قراءات نقدية

علي فضيل العربي: قراءة سيميائية وتفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت لذكرى لعيبي

ختمت الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها " غابات الإسمنت " على لسان بطلتها إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، قائلة: (و رغم كلّ ما مرّ... سأعيش وأنسى المرّ).

هناك روايات تجبرنا – كقراء أو نقاد، أن نقرأها أكثر من مرّة. لا لكونها رواية صعبة المنال، أو غامضة في ثنايا السرد والحوار، بل، نظرا لتفرّدها وتمرّدها على السرد العربي المألوف. وما اعتاده القاريء العربي من نصوص سرديّة، تمتّعه فنيّا، ولا تستفزّه عاطفيّا. تدغدغ مشاعره وأحاسيسه، وتزعزع أفكاره، لكنّها لا تزلزلها، ولا تزرع فيها كمّا من الأسئلة الحرجة. وإن كان من بين أدوار الفن ّ عامة، اقتحام المناطق المغلقة في الطبيعة والنفس البشريّة، والتنقيب في أعماقهما عن المكنونات، التي لا تبصرها عيون العامة بعين بصيرة.

أجل، لم تعد الرواية المعاصرة تهادن فلسفة الواقع المعيش، بل أضحت وسيلة لتعريّة هذا الواقع الإنساني، الذي يخفي كثيرا من الطابوهات، ويقمع الحريّات، ويمارس طقوس النفاق السياسي والاجتماعي والثيوقراطي ـ تارة تحت غطاء التقاليد الباليّة والعادات البائدة، وتارة أخرى تحت طائلة الاستبداد بكل ضروبه وأشكاله.

رواية " غابات الإسمنت "، للكاتبة ذكرى لعيبي، وهي كاتبة ميسانية المولد (نسبة إلى ميسان **)، عراقيّة الموطن والهويّة، سندباديّة الترحال. ولدت في زمن العجائب العربيّة. تناولت فيها الكاتبة، بكل جرأة وشجاعة، أحد المجتمعات العربية – جعلت المكان الأول عائمًا – لأسباب نعرفها جميعًا، الذي لا تختلف البلاد العربيّة برمّتها - مازالت فيه الذكورة الفوقيّة، تمارس (قوامتها) ورعونتها على الأنثى (المرأة) الرازحة تحت نير الدونيّة والنصفيّة (من النصف). فأضحى الذكر هو كلّ المجتمع، بينما المرأة هي نصفه، الذي سُلب منها، وحُرمت منه. وقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى شهر أفريل 2023 م، عن دار الدراويش للنشر والترجمة / كاوفبويرن - جمهوريّة ألمانيا الاتحادية.

قسّمت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي، روايتها " غابات الإسمنت " إلى قسمين؛ عنونت قسمها الأول بـ (الجريمة)، وقد توزّع على أربعة عشر فصلا (هل نلوم القدر؟، رفيقتي، السجن الكبير، نائلة، اللقاء، نافذة أخرى للحياة، وعود، بين الحياة والموت، إرادة الموت، لقاء في المكتب، عالم العطور والعقارب، أناملي والدمى، العودة إلى السجن، المهمة الأولى،) بينا عنونت الفصل الثاني بعنوان (الحريّة)، وقد ضمّ أحد عشر فصلا، هي كالتالي: (الحريّة، عناق، البيت، سكن وعمل، احتفالية، زيارة المقبرة، خبر عن الفرح، حياة جديدة؛ لكن بحدود، لقاء مع العروس، التمرّد، حريّة أخرى). أما عدد صفحاتها فقد ناهزت 218 صفحة.

و قد صدّرت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها، بإهداء إلى بطلة روايتها " أنعام عبد اللطيف الحاير " قائلة لها: " الأقوياء هم من يعاصرون أعوام التبعثر.. من دون أن تتشظّى أرواحهم.. نحن متّفقتان أن أيّ علاقة تجعلنا نتخلّى عن قيّمنا ومبادئنا، لا بد من إعادة النظر فيها...ثم تضيف: جريمتك لا تنحصر في قتل رجل خائن.. بل في تمزيق صورة إنعام؛ الأنثى الجميلة التي كانت بداخلك. "

وقبل الولوج في هذا المتن السردي، المثير لمشاعرنا، المستفز لعواطفنا وقناعاتنا الفكريّة، يستوقفنا، عنوانها الموسوم بـ " غابات الإسمنت ". وإذا كانت الأبواب هي المداخل الشرعيّة القانونيّة للبيوت والمحلاّت، فإنّ العناوين هي عتبات النصوص الروائيّة، لا يمكن إغفالها أو تجازوها أو التهوين من قيمتها الفنيّة والدلالية. إنّ الغابات (مفردها الغابة) في سياقها الرمزي ووظيفتها الإنزياحية، ومفهومها النفسي تدل على الأنوثة غير المستكشفة. فقلب الغابات – غالبا – ما يمثّل الأرض المقطوعة الشجر والطوق المقدّس. ومنها صيغ مصطلح (قانون الغاب)، فهو شريعة تقوم على الفوضى والأنانيّة المطلقة وأخذ الحقوق بأساليب مختلفة ومشبوهة في وجود أمن ضعيف وسلطة سيّئة الذكر. أما في المفهوم السياسي، فهي ترمز إلى مكان لترويض العاطفة والشهوات الحسيّة والانغماس في طقوس رومانسيّة وصوفيّة كما هو الشأن في الأدب الفارسي. أما رمزيّة الإسمنت، فهي تحمل معاني القهر والتضييق والخنق والقسوة والاستبداد.

بطلة الرواية (الراوية)، هي إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، امرأة مثيرة للجدل، متمرّدة عن مجتمع (القطيع) وضحيّته في آن واحد. أمرأة باحثة عن حريّتها وكيانها ودورها ومكانتها في مجتمع شرقيّ ـ تقبض على زمامه فلسفة ذكوريّة فوقيّة متخلّفة. تناسى متعاطوها مبدأ (النساء شقائق الرجال)، وتتعامل معهنّ بمباديء مغلوطة ومزيّفة عقليّا ودينيّا وإنسانيّا. قتلت زوجها، الذي خانها مع عشيقته، وانتقمت لشرفها وعزّة أنوثتها، ولسان حالها يردّد في سرّها قول أبي الطيّب المتنبّي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم.

لكنّها بالمقابل، سعت إلى ترسيم وجودها، وتأمين حريّتها بوسائل غير شريفة، وبمبدأ ميكيافيلّي بحت (الغاية تبرّر الوسيلة). وهذا ما أدّى إلى سقوطها في المحظور، قبل السجن وأثناءه وبعد مغادرته.

حكم القضاء عليها بـ (8) سنوات سجنا نافذا، كعقوبة لها على جريمتها الشنعاء تلك، قضت منها ثلاث سنوات، بفضل عشيقتها و(حبيبتها) النقيب ابتسام علام، مديرة السجن، ثم استفادت من الإفراج المسبق، نظير حسن سيرتها وسلوكها، كما كُتب في تقرير الإفراج، وانتهى بها المطاف حرّة، طليقة في بريطانيا، منتحلة شخصيّة سيّدة مجتمع وأعمال.

ثنائيّة الصراع بين الذكورة والأنوثة:

يكتشف القاري، من خلال تتابع فصول الرواية، أنّ الكاتبة ذكرى لعيبي، تثير أزمة العلاقة بين الرجل والمرأة، أو لنقل بين الذكر والأنثى، في المجتمعات العربية المحافظة خاصة، والمجتمع العربي برمّته، من المحيط إلى الخليج. وهي أزمة اجتماعيّة ونفسيّة وثيوقراطيّة متوارثة أبا عن جدّ، قائمة على نظرة الرجل الشرقي إلى المرأة الشرقيّة، تسندها – بقوة – منظومة العادات الخرافيّة البالية والتقاليد الأسطوريّة البائدة، وتغذيها الفتاوي الدينيّة الباطلة. أزمة إلغاء وجود المرأة وتموضعها في المجتمع الشرقي، وإنزالها منزلة القطيع السائر خلف الرجل، والكائن الثانوي. رغم أنّ كلّ الشرائع السماويّة، كرّمت المرأة؛ أمّا وزوجة وأختا وابنة وعمّة وخالة، وهلّم جرّا. لكنّ الرجل (الذكر) الشرقي أبى إلاّ أن يهينها ويحجر عليها حقوقها الفطريّة، ويغتصب – سرّا وعلانيّة – أنوثتها وحرّيتها وكرامها، وبحجّم دورها في المجتمع الشرقي، ويحصره في العمليّة الجنسيّة، الشرعيّة واللاشرعيّة، ويحوّلها إلى آلة نسل وخادمة بيت، هو سيّدها، منتحلا شخصيّة (سي السيّد) كما جاء في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة.

ترصد هذه الرواية صراعا عميقا بين الرجل الشرقي الأرعن، الظالم والمرأة الشرقيّة المظلومة، المحرومة من حقوقها الفطريّة. وهو صراع قديم ومتجدّد، متوارث عبر التاريخ، جذوره تمتدّ إلى الجاهليّة الظلاميّة، ويستمر في النمو في المجتمع الشرقي، مجتمع الإماء والحريم وما ملكت الأيمان، حين كانت المرأة سلعة رخيصة، تباع وتشترى في أسواق النخاسة، في المجتمعات البائدة – دون استثناء - حتى في أوربا، التي انعقد فيه مؤتمر يشكّك ويبحث ويسأل: هل المرأة إنسان أم حيوان؟.

صراع متطرّف، علّته الجهل بالمباديء الإنسانية المتعارف عليها شرقا وغربا. لكنّ ما بلفت انتباه القاريء في رواية الكاتبة العراقيّة المتميّزة " غابات الإسمنت "، هو تحميل الرجل مسؤوليّة جرائم المرأة كلّها، وتبرئة هذه الأخيرة منها. فكلّ السجينات اللائي لقيتهنّ في السجن وموظفات السجن، وعلى رأسهنّ المسؤولة النقيب إبتسام علاّم، هنّ ضحايا سلوكات الرجل ومعاملاته الشائنة.

الخيانة والجريمة والابتزاز في الرواية:

منحت الكاتبة ذكرى لعيبي في روايتها (جريمة الخيانة) دور المركز؛ فهي فوهة البركان وبؤرته التي ينفث منها حممه الحارقة، وفي الاتّجاهات كلّها؛ خيانة الزوج لزوجته، خيانة رجل السياسة لبلده، خيانة رجل الأمن لمهمّته، خيانة رجل الدين لعقيدته وشريعته، خيانة الفرد لذاته وقناعاته، خيانة الحبيب لحبيبته، خيانة الذكورة للأنوثة، وهلّم جرّا.. لقد عمدت الكاتبة إلى تبرير جرائم النساء السجينات، وتبرئتهنّ منها، وأرجعت مسؤوليّة تلك الجرائم إلى الرجل. الذي وصفته على لسان السجينة نجاح قائلة: " تبّا ما أتعسنا...هناك فرق كبير بين رجل حقيقي، وشبه رجل، نحن وقعنا في وكر أشباه الرجال " ص 62. فظلم الرجل الشرقي ورعونتهم وجرمه - في نظر النقيب ابتسام علاّم – صنعا مأساة المرأة الشرفيّة. " الرجال مجرمون والدليل وجودكنّ بالسجن، أو على المشانق، نحن نقدر أن نكون رجالا ونساء في الوقت نفسه، كل واحدة هي رجل وأنثى، فما حاجتنا لهم؟ " ص 55.

فالخيانة - في نظر السجينات والسجّانات، وعلى رأسهنّ النقيب ابتسام علاّم – سلوك ذكوري بحت، وكأنّ المرأة معصومة منها. وهي نظرة نابعة من نفسيّة مريضة وشاذة. إنّ خوف النقيب ابتسام من فقدان حبّها الجديد إنعام، أو خيانتها لها، ولو بمجرّد التفكير في الزواج من رجل، جعلها تصوّر لها عالم الرجال جحيما لا يطاق، بينما صوّرت لها علاقتها بها جنّة ستنسيها (بحيرة الدم). وليتأمل معي القارىء الكريم قول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير. " أمامي ثلاث سنوات أروّض نفسي خلالها على الحياة الجديدة، لقد خانني رجل... فهل تخونني امرأة؟ وقد هتفت الليلة، وهي ترتعش فوقي: أحبّك.. أهيم بك.. إنّك لي إلى الأبد " ص 53. وفي موضع آخر تصفها، قائلة: " أجدها تلعب دور الإثنين وفق تتابع زمني: الرجل أو المرأة، فأصبح أنا رجلا أو امرأة وفق هواها " ص 54.

هذا الحوار الذي دار بين إنعام عبد اللطيف الحاير والنقيب ابتسام علاّم:

- (ابتسام): أووه صغيرتي الجميلة، أنت أجمل منّي، لذلك إذا خنتني مع واحدة سأقتلك

- (إنعام): محال.

- (ابتسام): تقسمين.

- (إنعام): أقسم.

- (ابتسام): إذن دعيني أخطط لك مستقبلك، سأريه صورتك.. ستكونين محظيته..طبعا ذلك مقابل شيء، لن تمنحيه نفسك مجانا، بالمقابل سأتحدّث مع سيادة الوزير، لتدخلي دورة أمنيّة في الأيام القادمة، حتى إذا خرجت فتحت صالون حلاقة، فتأتي إليك النساء، يجب أن نعرف كلّ شيء، زوجات موظفين كبار.. مديرين عامين.. مسؤولين.. ستكونين أكبر من مخبرة.. سيّدة أمن، وستملكين صالونا، وتبقى علاقتي بك، لا يهمني مع من تكونين من الرجال، أريدك أن تستغلّيهم، أو تستغلّي المسؤول الذي ستصبحين محظيته بشطارتك؛ لكنّك ستكونين لي وحدي " ص 55 /56.

يعكس هذا المقطع من الحوار، الذي دار بين النقيب أبتسام علاّم وإنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، ذروة الابتزاز الشنيع بجميع صوره. فمقابل حريّتها (الإفراج المسبق)، تتنازل البطلة (الراوية) عن مباديء شخصيّتها، وشرفها، وقيّم مجتمعها الدينيّة والأخلاقيّة والعرفيّة. أمّا النقيب ابتسام علاّم، فعلاقتها بابتسام لا تتعدّى تحقيق غرضين هما: امتلاك انعام نفسيّا وجسديّا وليبيديا لإشباع رغبتها الجنسيّة الشاذة، (السحاق)، وتوظيف (في صورة عبوديّة) لمهمّات التجسّس القذرة على حياة أسر المسؤولين والمدراء والموظفين الكبار وجمع معلومات عنهم لابتزازهم بها في حالات عزمت السلطة عزلهم من مناصبهم أو رفضوا طاعة أوامر رؤوس منتفعة ونافذة ومتنفّذة في مفاصل المجتمع. وهي من أرخص الوسائل التي تستعملها منظومة المخابرات ورجال الأمن في البلاد العربيّة وغيرها من بلدان العالم الثالث والرابع ووو.

لم يرحم المجتمع – بكل أطيافه - البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، ولا زميلاتها السجينات. لم يرأف لحالتها. رغم أنّها، كانت في موضع الدفاع عن شرف الزوجيّة. " الناس والصحف رأوني مجرمة أستحقّ القصاص، مشفقين على زوجي " ص 19. " أمّا أهلي الذين تخلّيت عنهم وتخلّوا عنّي منذ دخلت السجن، فقد لاموني على فعلتي، وحجتّهم، مادام زوجي وفّر لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومشهد القتل الشنيع " ص 19.

هذه إذن هي معايير التعايش الأسري، وبناء الحياة الزوجيّة، عند هؤلاء الناس المعتوهين. وهي معايير تفضح النفاق الأخلاقي والتناقض الثيوقراطي والظلم الاجتماعي المسلّط على المرأة الشرقيّة. شرعوا للرجل حقّ خيانة زوجته، مادام يوفّر لها الغذاء (العلف) والسكن (الزريبة) والعمل. وفي دستور أعرافهم وتقاليدهم الميّتة والمميتة، فإنّه من حقّ امرأة (القطيع)، أن تحاسب زوجها على أفعاله الشنيعة، ولو زنا بامرأة أمام عينيها. " لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلتزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال؛ حين يهينها تصمت، وإن ضربها تصمت، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة والزنا فما عليها، قبل كل شيء، إلاّ أن تكبت بنفسها وتستر كأنّها هي المذنبة، وإلاّ ستكون مضغة للأفواه " ص 27.

ما أغرب هذا المنطق الجاهليّ، وقد كان الرجل الجاهلي أشرف من رجل هذا العصر، بغض النظر عن الذكر الجاهلي الذي كان يئد ابنته، خوفا عليها من السبي. أقول، ما أغربه من منطق لا تستسيغه النفس الأبيّة، ولا يتحمّله عقل العاقل.

فبأيّ شريعة سماويّة، وبأيّ قانون وضعيّ، حُقّ للزوج الشرقي، أن يعامل زوجته الشرقيّة بأسلوب الغاب الإسمنتي؟ فهل زوجته لو كانت غربيّة، أجنبيّة، بهذا الأسلوب الفجّ؟ كلا، لقد رأينا رجالا شرقيين متزوجين بأجنبيات غربيّات، يدبّون وراء زوجاتهم كالكلاب الأليفة، المنزوعة السلاسل. ومنهم من ارتدّوا عن دينهم، أو ضيّعوا طقوسه العباديّة اليوميّة، وتركوا الصلاة والزكاة ولا الصوم ولا الحج، امتثالا لرغبات زوجاتهم الغربيّات. فما بال، هذا الرجل الشرقي يصول أمام زوجته الشرقيّة الطيّبة، الشريفة، الأصيلة، صولة الأسد خارج عرينه، ويخفي رأسه أمام زوجته الغربيّة، الأجنبيّة في الرمل مثل النعامة. وقياس الحال، أنّه هزبر هصور على زوجته الشرقيّة، وهرّ أجرب أمام زوجته الغربيّة. لقد أسست الكاتبة معمارها الروائي " غابات الإسمنت " وأقامته على تيمتي الكذب الأكبر والخيانة (لأنّ الخيانة أصلها الكذب)، (خيانة الأمانة، خيانة الزوج لزوجته، خيانة الزوجة لزوجها، خيانة البلد، خيانة الوظيفة، خيانة الذات، خيانة الدين، خيانة الأخلاق، الخ....). فكان أن انتقلت الخيانة من سلوك فرديّ غير نمطيّ، إلى ظاهرة اجتماعيّة، نمطيّة في دواليب المجتمع الشرقي. وقد عبّرت عن ذلك مديحة لصديقتها إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء) قائلة: " بعد مضيّ سنوات حبسي، ومن خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة، اكتشفت أنّنا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر، رجل الدين المزيف يكذب.. والسياسي الموالي لغير بلده يكذب..و المثقف الذي لا يحترم نفسه.. وغير المثقف الذي يتّخذ من الكذب باب سخرية.. والفقير والصغير والكبير..حتى أنا وأنت نكذب على بعضنا، في بعض التفاصيل الخاصة " ص 133.

في السجن: تحوّل مفهوم السجن في هذا المعمار السردي، من صورته التقليديّة، المتعارف عليها لدى العام والخاص؛ مؤسسة عقابيّة تأديبية لإعادة التربيّة والإصلاح وتقويم السلوك المنحرف، إلى عالم آخر أكثر خطورة على الفرد والمجتمع. مكان لصناعة الفساد (شذوذ جنسي (السحاق)، استهلاك المخدّرات، التجسس، الابتزاز، المتاجرة بالجسد، استغلال الجنس..). وهو – لعمري – انحراف عن الرسالة التربويّة المنوطة بها. فما فائدة السجن، إذا خرج منه الفرد أكثر خطورة على المجتمع؟ ما جدواه إذا لم يقوّم الفاسدين والمجرمين والمنحرفين والخائنين للأمانات، ليقي المجتمع من شرورهم؟

سيميائية السجن في رواية " غابات الإسمنت " أخذت بعدا نفسيّا، وتعدّت جغرافيّة المكان. فالسجينات والسجّانات كلهنّ، يعانين من وطاة السجن النفسي. فمثلا: الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) سجينة ضميرها الغافي تارة واليقظ تارة أخرى، سجينة جريمتها (قتل الزوج وعشيقته)، تلاحقها ليل نهار، في اليقظة والأحلام، سجينة ذاكرتها الملأى بالأحلام المعسولة، سجينة شذوذها الجنسي (السحاق) مع النقيب ابتسام علاّم وتعلّقها الشديد بها، سجينة الابتزاز، سجينة كرهها للرجل، سجينة عالم التجسس الذي أولتها إليه (حبيبتها) ابتسام علاّم. سجينة اللاإرادة. أمّا النقيب ابتسام علاّم، فهي السجّانة والسجينة في آن واحد. ذات شخصيّة مريضة، متناقضة؛ فهي في نظر السجينات (داخل السجن) امرأة القانون والمسؤوليّة والاستقامة، هي الآمرة الناهيّة، الساعيّة لخدمة السجينات والتعاطف معهن ومساعدتهنّ، هي بمثابة الأخت الكبيرة والمربيّة. لكنّ الحقيقة غير، وما خفيّ من شخصيتها لا تعرفه إلاّ إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) وأمثالها. النقيب ابتسام علاّم سجينة شذوذها وهيامها ببنات جنسها منذ طفولتها. هي، كما قالت عن نفسها: " إنسانة مشوّهة من الداخل " ص 67. وتروي أيضا عن تجاربها الشذوذية السابقة قائلة: " منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي، كنت أشتهي أن أقبّلها وفي يوم اكتشفت أنّها.. ارتاحت للأمر " ص 66. ثم تسألها حبيبتها إنعام: " أطنّ أنّك بقيت طويلا معها؟ " ص 66. فتجيبها النقيب ابتسام: " فترة، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها الى مقاطعة، ثم مع طالبة أخرى. استمرت علاقتنا ثلاث سنوات وانتهت بزواجها " ص 66.

في غيهب السجن التقت إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) مجموعة من النسوة السجينات (المعلّمة مديحة نعمان، نائلة العاصي، أم محمد العجوز، قارئة الكفّ، أم كامل، نجاة النشالة، سليطة اللسان، أشواق، أم نظيم، أم جبّار، كريمة المحكومة بالإعدام، رهام سهيل، ذات شموخ، وأخريات)، كلّ امرأة من هذه النسوة تحمل مأساتها الاجتماعيّة ومعاناتها النفسيّة، لكنّهنّ تجمعهنّ هموم متشابهة، ظلم المجتمع الذكوري لهنّ. قضاياهن مختلفة، (جرائم قتل للأزواج الخائنين، والاختلاس، والمتاجرة بالمخدرات، والبغاء وغيرها). وهذه رهام سهيل، السيّدة الجميلة، الشامخة، ذات الثلاثين من عمرها، مثلا، سُجنت في قضيّة اختلاس. " كانت تهمتها الاختلاس، سيّدة ذات موقع مهم.. مديرة أحد الأقسام في بنك، راودتها نفسها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة وضحاها، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين " ص 124. وهاهي إنعام عيد اللطيف الحاير (ميساء)، تعود إلى وعيها، لحظة، وتسأل نفسها، وهي تشاهد تلك الطقوس الشيطانيّة (قبائح بطقوس ومعتقدات غريبة) التي مارستها طائفة من بنات ذوات، قائلة: " ورجعت إلى نفسي أحدّثها: وأنت ما تفسيرك للقبائح التي تمارسينها مع سيّدة مثلك؟ " ص 154. فتجب وتبرّر ذلك بقولها: " لكنّهن يمارسن معصيّة وشركا...بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف " ص 154. وتضيف، وقد صحا ضميرها فجأة وأنّبها: " لا تختلفين عنهن بشيء، ولا تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهنّ وقلوبهنّ مقابل المال، أو اللائي يقنعن أنفسهنّ بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحيّة من أجل الغير جميعكنّ بنات هوى وعتمة وضلال. " ص 154. وتواصل إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، تلقّي ضربات صحوة الضمير في لحظة صفاء النفس، فتعترف لنفسها أنّها غارقة في عالم الرذيلة من رأسها إلى أخمص قدميها. فتردّد بنفس نادمة، ضامئة إلى الانعتاق من ظلمة الشذوذ الجنسي، قائلة: " يا ربّي، كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة؟ سلوك يدينه مجتمعي وديني؟ هل أنا مريضة؟ ربّما مريضة لأنني أشعر أنّ علاقتي مع ابتسام شيء لا مفر منه، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل والخيانة، خيار جنسي متاح دون عواقب وخيمة، وبغض النظر عن المحرّمات، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاء بالنسبة لي بعد جريمة قتل وسجن وسمعة فرضها عليّ المجتمع. من دون ابتسام ماذا كنت أعمل؟ كيف أواجه الحياة؟ ص 160.

أمّا مديحة، فقد كانت ضحيّة زوجها السياسي المعارض، وضحيّة نظام سياسيّ استبدادي. تخرج من السجن بريئة من تهمة المخدّرات، لتصيح سيّدة اعمال، وصاحبة " معمل خياطة ينبض بالحياة ويصب في عصب البلد.. مديحة هي المديرة، وهي التي تروّض خياطات ومهندسات مكائن ليرافقن مسؤولين كبار ويدخلن البيوت بمهام أخرى.. مربيات.. سكرتيرات. " ص 134. أما كريمة، الأم لولدين فقد نفّذ فيها حكم الإعدام، ولم يُقبل طعنها لتخفيف حكمها، ولعبت الاعتبارات العشائريّة والأسباب غير القانونيّة دورا في إعدامها. " في قضية كريمة اعتبارات قانونيّة وعشائريّة، الدولة نفسها لا تتحكّم بها، ألم تري أنّي لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل وهو حياتها " ص 81. إنّ ما يؤكّد استشراء الفساد في جميع مفاصل السلطة الحاكمة، وخصوصا جهاز القضاء، هو غياب الأحكام العادلة. والغريب – فعلا – هو حكم الإعدام على السجينة كريمة، بسبب تهمة ملفّقة من زوجها.

و هذه ضحيّة أخرى من ضحايا الذكورة الشرقيّة، إنّها السجينة نجاح، التي اتّهمت بالنشوز والزواج برجل ثان، وهي في عصمة زوجها الأول الذي طلّقها قبل سنة، وادّعى أنّه أعادها قبل انتهاء مدّة العدّة. " كانت ضحيّة لؤم زوج احترف الكذب والنفاق " ص59. " طلّقها وتركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق. لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري، ودون أن يخبرها أنّه أعادها. فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد. " ص 59.

إذن، كلّهنّ ضحايا ثقافة شرقيّة تقليديّة ظلاميّة، ونظرة دونيّة، وتأويل ظلامي للدين. تتساءل الراوي إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء) متعجّبة، ومحتجّة وبحنق وغرابة. " أي دين هذا الذي يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها؟ دون علمها. دون رضاها ربّما. هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر؟ " ص 59.

ثقافة باليّة الأفكار، ميّتة، مميتة، لا تصلح لتسيير قطيع من النعاج، ثقافة لا تعترف بالمرأة ككائن مساو للرجل، في الجزاء، خيره وشرّه. فإذا خان الرجل زوجته وزنا، فلا يحقّ للمرأة أن تحتجّ، بل من واجبها الصمت والكتمان والرضا. أمّا إذا خانت هي زوجها ووقعت في جريمة الزنا، فمن حقّ الرجل وواجبه أن يقتلها دفعا للعار ودفاعا عن الشرف، أو يطلّقها او يشتكيها للقضاء في أحسن الأحوال. وكأنّ العار لصيق بالمرأة فقط، والشرف للرجل دونها. والسجن، في حقيقة غاية وجوده، هو مؤسسة عقابيّة وردعيّة وتربويّة. لأنّه بُني ليحمي المجتمع المدني من المجرمين والفاسدين والخارجين عن القانون والمتمرّدين على النسيج الاجتماعي السليم. وبالتالي فهو وسيلة وليس غاية. هدفه إعادة السجين إلى وعيه واستقامته وتقويم سلوكه، لدمجه في المجتمع، لأداء رسالته الانسانيّة في جوّ من الأمن والطمأنينة والصدق والقناعة. غير أنّنا نلاحظ - كما روت لنا البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير - أنّ السجن قد تحوّل إلى بؤرة فساد، وليس عالم إصلاح. فيه وقعت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير، ضحيّة شذوذ جنسي شنيع (السحاق)، بسبب جمالها الذي أبهر النقيب ابتسام علاّم، مسؤولة السجن. ولم تمانع في ممارسة السحاق مع الضابطة، في بيتها. حيث كانت تأخذها إليه، وتمارس معها شذوذها الجنسي. إنّ هذا السلوك المقزز، سببه، كما تقول البطلة إنعام والضابطة ابتسام، كرههما للرجال. وهكذا تقع الضابطة ابتسام في حمأة الخيانة. حيث تخون وظيفتها ومركزها، من كونها امرأة تمثل القانون والدولة، وتحرص على تنفيذه وحمايته. إلى امرأة خائنة. لكنّ خيانتها للقانون والأخلاق سببه الرجل الشرقي، وبالتالي فهي بريئة من سلوكاتها وأفعالها الشاذة. " ماذا نفعل؟ أنا عاطفتي معك، مشاعري دلتني على نساء مثلي. وعندما تحرّكت نحو رجل أحببته وغدر بي، تيقنت أنّهم وباء، وثبت لدي أنّ مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي، حتى وصلت إليك. " ص 158.

السياسة والخيانة والجنس:

و في الرواية، ارتبطت السياسة بالخيانة. فالمسؤولون يسوسن البلد، ويتحكّمون في مصيره وخيراته انطلاقا من الغرف المظلمة، لصالحهم ولمصلحة أزواجهم وأبنائهم وعشيقاتهم. لهذا السبب زرع جهاز الأمن جواسيسه في كلّ مكان، وخاصة أماكن تواجد المسؤولين الكبار. تقول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) عن وظيفتها الجديدة، التي كلّفتها بها النقيب إبتسام علاّم وعن منزل رئيس غرفة التجارة: " هذا المنزل للعهر وعمل الصفقات، وظيفتي أن أنقل للسيّدة النقيب ما بداخله " ص 118. وتصف النقيب ابتسام علاّم رئيس غرفة التجارة بقولها: " الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين " ص 120.

انتحلت الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) - وهي المرأة القاتلة لزوجها وعشيقته والعاهرة والشاذة جنسيّا - دور الجاسوسة والمخبرة. وهو دور حرّكته نزوات الابتزاز، " لا تظني أنّك جاسوسة أو مخبرة.. أنت مثلما نقول رجل أمن، سيّدة أمن، وقد جعلت شعبة الأمن الوطني تتطلع على أسرار كثيرة، غير العري، سيفاجئون السيّد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنّهم لا بد من أن يزيحوه " ص 120. " عليّ ان أثبت كفاءتي؛ أنا السجينة الموظفة " ص 107. هكذا تحوّلت إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) بسبب الابتزاز المالي والجنسي والوعد بالإفراج المسبق، من أجل الحريّة، " حريّة مغمّسة بتجسس وزنا ومحرّمات " ص 211، بعد تخفيض المدّة إلى ثلاث سنوات سجنا فقط، بدل ثماني سنوات. إلى عنصر من عناصر الأمن لحماية البلد من الخيانة والفساد السياسيين. وهي لا تكاد تصدّق. (حاميها حراميها). إنّ البلد، أي بلد، في حاجة إلى أناس شرفاء لحمايته؛ شرفاء في الوطنيّة والعرض والدين والفكر والثقافة. أمّا أمثال النقيب ابتسام علاّم وإنعام عبد اللطيف الحاير ومثيلاتهما من عناصر الأمن والمخبرين والمخبرات، فهم شخصيات مريضة، في حاجة ماسة إلى من يحميهم من ذواتهم، ويعالجهم من أمراضهم النفسيّة الخطيرة. هل من المعقول، أن تدير امرأة (ضابطة) (كابتسام علاّم)، سحاقيّة (من السحاق)، شاذة جنسيّا، مؤسسة عقابية لإعادة التربيّة؟ هل من المنطق أن تتحوّل امرأة – كإنعام - من مجرمة، قاتلة، عاهرة، شاذة جنسيّا (سحاقيّة) – بين عشيّة وضحاها – إلى جاسوسة أو مخبرة لمصلحة البلد؟ إنّه لأمر عجاب يشيب له الولدان.

خاتمة:

تقّول الكاتبة الروائية ذكرى لعيبي، بعد الإهداء مباشرة: " من يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ وابتذال وخدش لحياء مصطنع؛ والمتطرّفون، المتشدّدون، القريبون من ديناميت السياسة؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية ". وقد ذكّرتني هذه النصيحة، التي أسدتها الكاتبة ببعض القنوات التلفزيّة، التي تعرض أفلاما سينمائيّة، على الجمهور، وتضع ملاحظة {ممنوع على أقل من 10 أو من 18 سنة). وهي تعتقد – واهمة - أنّ نصيحتها ستطاع ويؤخذ بها. إنّ الأدب الجريء، لا ينحصر في الجنس فقط، رغبة في إثارة الغزائز (الليبيدو)، بل إن الكتابة الإبداعيّة في حدّ ذاته عمليّة جريئة، عندما يمارسها المبدع بعيدا عن خيانة ضميره ومجتمعه وأحلامه. أمّا الذين يضعون القيود والأغلال في معصميّ الكاتب، فإنّهم يحرمون أنفسهم – قبل الكاتب – من الحياة الإنسانيّة الحرّة، الصادقة.

وختام القول، فإنّ رواية " غابات الإسمنت "، من بنات أنامل كاتبة عراقيّة شرقيّة، عاشت طفولتها وشبابها في خضمّ مجتمع شرقيّ، أنهكه الجهل والتخلّف وأدمته التقاليد البائدة، والعادات البالية، والأزمات النفسيّة والاجتماعيّة ومزقت نسيجه الأزمات السياسيّة والحروب الأهليّة والإقليميّة والإثنيّة. (و شهدت شاهدة من أهله). رواية، جمعت فيها الكاتبة بين، المعقول واللامعقول. بين الجرأة والحريّة، بين المسكوت عنه والمفصَح عنه في واقع المعيش، غلب عليه السواد. هي رواية فضحت زوايا مظلمة، جدرانها الاستبداد، وسقفها الفساد، وأرضيتها الاستعباد، وحرّاسها الخونة والمال القذر والجنس الحرام. لكنّها، بالمقابل، ليست مرآة للمجتمع الشرقي بكل أطيافه وأعماقه وأزماته المختلفة (رواية نمطيّة) - فكم في الشرق من مساحات مضيئة، يغار منها الغرب - وإنّما هي غوص (جريء) في بعض أدغاله الاجتماعيّة والنفسيّة الخفيّة، وتعريّة لبعض الطابوهات المسكوت عنها خجلا أو خوفا أو لامبالاة. وهي، وإن كانت في المجتمع الشرقي من الطابوهات الممنوع الجهر بها، فهي في المجتمعات الغربيّة أشدّ استفحالا، وقد انفلتت من قيود الخفاء والتحفّظ، وخرجت إلى الشارع والعلن، ولعلّ تنامي ظاهرة المثليّة الجنسيّة خير دليل على الانهيار الأخلاقي عند طائفة من الغربيين، الخارجين عن الفطرة الإنسانيّة السليمة. إنّ الحريّة مكسب إنسانيّ عظيم، لا غنى عنه، في مسار الحياة البشريّة. حتى الطبيعة لا يمكنها الاستغناء عنها. ولكنّ الحريّة دون ضوابط أخلاقيّة وقيّم إيجابيّة ومسؤوليّة راشدة، تفضي إلى عوالم الفوضى، وتقود البشريّة إلى الفناء عاجلا أم آجلا.

ومن إيجابيات هذه الرواية، كشفها للمستور والخفيّ. فإنّ قصص السجون في العالم العربي، وفي العوالم الشرقيّة والغربيّة، أغرب من حكايات ألف ليلة وليلة، قصص منحطة، لا يكاد العاقل تقبّلها وتصديقها، لكونها ترتقي إلى عالم الخرافات والأساطير وأحلام اليقظة. وحسب، علمي، فإنّ رواية " غابات الإسمنت " لذكرى لعيبي لها فضل السبق الأدبيّ والإبداعيّ في ساحة الرواية العربيّة المعاصرة، لتناول (طابوهات السجن) في مجتمع عربي لايقترب منه الإعلام أو بشكل أدق " يخشاه".

إنّها رواية اتّسمت كاتبتها بالجرأة الأدبيّة والفكريّة والأخلاقيّة، انطلاقا من التزامها بالشجاعة الأدبيّة، في قول الحقيقة، وعدم خيانة مجتمعها وقرّائها، من مختلف القناعات الايديولوجيّة.

و إذا تفحصنا أسلوب الروائيّة ذكرى لعيبي، في هذه الرواية، التي بين أيدينا، وجدناها أسلوبا أقرب إلى أسلوب التحقيق الصحفي، أسلوب سهل ممتنع، فيه من السلاسة والإنسيابيّة ما يدفع القاريء ويغريه لمواصلة قراءة الرواية، وربّما، يدفعه شغفه بها إلى إعادة قراءتها.

ومهما قيل أو كُتب عن رواية " غابات الإسمنت " للكاتبة العراقيّة ذكرى لعيبي، من نقد، سواء أكان مدحا أم ذمّا. ومهما تعرّضت إلى النقد اللاذع، فإنّ هذه الرواية، المتخمة بالرموز والأحداث (المدهشة)، قد باحت للمتلقي العربي، بكلّ توجّهاته الإيديولوجيّة، بما لم تبح به شهرزادُ لشهريارَ. ولم تطق السكوت عن الكلام المباح واللا مباح في هذا الزمن العربي المترهّل.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر 

......................

هامش:

* ذكرى لعيبي: كاتبة وروائيّة وقاصة وشاعرة عراقيّة لامعة وغزيرة الإنتاج الإبداعي. من مواليد ميسان. هاجرت من العراق عام 2000 م، وهي تقيم بين ألمانيا ودبي. عضو في كل من: إتحاد كتاب وأدباء العراق، واتحاد كتاب وأدباء الإمارات، واتحاد الصحفيين العراقيين واتحاد الصحفيين والكتّاب العرب في أوربا. ودارة الشعر المغربي ومؤسسة حميد بن راشد النعيمي لجنة الطفولة والشباب(عضو سابق) مؤسسة المثقف العربي/ سيدني – أستراليا، مؤسسة وشبكة صدانا الثقافية / نائب رئيس إدارة مجلس المؤسسة لجنة دعم كتاب الطفل / القيادة العامة لشرطة الشارقة / عضو مؤسس نادي دبي للصحافة. بيت الشعر في الشارقة.

من إصداراتها: لقد جاوزت إصدارتها 36 منجزا أدبيا، توزّع بين مجموعات قصصيّة للكبار وللأطفال وروايات ودواوين شعريّة ونصوص مفتوحة، وكتب مشتركة). نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، مجموعات قصصيّة (الضيف، حبّ أخرص، ثامن بنات نعش، رسائل حنين، للخبز طعم آخر)، إضافة إلى مجموعة من الروايات (خطى في الضباب، يوميات ميريت، غابات الإسمنت،) كما لها إسهامات كثيرة في أدب الطفل (شمس ورحلة الأمس، حكاية الطاووس والثعلب، اللصوص والقلم المعطّر، قطرة الماء السعيدة)، أما إسهاماتها الشعرية، فنذكر لها ما يلي: (امرأة من كوز وعسل، يمامة تتهجّى النهار، بوح في خاصرة الغياب).أما الكتب المشتركة، فنذكر: ترانيم سومريّة المشتركة، العبور إلى أزمنة التيه، حكايات ميشا) وغيرها من الكتب.

لها لقاءات وأمسيات أدبيّة وشعريّة في كل من:

معرض الشارقة الدولي للكتاب.

مهرجان الشارقة القرائي للطفل.

إتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

جمعية المثقفين العراقية / مالمو- السويد

النادي الثقافي العربي / الشارقة

قناة الشارقة الفضائية.

قناة الاتجاه العراقية.

قناة الشرقية من كلباء – هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون.

** ميسان: إحدى محافظات العراق في شرق البلاد على الحدود الإيرانية، عاصمتها العمارة، الواقعة على نهر دجلة. وقبل عام 1976 م، كانت تُعرف بمحافظة العمارة.

في المثقف اليوم