قراءات نقدية

جمعة عبد الله: أحداث المتن الروائي في رواية: ما لم يقله سيزيف في مذكراته المجنونة (2)

تدور أحداث الحوارات السردية في مصح عقلي، أو مشفى المجانين، والمرضى بحجة العلاج الطبي يتعرضون الى منهجية التعذيب النفسي والجسدي، في سبيل انتزاع اعترافات منهم، تكشف عن مكنون دواخيلهم، وخاصة تلوح حولهم شبهات بعدم الولاء للقائد المفدى والحزب والثورة، تعمدوا التخلف عن الذهاب الى جبهات الحرب، بحيلة الجنون أو الاعاقة الجسدية والعقلية، والمصح العقلي هو عبارة عن دائرة أمنية يحمل صفات اساليب البطش في التعذيب، وانتهاك حرمة وحقوق الإنسان في أبسط شروطها، بذريعة كل شيء من اجل القائد المفدى، وكل شيء من أجل المعركة، بهذا الشكل تنخرط منظمات الحزب الحاكم، في المراقبة والرصد والتصيد، الذين يتخلفون عن الولاء والطاعة للنظام، واعلام النظام، ينتهج نهج المغالطات في التشويه والتضليل والخداع. في تسمية حروب النظام العبثية، بالحروب الدفاع عن الوطن، وبذلك يحرقون الأخضر واليابس فدى للقائد والقيادة الحكيمة (من أجل الدفاع عن الوطن والحزب والقيادة الحكيمة لقائد النصر المظفر) ومنْ يتخلف عن الخدمة الوطنية، ولم يسهم في الذهاب الى جبهات الحرب، يستحق الموت والاعدام، حتى لو تعلل بالجنون أو الإعاقة الجسدية، فهم خونة وعملاء (- أنا اعرفكم يا اولاد الكلب، لا ينفع معكم، إلا الضرب والاهانة، فلتذهبوا الى جهنم) ص58. و(- هؤلاء خونة وعملاء، صدقيني يريدون القيام بثورة ضد السيد القائد والقيادة الحكيمة والحزب والثورة.

- الله ينتقم منهم) ص63. لكن احد المجانين يتهكم بسخرية اللاذعة ضد هذا التشويه الاعلامي المنافق (- (احنه مشينه للحرب). أخوات القحبة، الحزبيون، جماعة (الرئيس) المجرم، ذهبوا للحرب حتى يدمروا الوطن) ص74. بهذه الوحشية السادية يتم التعامل الاجهزة الطبية في المشفى، مع المجانين في المصح العقلي (- أولاد الكلب، تريدون أن تعبثوا بأمن البلد؟!.

- لولا كونك مجنوناً، لكان مصيرك (حوض التيزاب) يأكل جسمك العفن.

- ربما (التيزاب) أرحم من آلة ثرم اللحم) ص39.

×× أكثر الشخصيات الحوارية في المسرح المصح العقلي:

1 - شخصية مجهول الاسم:

ادعى الجنون بعدما أتهم بالتهجم على القائد المفدى، يتعرض بالقسوة في جلسات التعذيب القاسية والمتكررة، بحجة العلاج الطبي، كان يلوذ بالصمت ويتحمل القسوة الخشنة، فمرة يطلق على نفسه أسم (سقراط) ومرة أخرى يطلق على نفسه أسم (فاتن) ويتقمص الانوثة في التصرف والسلوك، لكن حوارته تصب في إيقاظ الوعي النائم، والسخرية من عقلية وهذيانات الحزب الحاكم وشعاراته الحزبية المزيفة والمخادعة (- دكتور هذا مجنون (فاقد)

- ما يعني فاقد؟؟ !!.

- أنه لا يدري بنفسه، ولا يعرف أين هو، ولا حتى لا يعرف أسمه، يعني مثل الحمار، الذي لا يعرف أي شيء) ص234. يرقد في المصح العقلي ويهذي بتهكماته الساخرة ضد ازلام الحزب، ولا يكف ويتوقف رغم التهديدات بالقتل، فلم يجد منهم سوى الخشونة والسب والشتم والاهانة والاذلال، لكن شعر بوجوده الانساني من المعاملة الطيبة والرقيقة من طبيبة الأسنان (اسراء) تختلف عن خشونة ومعاملة  الكل، كما تعود عليهم (- تعال (عيني) أجلس هنا) ص235. أن كلمة (عيني) ايقظت حواسه، وجعلت البريق يعود الى عينيه المتعبتين من السهر والالام، لم يصدق ما سمعه برقة وعذوبة كلمة (عيني). (- هل تسمعني، أنا قلت لك تعال اجلس على هذا الكرسي؟!.

- هل تقصدني أنا؟؟!!.) ص235. وحين سألته عن أسمه، فأجاب بأسم جديد (جمال)، كأن الجمال استيقظ في نوازع روحه، وازاح وحش القبح والبذاءة، وصار كل يوم يتردد على غرفة الطبيبة الاسنان، يجد العاطفة والرقة والاحترام، وراح يبني صرح الحب في أحلامه، واخذ يعتني بسلوكه وهندامه، واعتقد ان غرفة طبيبة الأسنان أصبحت بمثابة المحراب المقدس للحب، يعوضه عن سنواته التالفة والمتعبة. ويتوهم بأن طبيبة الأسنان (اسراء) هي ايضاً تبادله نفس الشعور بالحب، حتى أنه بقرارة نفسه ان يهدي إليها باقة ورد ويصارحها بحبه وعشقه، عسى أن يحظى بها، لتنقله إلى حياة جديدة. لكن أحد الأيام دخل الدكتور (علي) بعد غياب طويل وكان يرتبط مع (اسراء) بعلاقة الحب القديمة، ووجدت (اسراء) ان حضوره ينعش الحب القديم، ففرحت بهذا اللقاء الموعود، الذي أضاء أزهار الحب في داخلها، وخرجت معه من الغرفة، كأنهما عاشقان، وتعود لهما الحياة بعد الغربة، ومجهول الاسم (جمال) في صدمة وذهول، لم يصدق ما يجرى حوله، لقد شعر بأنه يعود الى مستنقع الوحل العفن، والحب ذهب مع الريح ولن يعود، فلم يتحمل الصدمة النفسية وانهى حياته بالانتحار.

2 - الممرضة (نوال) أو (الرفيقة نوال) يجندها الحزب في استدراج المشبوهين بعدم ولائهم للقائد والحزب. فكان سلاحها الغواية والإغراء بالشبق الجنسي الرخيص أو الايروتيكية  المبتذلة، في سبيل كشف اسرار الضحية، الذي ينجرف الى الشبق الجنسي، ليكشف حقيقة ما يحمل من أسرار، كما فعلت مع المضمد (جواد) في احدى الليالي وقع في شراكها المنصوب له، وقاده هذا الفخ والمصيدة إلى مقصلة الإعدام (- كل ما عندي لك (يا جوادي) اركب مركبي، وخذني الى فردوسك، أنا أعلم بأن فردوسك لا يشبه أي فردوس آخر) ص161.

(- أنني أحترق (يا جوادي) أطفيء النيران التي أشعلتها بي، خذ كل فاكهتي الناضجة، أقضم ما تشاء فيها، مزق أشرعتي التي كانت وستظل ترفرف لك وحدك، حطم حصوني التي كانت دائماً ألوذ تحت صمتها المسكون فيك) ص119. ولكن بعد التغيير وسقوط الحزب الحاكم، فقد اشتدت عمليات التصفية والانتقام من ازلام الحزب الساقط. فكان نصيبها القتل (- لقد قتلوا الممرضة (نوال الحزبية) (نوال القحبة) (نوال الفاجرة)، هذا مصير الخونة والعملاء) ص258.

×× التغيير بعد الاحتلال:

كان يوماً عاصفاً ومشهوداً ما آلت اليه الامور عشية سقوط النظام والحزب الحاكم، ودخل العراق في التدهور نحو البلبة والاضطرابات الساخنة، نحو الفوضى والانفلات، نحو عمليات النهب والسرقة والفرهود حتى مؤسسات الدولة الصغيرة، انعدام الامن والامان، واصبح الشارع ملكاً للجماعات الدينية المتطرفة وعصابات النهب والسلب، ودخل العراق في نظام هجين، لبس العمامة وجبة الدين والمذهب، حتى ازلام الحزب الساقط، اصبحوا متدينين وأصحاب الإيمان والتقوى، واختلطت المعايير نحو الاسوأ (لمَ تحول اللصوص الى شرفاء؟؟!! وكيف تحول المفسدون الى صلحاء؟؟!! ولمَ تحول الفاسقون الى مؤمنين؟! وما الذي دعا الرفاق الحزبيين إلى متدينين؟؟) 226. فعم الخراب واستيقظت الطائفية من كهوفها النائمة، في اشعال الفتن وشق اللحمة الوطنية والشقاق والكراهية والحقد (- أخي الصابئة واليهود والمسيحيون، هم الذين نعتهم القرآن الكريم بالضالين، هؤلاء مشركون يجب ان يقتلوا، أو يطردون من البلاد، أو يدفعوا الجزية رغماً عن أنفهم) ص270.

فدخل العراق في مرحلة الفوضى الخلاقة.

***

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم