قراءات نقدية

بديعة النعيمي: 77 خريفا رواية ترفض النمطية للكاتبة فاطمة هلالات

أمام خسائرنا العربية وواقعنا المتصدع وفكرنا المأزوم، خرجت فاطمة هلالات ب 77 خريفا من الحنق والحزن، من إصدارات دار وائل للنشر والتوزيع/ عمان/2021. حاولت تجربة تقنيات جديدة تعبر عن هذه الواقع وعن فئات مجتمعه المهمش المحبط فانتقدت الفساد، الواسطات، المحسوبيات وسياسة القطيع التي تطبق على الشعوب والسياسات المضللة وقامت بمساءلتها جميعا وفق نظرية جدلية مكنتها من تحقيق إنجازات فنية وفكرية جديدة رافضة من خلالها حدود سايكس بيكو والضعف العربي، معترضة على ضياع فلسطين وما حدث في دول الخريف العربي.

والمتلقي لرواية 77 خريفا يجد بأن الكاتبة قد خرجت عن المألوف عن طريق إعادة تأسيس معايير بديلة ونظرية جمالية مخالفة، نابعة من رؤيتها ونمط وعيها بالعالم على أمل إنتاج يرفض النمطية وينشد الجمال ويقوض الثوابت الساكنة الجامدة وخصوصاً أن الحراك المستمر للواقع لا بد أن يوازيه تحول دائم في بنى الفنون بأنواعها وخاصة الفنون الأدبية. فالعالم يتغير من حولنا ويتبدل، فلم لا تتغير النظم الشكلية والجمالية للرواية؟.

والرواية كما يرى باختين "النوع الأدبي الوحيد الذي لا يزال في طور التكوين، والنوع الوحيد الذي لم يكتمل".

وما لم تطوع الرواية تقنيات السرد فإنها لن تمسك بنبض الحياة الفائق السرعة.وبالذات أنها الشكل الأدبي الأكثر تكيفا وتأقلما مع مظاهر التغير والتحول. والمجال مفتوح أمام الروائيين لارتياد مختلف السبل وتجريب الأشكال وأرى بأن فاطمة هلالات سعت إلى مثل هذا التجريب في روايتها 77 خريفا. والتجريب كما يرى صلاح فضل هو قرين الإبداع لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة.

وأرى بأن ما قامت به فاطمة هلالات في 77 خريفا كانت قد ظهرت بوادره في مرحلة الستينات عندما عمد الروائيون إلى المزاوجة بين السرد والشعر ضمن ما يعرف ب "بتراسل الأجناس الأدبية" وهذا ما جسده إدوار الخراط من خلال كتابه "الكتابة عبر النوعية" من خلال دعوته إلى تجربة نوع جديد (القصة/ القصيدة).

كما ذهب "محمد سالم الأمين" في كتابه "مستويات اللغة في السرد العربي المعاصر" أن عدول الرواية إلى لغة الشعر انزياح فني الهدف منه تكثيف الدلالة ومنح الأصوات مساحات ملائمة لكي يعرض كل منها وجهة نظره. كما ويضاف إلى ذلك أن كتابة الرواية بلغة شعرية يسم هذه اللغة المعبر عنها بطابع الإشكالية ويحطم التراتبية الكلاسيكية في الأنساق التعبيرية.

وقد دخلت الكاتبة هلالات بكل جسارة في هذه المجازفة الأدبية بالرغم مما تعرضت له مما يسمى "إرهاب نقدي" مع أن هذه المجازفة كانت يجب أن تحسب لها لا عليها.

والمتلقي لرواية هلالات يجد بأن امتزاج اللغة السردية باللغة الشعرية شكل إيقاعا جديدا للنص، عكس اغتراب الذات الكاتبة وما يرافقها من إحباط ويأس. وفاطمة تبحث عن الهوية الضائعة التي غيبتها سايكس بيكو فنجدها على لسان البطل ص103 تقول (وما عدت أريدك أن تكف عن منفى من الهروب من الخطوط التي سجنتني بها منذ مئة عام). ولا تكف عن الشعور باغتراب الذات في أوطان ضاعت كرامتها، أوطان اعتزلت الحضارة ولم تعرف منها شيئا.أوطان تبحث عند فاطمة عن تلك الكرامة المغيبة عند كل غروب على مقاعد مهملة على هوامش التاريخ.

في رواية 77 خريفا غابت أسماء بطليها.

رجل وامرأة كلاهما متشظي ويحمل بداخله هما يتجه بالرواية نحو كلمات كابوسية تعكس واقعنا العربي. يلتقيان في حديقة مجهولة المكان، هي تأتي كل غروب تجلس على مقعد مهمل وهو ينزل من كهفه أو صومعته المزمعة إلى تلك الحديقة. جسدان لا نعرف ماهيتهما أو رمزيتهما لدى الكاتبة، يلتقيان، يتحدثان ويديران أحداث الرواية ويبحثان تارة في أمور كبرى عن أوطان مزقها الاستعمار ودسائس لا زالت تدار وتارة أخرى يخوضان في طبائع البشر والقيم الإنسانية لما يرقبانه من حولهما. اثنان لكن كأنهما واحد لا ينفصل وبنفس الوقت يبحث عن الآخر ويفتقده ولا يكتمل إلا به. في أماكن مجهولة وهذا بحد ذاته اغتراب،، لزمن قد يكون أحيانا معلوما وهو زمن جائحة كورونا.

رواية تسائل المسكوت عنه عن طريق لغة تدفع بالقارئ إلى جو من الدهشة بسبب اختراقها للمألوف عن طريق لغة انزياحية فالطابع الشعري يلف الرواية وهذا التداخل بين البنية الشعرية والسردية ينتج لغة مغايرة يصعب القبض على مدلولاتها، تنفتح على رؤى جمالية متعددة وهي بهذا من النوع الذي تتداخل فيه الأجناس الأدبية كما ذكرنا سابقا.

ومن هنا أدعو الكاتبة أن تتبع جبران خليل حينما قال لمن استهجن إبداعه" لي رواياتي ولكم روايتكم".

ومن هنا أدعو النقاد إلى دراسة موضوعية وعلمية للرواية لما فيها من محاور لا زالت بحاجة للكثير من التمحيص.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم