قراءات نقدية

زكية خيرهم: قراءة في قصيدة الشاعر العراقي المغترب نجم عذوف

أسمال الصوت، تخلع صمتها، تلك اللوحة الشعرية البديعة، تنبض بالحياة والجمال، فتتأملها وترى الحقائب الخاوية والأجواء الثقيلة والجبال العجاف، وتشاهد الطيور تطير بأجنحتها المتكسرة، وتتدلى النجوم من السماء المنهكة، فتجد نفسك مبعثراً بين فصول القصيدة، تستمع إلى الأصوات المبحوحة التي تشعل الصحاري، وتشعر بالرياح التي تمزق أسمال السماء. في الصمت تتجلى الكلمات العميقة، وفي الألم تنبثق الأحلام الجديدة، وفي الرمز تتشكل الحقائق الخفية، وفي الشعر تتجلى الإنسانية الحقيقية، فأسمال الصوت تترجم لنا الواقع، وتخبرنا عن حقيقة الحياة الوجودية، ونسمع الأصوات ونستمر في التأمل وراء الظلال المبعثرة. فالشعر هو لغة الروح والفكر، والموسيقى هي الإيقاع الذي يجسد هذا الفكر، فنحن نرقص على أنغام هذا الإيقاع، ونردد كلمات هذه القصيدة الجميلة، التي تحكي قصة الإنسان وحياته الغامضة، وترسم لوحة جميلة عن الواقع والحلم والحياة. يا للفوضى والخراب الحاصل، صوت المغنية يهز المكان الفارغ، أصوات الحروب تسود المكان المهجور، كأن الدمار يتسلل إلى كل زاوية. جبال فشلت في حمل ثقلها وسقطت، أجنحة الطيور تكسرت، انهار جفت، شجرة الصبار لو استراحت ستثير الصحراء، بصوتها المدوي والهائج العاصف. في هذه الحالة من الفوضى والخراب، تتحمل الكائنات بعضها البعض، توزع الأشياء على بعضها كالقطرات التي تنثر على البحر والرمال الناعمة، كالندى الذي يروي الحدائق الزاهية، كالقصائد التي تعانق شغاف الأشعار. ويتوصل الشاعر إلى فكرة أن الحياة تحمل في طياتها الكثير من الإيقاع والتوازن. فكل شيء في الكون ينبض بالحياة وكل الكائنات تردد نغمة الوجود والتفاني. في مكانٍ مهجورٍ، صوت المغنية يُسمعُ وفي الأفق، آهاتُ الحروبِ تَدُوّي، ينهار كُلّ شيءٍ حولَنا ويتفكّكُ. جبالٌ لم تَحتمل، سقطتْ وانكسَرت، أجنحةُ الطيورِ، الأنهارُ الجافّةُ، شجرة الصبارِ، تُثير الصحراء بصوتها المدوّي. تتحملُ الأشياء بعضَها بعضًا، توزّع القطرات الماءَ على البحر والرمال على الشاطئ والندى على الحدائقِ والقصائدُ على الشعراءِ. في ختامِ القصيدةِ، يعبّرُ الشاعر عن حقيقةٍ يُحْكَى عنها، لكنّها تخْتفى. في هذا المجتمعِ، لا فرقَ بينَ الكراسي مليئة بالأشخاصِ، والفارغةِ يتماهون، عدم الأهميةِ للفرد في المجتمع، وتَتراوحُ الحضورُ والغيابُ في نظرِ الآخرين. تعبرُ هذه القصيدةُ الشعريةُ بجمالها، عن الفوضى والخرابِ، وتوزّعِ الأشياء وتتوجّ بفكرة، تقدّس الفرد في المجتمع.

أساليبٌ شعريّةٌ، تُرجمتْ بلغة ساحرة لإيصالِ الرسالةِ، وجعلِها تنبضُ بالحياة. يدور صدى صوت المغنية المتهافت في الفراغ المحيط بالكراسي، كضجيج الحروب العنيفة، يهوي عليها الظلام كصخرة هائمة في بحر الجحيم المرعب. ثم تتحوّل الكلمات إلى نغمات موسيقية تشبه صوت شجرة الصبار الوحيدة في صحراء خربة. وتتدحرج الأدلة المهتدية بالنجوم الخائبة في الليالي المشؤومة المفتوحة للموت. ترمز إلى الفراغ الذي يتنفسه الشاعر ويتأمله في مراحله المتباينة، ويهز صوت السكسفون البحر، يرقص مع تياراته الذي يتناسل بحنان، وتحكي كؤوس البحر أسطورة العشاق الذين ضاعوا في عمقها، وتنساب القصائد بين الأرجاء والمدن والحدائق، مثل قطرات الماء العذبة في إيقاعها الخالد. تحمل في ثناياها أسرار الحياة والحب والإنسانية الجميلة، تعبيراً عن وجهة نظر الشاعر الرومانسية التي تأمل في الطبيعة وتعانقها بشوق، وتلمس الحياة بكل أشكالها وألوانها، وتشعر بأنها فن جميل يحمل الكثير من الإيقاع والأناقة. في المقطع الثاني تهافتَ صوتُ المغنية ، في زحمة الكراسي الفارغة، هنا الصوت يستعير شخصية المغنية ويشير إلى الفشل والخسارة التي تجلت في عدم وجود الجمهور في الحفل. ويستخدم الشاعر هنا الاستعارة لإضفاء طابع رمزي واستثنائي على الحدث، حيث يجعل الصوت يتحول إلى صرخة تمثل حقيقة الوجود الإنساني الذي يبحث عن الحضور والاهتمام. استعارت ضوضاء الحروب لتهبَ الجحيم جثة الحجر، هنا الضجيج الناتج عن الحروب يتحول إلى رمز يشير إلى الدمار والخراب الذي يحدث في العالم، وتتحول الحرب إلى جحيم مشتعل يطال كل شيء، حتى الجحيم يمكنه الانتصار على الحجر. الجبال التي أجهضَتْ حملها، منحت سرب الطيور أجنحةً متكسرة. هنا الجبال تمثل القوة والصلابة ولكن عندما تجهض الحمل يصبح للضعف أثره ونتيجته، وتصبح الجبال عاجزة عن حماية أجنحة الطيور التي تعيش في جوها. ويعكس هذا السياق معاني العجز والضعف التي تحدث للأشياء والأحداث التي تظهر قوة وصلابة في البداية. ثمةَ نهرٍ جَفَّتْ أثداءه، لعقَ سراب مطاردته، هنا يتم استخدام الاستعارة لتوضيح فكرة اليأس والخيبة التي تنتاب الإنسان عند فقدان الأمل والحلم وعندما تجف نهر الحياة وتندثر أثداؤه، يبقى الإنسان يطارد الأحلام ويلاحق سراب المستحيل. في المقطع الثالث، يتأرجح صوت السكسفون متراقصًا مع كؤوس البحر التي تعاني من دوارها، ويروي قصص العشاق المفقودين في أعماقها، وهذا يعني أن الحب والرومانسية يمكن أن يوجدان في الأماكن الأكثر غموضًا وعمقًا. وفي المقطع الرابع، تتدفق القصائد بين الجداول والسهول والمدن والحدائق، كقطرات الماء الجارية بإيقاع موسيقي عذب. وهذا يشير إلى الحياة والحب والإنسانية التي تتدفق من كل مكان وتحمل في ثناياها أسراراً وحكايات لا تنتهي. في المقطع الخامس والأخير، تستخدم الكراسي المملوءة بالطرش كرمز على عدم الفرق بين الأشياء المختلفة، مما يدل على أن الجميع متساوون بشكل أساسي، وأن الفروقات تنشأ بسبب الظروف الخارجية، وليس بسبب الفروق الأساسية بين الأشياء والأشخاص. بهذه الطريقة، يحاول الشاعر إظهار العالم بشكل شاعري ومجازي، ويروي قصته وحكايته بإيقاعٍ جميل، ينقل القارئ إلى عالمٍ مختلف ومفعم بالمعاني والألوان والرموز.

في البداية، يستخدم الشاعر أدوات الرمزية لوصف حالة الإحباط والفراغ التي تسيطر على المكان، حيث يصف صوت المغنية المتهافت بضوضاء الحروب والكراسي الفارغة بجثة الحجر التي تهب الجحيم بها. وفي المقطع الثاني، يستخدم الشاعر صورة الصحراء والشجرة الصبارية لوصف قوة الصوت المبحوح، ويرمز إلى الحالة الفارغة التي يشعر بها الشاعر من خلال الأدلة المهتدية بالنجوم الخاوية في الليالي الثملة بالموت. ثم يأخذنا الشاعر في رحلة موسيقية نحو البحر والكؤوس المصابة بدوار البحر، وكذلك الصوت المفتعل للسكسفون الذي يحاول إعطاء هدوء للأجواء. وفي المقطع الأخير، يستخدم الشاعر رمزية الكراسي المملوءة بالطرش لإيصال فكرة المساواة بين الأشياء المختلفة، حيث يؤكد على أن الاختلافات التي نراها في العالم تنشأ بسبب الظروف الخارجية وليس بسبب الفروق الأساسية بين الأشياء والأشخاص. في الأبيات التالية، يصوّر الشاعر حالة من الفوضى والتشتت، حيث تتباين أصوات المغنية والقيثارة مع الاستحواذ الذي يمارسه الصوت المجهول المليء بالضجيج والهمس. ويُشير الشاعر إلى استعارته ضوضاء الحروب في تصوّره للجحيم، وهو ما يمثل الفوضى والتشتت الذي يحكم الواقع. ويتحدّث الشاعر  نجم عذوف عن المحيط وهو الكائن الضخم الذي يحمل الكثير من الحياة والحركة، ويصف البحر بأنه يقفز فجأةً على متن العاصفة، يحاول أن يُريح الأشرعة من علّتها. كما يتحدث عن القطرة التي تمسك بالبحر وتوزّعها على الجداول، هذا يمثل الفكرة العامة للشاعر بأن كل شيء في الحياة مرتبط ببعضه البعض، وأنه يجب علينا التعاون والتضامن للحفاظ على التوازن والتناغم في الحياة.

أسمال الصوت تخلع صمتها  قصيدة فلسفية تحمل معاني متعددة ورمزية قوية، تحمل أسلوبًا شعريًّا مميزًا، وتعبيرات متناغمة، ولها صور بديعة وتشبيهات جميلة، كما أنها تدعو للتأمل في الحياة والطبيعة ومفاهيم الوجود والتفكير في أنفسنا وعلاقتنا بالآخرين والعالم من حولنا. انها لوحة فنية شاعرية مذهلة تداعب الحواس وتسحر العقل، تفتح المجال للتأمل والتفسير، وتحتوي على رموز تجسد أفكاراً عميقة ومشاعر لتعبر عن موضوعات متعددة. مثل الحرب والتدمير والجمود، وتحويلها إلى رموز للأشياء الجميلة والموسيقى والفن والتفاؤل والحياة. المغنية التي تم وصفها بأنها تهافت صوتها في زحمة الكراسي الفارغة تمثل الفنانة التي تبحث عن جمهور يستمع لها ويفهمها، ولكنها تجد أن العالم الذي يعيش فيه الناس قد فقد القدرة على الاستماع والتفكير. يمثل صوت المغنية أيضًا الصوت الذي ينطق بالحقيقة والإيمان، ولكنه يختفي في الجحيم جثة الحجر، وهذا يمثل صعوبة توصيل الرسالة الحقيقية في عالم مليء بالجمود والتدمير. تمثل الجبال التي أجهضت حملها جبالًا كان من المفترض أن تنبت فيها الأشجار والزهور وتزدهر الحياة، ولكنها أصبحت جبالًا جامدة وبلا حياة، وهذا يمثل الخيبة والفشل. النهر الذي جف أثداءه يمثل الحياة التي فقدت حيويتها وانطفأت، وهو يشير إلى صعوبة الاستمرار في الحياة عندما تفتقر إلى الحيوية والحركة.

***

زكية خيرهم

في المثقف اليوم