قراءات نقدية

الحسين بوخرطة: قراءة في القصة القصيرة: رؤيا خروج

للأديب ناصر الحلواني من دولة مصر الشقيقة

البحار والمحيطات من معجزات الكون بأسرارها وتفاعلاتها. أمام طبيعة مائها بملوحته الشديدة وكائناته وثرواته، وما حكي عنها من أساطير وحكايات، وما أثير بشأنها من قصص دينية عبر العصور، تنقشع أمام الإنسان حقيقة مؤرقة مفادها كون حياة الإنسان بلا علم تحمل في كنفها مخاطر الزوال. الحقائق المطلقة لا حدود لها ولا يمكن وصفها ومرتبطة بالذات الإلهية الخارقة. الحرية والتنشئة على الغوص في بحار العلم هو السبيل الوحيد لكسب هوامش العيش أرضا جغرافيا وزمانيا. العلم كالماء في ارتباطه بحياة المخلوقات والنباتات.

أمام الحقيقة هاته، يطل علينا الكاتب بهذا النص بدلالاته ورموزه. وضعنا أمام بحر صامت، يخيم عليه الهدوء حتى الأفق. هكذا يكون الأمر في موسم الصهد المشمس. تقوقع الإنسان في الأماكن الضيقة. قبل بواقع يزداد مرارة متواكلا على الآخر أو مؤجلا المتعة إلى ما بعد النهاية. تمر الأيام ويزداد مكان العيش اختناقا وصعوبة. ضراوة الأمكنة لاذعة محبطة. عدد المستسلمين لليأس واللامبالاة يزداد عددهم على مدى الساعة. حركية مفرطة بأنشطة غير منتجة. شيدت الأسوار بين البحار والمحيطات، مرتع التأملات وفضاء الكشوفات العلمية، واليابسة. الرأسمال الداهية فعل فعلته. شيد المعتقلات والتجهيزات غير النافعة التي أصابت التعليم والصحة العمومية والثقافة والخصوصيات التاريخية في مقتلها. حول الأرض إلى سجن كبير محاط بسور أزمان الوحشة والوَحدة. انعزل المعتقلون داخله. لا أفق لرؤاهم سوى السماء المفتوحة على المجهول. عجز نفسي للتفكير في الفضاء الكوني وانصياع وراء التماهي مع فضاء أرضي بنزاعات قاتلة وانشغالات بأدران أمانة الاستخلاف أرضا.

الاعتداء على البيئة يزداد حدة، وندرة المياه، سر استمرار الحياة، في تفاقم. تعددت مصادر تلويثها إلى درجة الاستسلام لاستهلاكها بموادها الضارة (تميل إلى السواد، لطحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهارب .. تغيب جنباته المتعرجة (الدلو) في قتامة الماء... ما يحمل من أشياء لا يعلمون كنهها).

بعنوانه غير الفاضح يزرع القاص الأمل مجددا في النفوس. هناك فعلا "رؤيا خروج" من السجن الذي اكتسح بمطباته مخيال الجماهير. يمكن للإنسانية أن تكسر الأغلال وأن تحترف العلم والفكر في العلن. يمكن أن تشيد لنفسها عالما جديدا ينسيها مآسي التضييق السياسي والثقافي على العلم والمعرفة. باستطاعتها أن تتجاوز الفخاخ والفرامل وأن تنجح في بناء قصور الإبداع المعنوية بفتح المجال على مصراعيه أمام الناس لترطيب نفوسهم، وعقولهم، وأرواحهم، حتى لا تؤدي شدة الوحشة إلى تيبس وجودهم.

تجاوز اكراهات الحاضر برأسماله اللعين أمر ممكن. تذكر الزمن الماضي بإنجازاته قد يتحول إلى محفز للتفكير في المستقبل. فما أحوج إنسان اليوم للكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، لتصارع سواد العفن، وجفاف الريح.

رفع تحدي الإنعتاق والنجاة صعب للغاية. تساؤل الكاتب بشخصياته المبهمة أمر مشروع: "كيف يمكن لها أن تحملنا!"، “كيف ستخرج بنا". علينا فعلا أن نطرح على أذهاننا الأسئلة، ونغامر بقبول وجودها.

تشبث المعتقلون برؤيا الخروج إلى حين وعادوا إلى المعتقلات بنفس جديد مترقبين الفجر بأمل تكسير القيود.

في الأخير دفع بنا الكاتب في دهاليز الممكن المتعسر وكأنه يرسم لنا سبيلا واحدا ووحيدا للاستمرار في الحياة الدنيا. فتح لنا باب الأمل بتحقيق مراد كينونة الإنسان، فختم قصته الرائعة بالفقرة التالية "لم يبق سوى زنازين خاوية، وحراس يمسحون غبار الدهشة عن عيونهم الخشنة".

***

الحسين بوخرطة

......................

رؤيا خروج

قصة قصيرة لناصر الحلواني | مصر

- البحر صامت، يخيم عليه الهدوء حتى الأفق. هكذا يكون الأمر في موسم الصهد المشمس.

وفي قلب المحيط الرملي، المترامي الأطراف، بين المدن الصاخبة بهمومها، ووشيش البحر اللاهي، يقبع السور المغبَّر بأزمان الوحشة والوَحدة، يرتفع فوق المار حيث يلامس السماء، ويمتد حتى يكون كذؤابة نصل يطعن في الأفق، ويرسم تخوم سجن، ملقى في فضاء رملي متماهي الحدود.

وفي جوفه لم يكن صوت، سوى رقرقة ماء يتساقط بطيئا، من صنبور وحيد متعلق بالجدار الصلد، تهبط القطرات في ثقل، تغيب كتلتها في البركة الصغيرة المشكولة من قطرات سابقة، فتنشط موجات ماء تبدأ دائرية، ثم لا تلبث أن تنكسر هرمونيتها بالاصطدام بجوانب الحوض الإسمنتي الممتلئ إلى حافته، فتفر إلى شقوقه حيث تجبرها الخدوش على الاستسلام فتتماهى في خضوع إلى سائر الماء.

تنشق الأرض، ذات الصفرة الترابية المكتومة، حول الحوض، عن خضرة شاحبة، تميل إلى السواد، لطحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهاربة.

ومن الزنازين، التي تنغرس قضبان نوافذها في صلادة الجدران، يخرج كل رجل في دوره، يحمل دلوه المعدني الصدئ، يفتح الصنبور لآخره، يضع دلوه في الحوض، يتأرجح لبرهة، طافيا على سطح بركة الماء القاتمة، وما إن يسكن ممتلئا، وتغيب جنباته المتعرجة في قتامة الماء، حتى يحمله صاحبه، ويمضي، ويجيء آخر، وآخر، وآخرون.

بعدما تنتهي نوبة النظافة، ويأفل نهار آخر، يعودون ليملأوا لحياتهم، نفس الدلاء، ونفس الماء، الذي لا يعلم أحد من أين يجيء، ويعجبون لسيولته برغم كل ما يحمل من أشياء لا يعلمون كنهها.

ويذهب كل إلى زنزانته، يضعون الدلاء في الزوايا، كذخائر ثمينة، ويبدأون نشاطهم المسائي، الذي يحفظون به بعض ما لديهم من وجود إنساني، فيستخرجون الأوراق المخبأة في فراغات الأبواب السفلية، والأقلام المدسوسة في أرغفة الخبز المركونة بإهمال، وكتبا يحفظونها في صدورهم، ويشرعون في مجاهدة النسيان والغربة، حتى لا ينحت الموت المحيط صخور صبرهم، وفي ترطيب نفوسهم، وعقولهم، وأرواحهم، حتى لا تؤدي شدة الوحشة إلى تيبس وجودهم، ويتهيأون ليوم الخروج، سواء إلى أرض، أو إلى سماء.

وتبقى القطرات الثقيلة مستمرة، تملأ الحوض بإصرار، يسمعونها في عمق الليل، تُذكرهم بالزمن الماضي فيهم، وبالكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، تصارع سواد العفن، وجفاف الريح.

وذات ليل، رآها الجميع، ناشرة أشرعة لها لون غريب عن ألوان حياتهم، قاموا، وكل يرمق عين صاحبه، فعرفوا، دون أن ينطق أحدهم، كانت رؤياهم جميعا.

وذات صباح، كان يمكن لكل من يذهب إلى الحوض أن يراها، مثل زهرة ليلك، تطفو في ماء الحوض، ومشرعة للشمس الجهورة، ولعيونهم.

رأى جميعهم شراعها الكتاني مرفرفا، متألقا، في رمادية الأفق الإسمنتي، بادية كالحلم الهائل في عقل طفل صغير، لم يتحدث أحد، لم يكن أحد يقدر على الكلام، كان لعيونهم الصوت الأعلى، وقالت كل عين كل شيء، لكل واحد.

ملأوا دلاءهم في حرص، وملأت التساؤلات رؤوسهم:

” كيف يمكن لها أن تحملنا!”، “كيف ستخرج بنا”.

ثم طرحوا عن أذهانهم الأسئلة، وغامروا بقبول وجودها.

وغادر كل في دوره، إلى زنزانته، لمُّوا أوراقهم المخطوطة، شروحهم، أذكارهم، كتبهم، وخطابات لم تُرسل بعد، وما كانت، وبضعة أشياء، ورؤيا واحدة، تطوف بالأنفس جميعها، الكامنة في معاقلها، ترقب الفجر، ولا تنام.

وفي غداة اليوم التالي، كانت قد غادرت الحوض.

وفي قلب السور البعيد، في الصحراء البعيدة، لم يبق سوى زنازين خاوية، وحراس يمسحون غبار الدهشة عن عيونهم الخشنة، وبضعة أقلام متناثرة، وورقات بيضاء تحملها هبات ريح هادئة، وصوت قطرات ماء، تهبط كثيفة، كزمان يمر، إلى طحالب الصحراء.

في المثقف اليوم