة (فوز) التي اهداها القاص الى الشاعرة الفقيدة وجدان النقيب (لقد سطا عليها في 22 اب وكاد يقضمها بلين ودعابة.. التفاحة التي سقطت من الغصن لن تعود اليه..).

خامسا- المكان: تشظى عنصر المكان الى ابعاد عدة باختلاف نصوص هان شر زمان وطبيعة وجنس ابطالها.. لقد اعتنى القاص بعنصر المكان، كونه البيئة المعبرة عن هوية النص والدالة عليه، فكانت الطبيعة بمعناها الاكبر والاشمل هي الحيز الذي تحرك فيه ابطال معظم قصص المجموعة.. فضاءات مفتوحة وحدائق وانهار وحقول، ارتبط معها ابطال النصوص بروابط وجدانية وغرائزية ونفعية، شكلت نوع من (التعالق الباختيني) الذي يحيل تأويلياً مكان الحدث الى اماكن اكبر واوسع.. وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا (التشيؤ) والذي عبرت عنه الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت بقولها (القصة الشيئية هي ردود افعال حسية ونفسية بين الانسان والاشياء عبر التكيف الشيئي للمكان والتكيف الانفعالي لردة الفعل اتجاه الاشياء) وسأختار قصة (عناق) انموذجا لهذا المنحى السردي (كانت تنتقل بين الحدائق وكلما رأت ازهاراً توقفت عندها، محاولة التمتع بها والتماس معها حتى لونها كاد يتشبه بلون وردة جهنمية).

***

احمد عواد الخزاعي

في المثقف اليوم