قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: الذِّئب في الشِّعر العَرَبي (3)

(دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

رأينا في المقال السابق كيف كان الشُّعراء يتنافسون في تصوير حركة (الذِّئب)، أيُّهم أدقُّ اختيارًا لما يُمثِّلها من لفظ أو تشبيه.  أمَّا إقدامه وجرأة إقباله، فـ(البُحتري)(1) يصفهما إذ يقول:

... فَأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ

في سرعةٍ، وتصميمٍ حازمٍ حاسم، يتمثَّل حيًّا باستحضار صورة البرق يتبعه الرعد.  وفي أصوات هذا الشطر ما يخدم الصورة، بتعاقب (القاف) من بَعده (العين)، متجاوبَين بين جناحَيها، مع هذه (الباء) الانفجاريَّة، و(الراء) التردُّديَّة، تتخلَّلان الأنغام فيها، إضافةً إلى هذا التوازن في (أقبل/ مثل/ البرق)، الذي يبعث حيويَّةً موسيقيَّةً تصويريَّةً تمثِّل إيقاع ذلك الإقبال المتدفِّق.

وصفة سرعته مرتبطة عند الشُّعراء بمعنى الجرأة؛ ولهذا فهو (مُجَلِّح)؛ كما قال (امرؤ القيس)(2):

... وأَجْرَأُ من مُجَلِّحَةِ الذِّئابِ

والمُجَلِّح: الجريء من الذِّئاب، وقيل: كلُّ ماردٍ مُقْدِمٍ على شيءٍ مُجَلِّحٌ.(3)

وهو (ذو اهتماط)، كما وصفه بعضهم، والاهتماط: ركوب الشيء والإقدام عليه.(4)

ولِـما رأوه فيه من الدَّهاء والمخاتلة اشتقُّوا من اسمه ألفاظًا، مثل: تَذَأَّب، وتذاءب، وأصله من الذِّئب إذا حُذِر من وجهٍ جاء من آخَر، والمتذئِّبة، والمتذائبة، من الرياح، التي تجيء من هاهنا مرَّةً ومن هاهنا مرَّةً، أُخِذَ من فعل الذِّئب؛ لأنَّه كذلك يأتي.(5)  قال (ذو الرُّمَّة)(6)، يصف ثورًا وحشيًّا:

فـبـاتَ  يُـشْـــئِـزُهُ  ثَـأْدٌ  ، ويُـسْـهِـرُهُ

          تَذَاؤُبُ الرِّيحِ، والوَسْواسُ، والهَضَبُ

وإذا كان لنا أن نقف مقارِنين تصوير العَرَب حركةَ (الذِّئب) بشيءٍ ممَّا عند غيرهم من ذلك، فإنَّنا سنَجِد في إحدى قصائد الشاعر الفرنسي الرواقي (ألفرِد دي فيني Alfred de Vigny)(7) أنَّه لا يُعنَى من حركة الذِّئب بِسِوَى ما يشير إلى معنى التصميم والحِدَّة فيه؛ حيث يقول: 

أَقْبَلَ الذِّئبُ فأقعَى ناصبًا يدَيه

اللتين غرزَهما في الرَّمل بأظافرهما المقوَّسة. (8)

وهو هنا إنَّما يومئ إلى ثبات الذِّئب بهذه الصُّورة الشكليَّة؛ فصفته تلك هي ما يلفته من الذِّئب.  وقبله اتَّخذَ (البُحتريُّ)(9) من حركة الذِّئب هذه، من الإقبال والإقعاء، المعنى نفسه، غير أنَّه يُقدِّم إقعاءه على إقباله، ويضيف إلى الصُّورة ملامح أخرى، في قوله:

عَوَى، ثُمَّ أَقْعَى، فارتجزتُ، فهِجتُهُ، 

        فأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ

و(البُحتري) يُضفي هاهنا على صورة الذِّئب، في إقعائه وإقباله، أبعادًا دراميَّة تختلف عن صورته لدَى الشاعر الفرنسي؛ وذلك في قوله: «عَوَى»، ثمَّ تقديمه الإقعاء على الإقبال، ممَّا يزيد صورته صدقًا فنِّـيًّا وواقعيًّا، بخلاف (دي فيني) الذي جعله يُقبِل ثمَّ يُقعي.  ذلك لأنَّ البُحتري كان يصوِّر الذِّئب في حالة هجوم، على حين كان يصوِّره دي فيني في حالة دفاع.  ثمَّ يصوِّر البُحتريُّ موقفه هو، ساعة فوجئ بالذِّئب، ويصوِّر موقف الذِّئب منه: «فارتجزتُ.. فهِجتُه»، بما ينطوي عليه هذا البناء من تصويرٍ لعوامل المواقف النفسيَّة، المشتركة بين الشاعر والذِّئب.  إضافةً إلى تمثيل البُحتريِّ إقبالَ الذِّئب الصاعق، بقوله: «فأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ».

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

........................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 744.

(2)  (1958)، ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 97.

(3)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (جلح).

(4)  يُنظَر: الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 65.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (ذأب).

(6)  (1982)، ديوان ذي الرُّمة، (شرح: أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي- صاحب الأصمعي، رواية: أبي العبَّاس ثعلب)، تحقيق: عبدالقدوس أبي صالح، (بيروت: مؤسَّسة الإيمان)، 90.

(7)  يُنظَر: الحمصي، نعيم، (1979)، الرائد في الأدب العَرَبي: بين 132- 1325هـ، (دمشق/ بيروت: دار المأمون للتراث)، 213.

(8)  يُنظَر: م.ن، 214.

(9)  ديوانه، م.ن. 

في المثقف اليوم