قراءات نقدية

البحث عن المصير في رواية: ما لم يقله سيزيف في مذكراته المجنونة (1)

رواية حوارية متعددة الأصوات (بوليفونية) والحوارات الدرامية صيغت في ابتكار خلاق، غير مألوف في فن الرواية الحديثة، من حيث سياق الأحداث بالصيغة الحوارية أو ثنائية (السرد والحوار) وهي تؤدي ادوار مسرحية على المشهد العراقي الواقعي، بتقمص المسرح السياسي عبر تاريخ العراق السياسي، في عهد نظام البعث، وعهد التغيير بضمانة المحتل الامريكي، في مسائل حياتية بالغة الاهمية في العهدين، من حيث: السياسة والدين، والوعي الأيديولوجي، والحب والجنس، والحرب، وفي حرية الرأي والمعتقد، أو خنق حرية التعبير وتكميم الافواه، من حيث الانتقام والعنف الدموي. والجريمة والإرهاب، من حيث التجسس والترصد والمراقبة، وحتى توظيف الايروتيكية المبتذلة في الإغواء والاغراء لصيد الضحية، لكشف ما يحمل في داخله من اسرار، وهي جزء من المراقبة وجس النبض، في التفريق بين من الذي يدين بالولاء التام للقائد المفدى، ومنْ هو المشكوك بالولاء. من حيث البحث عن المصير الإنسان المعلق، والبحث عن الحقيقة من وسط الركام الفوضى الخلاقة.3110 كريم عبد الله

وفي مسائل الشك واليقين في وسط غياب العدالة الضائعة في ركام التيه، والبحث في مسألة الوجود واللاوجود، شخصيات تؤدي أدوارها المسرحية في المشاهد والحوارات، تترجم الواقع العراقي الحقيقي في العهدين، شخصيات حوارية تمتلك مساحات واسعة من الحرية والاستقلالية عن السارد العليم، او من (الكاتب) نفسه، الذي وضعهم في أدوار غير عادلة في اختلال التوازن. شخصيات ظلمها (الكاتب) بحجة اطلاق حرية العنان والحرية لها لتؤدي ادوارها بصدق على المسرح، لكنها اتضحت انها مؤامرة من الكاتب نفسه، حتى لا يشفع له تبريراته وذرائعه وتنصله من المسؤولية، لأنه وضعهم الى مصيرهم المحتوم، ينتهي أما، القتل، الإعدام، الانتحار. ليقول صراحة الكاتب (كريم عبدالله) في اعترافاته الصريحة وجهاً لوجه (وعندما أختفى كل شيء، وجب عليَّ أنا (كريم عبدالله)، أن انهي هذا الحلم الطويل، نعم كان حلماً راودني في الليلة الماضية) و(لكن هل عشت فيه كان هو الحقيقة، أم ظلال الحقيقية، هل كنت في حياة سابقة، هل أفكاري وتصاويري موجودة في كل مكان ما، وحدي سأحمل هذه الا آآآآآآآآآآه، ربما لأن الحياة هي الخدعة الكبيرة، التي نحتمي بها في زمن الحقيقة، التي لن تستر عورة الزمن) ص309. رغم هذا الاعتراف لكنه لن يسكت أصوات الاحتجاج المدوية من الشخصيات الحوارية، الذين قادهم الى هاوية جهنم. ولن يسكت تذمرهم وتمردهم عليه، ولا يمكن ان يختفي المؤلف وسط الظلام الثقيل، لأنه سبب لهم شرخاً عميقاً لا يضمد بالتبريرات، في زمن ضياع الحقيقة والمصير والقلق (لا وقت لديَّ للتسويغ، لقد خلقت لكم جميعاً الحياة عالماً جدلياً، كان بامكانكم عن طريق هذا الجدل، أن تتوصلوا إلى الحقيقة، أنني من خلالكم حاولت أن أكتشف أفضل طريقة لتفسير الظواهر، لقد كنتم جدلاً فكرياً في رأسي، اقلقني كثيراً) ص308. وكنوع من الرحمة والتعاطف تجاه هذا التمرد من الشخصيات الحوارية ضد المؤلف، لأنه قادهم في النهاية الى العالم السفلي، وحرمهم من حق الحياة، نتيجة اعمالهم الاجرامية، وهم يؤدون أدوارهم في مسرح الحياة والواقع. ولكن كل شيء محتمل ومتوقع عندما تنحرف الحياة عن مساراتها الساكة، عندما تفتقد العدالة والمعايير وسط الغبار الكثيف، يبقى قانون براقش وهو الفاعل والمفعول (ما جنت براقش إلا على نفسها) و(وسبق السيف العذل) ولكن هل المؤلف ارتكب جريمة ؟ أم أن الواقع هو الذي سبب أو هو من يتحمل وزر الجريمة، وليس الكاتب ؟، هذا القلق الذي ساور المؤلف لانه استنطق موجودات الواقع، ربما في غفوة منه ارتكب هذه حالة التأزم (ربما في أثناء غفوتي هذه حدث مالم يكن بالحسبان، لقد خلقت هذه الشخصيات من بنات افكاري، وساعدني كثيراً خيالي الجامح، فهي عزيزة عندي، وجميعهم أبنائي ونتاج فكري، هل كنت عادلاً معهم جميعاً؟؟!! وهل كنت عادلاً في توزيع الالم والاحزان عليهم؟؟!! أخشى أن يكون قد حدث اختلال التوازن، هذا الاختلال قد يسبب ثورة عارمة، لم أخطط لنتائجها المستقبلية!!) ص302.

لكن هذه الحقيقة المرة، في زمن جرائم البعث، الزمن الذي وضع الإنسان داخل شاشة كبيرة للمراقبة والترصد والتصيد، وكذلك في زمن التغيير، الدم / قراطية، وفي زمن كليبوكراتيا (دولة اللصوص)، الذي جاء بهذا النظام الهجين في ثوب الدين والمذهب، والانسان العراقي يظل يبحث عن مصره ووجوده في الحياة.

يتبع في القسم الثاني

***

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم