قراءات نقدية

ليلى تبّاني: خَـيّ جيديوس.. لكم أحقادكم ولي صفحي.. لكم أوهامكم ولي يقين

" أحبُّ اسمي الجديد، نادني "خيّ جيديوس". أتعلم يا صاحبي؟ بهذا الاسم أصبحت إنسانا جديدا.. فقد ساعدَني لأتغلّبَ على ماضيّ الذي أضحى هاجسي، ومنحني الأمل بالمستقبل.. يوم حملت هذا الاسم شعرت بمقدرة عظيمة على المغفرة .." هكذا تنهي  الكاتبة المخملية  "مارلين وديع سعادة"روايتها "خيّ جيديوس "، الصّادرة بطبعتها الأولى سنة 2013 من ضمن منشورات مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية. في مركز الرّواية، التي تقع في 142 صفحة، واثنا عشر فصلا غير معنون، متباينة الشّخصيات من رجال ونساء وأطفال، من شتّى الطبقات،  توشَّح غلاف الرواية برسم لامرأتين تبدو على ملامحهما الباهتة بوادر الحزن، إحداهما تواسي الأخرى، يوحي المشهد بتصميم على مواجهة المصير المكلّل بالنهايات المخيّبة، والخسارات المتلاحقة، وغير ببعيد يظهر شابٌّ يحاول أن يواسي انكسارهما، أماّ الموغل في المشهد فلا يتوه عن طيف رجلين في أعلى الغلاف يتعانقان، وكأنّ الخلاص من براثن الكراهية كلّلاه بتحابهما وتصافحهما، فيما احتوى الغلاف في أسفله تقريبا اسم الكاتبة الثّلاثي، بخط أبيض بارز، واعتلاه عنوان الرّواية الرئيسي ملحق بعنوان فرعي يختزل أحداثها  " ثمار الحرب وقائع وأبعاد "، قابله في الشقّ الثاني ملخّص كلمة الناشر المؤثرة التي تحمل في طيّاتها إيحاءً يغري القارئ باستكناه النّص، وسبر أغواره فتعمّد مصمّم الغلاف على إقحامها لما فيها من التشويق والدافعية لولوج عالم الرّواية. أمّا لون الغلاف  فقد استحوذ عليه اللّون الرمادي  وسيطرته على الجزء الأكبر من هذه المساحة الاشهارية، وحتى وإن لمسنا حرص مصمم الغلاف على إحداث نوع من التطابق بين اللّون والمواضيع الممثلة، فسيادة اللون الرّمادي  المزاوج  لللّون الأخضر، جعلت صورة الغلاف تبدو وكأنها تعبّر عن واقعية الأشياء والمواضيع المشكّلة لهذا النص الروائي،والّتي تراوح بين رماد  خلّفته الحرب وخضرة ربيع تَعِدُ به القلوب المتسامحة المتحابّة.

لا بدّ من الإشارة إلى الكاتبة والتّعريف بمنتوجها الأدبي الذي كنت أنا شخصيا أجهله، لولا مقال شدّني في إحدى المناسبات، جعلني أوغل في نصوصها وأبحث لها عن المزيد، حتى وجدتَّني أتواصل معها، وتغدق على بالمحبة وتهديني شيئا من كتاباتها، وكانت روايتنا قيد الدراسة. مارلين وديع سعادة، كاتبة مخملية الأسلوب، القلم بيدها مطواع، طود قائم في نصاب صافٍ يشفُّ عن داخله، به النورُ أشعَّ فيه فشفّ عن روح جميلة ناعمة متحابة متآخية، سعت إلى الكتابة فسخّرت قلمها خادما مطيعا لنشر الخير والتآخي بين البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم. تشي نصوصها بمهارة عالية في توظيف اللّغة، وتزفّ منتوجها الأدبي بأسلوب سلس راق، وهي إذ تكتب تظهر أشياء وتضمر أخرى، لا تبوح بها فما دام لكلّ امرىء باطن لا يشركه فيه إلاّ الغيب وحده، إلاّ ما تنبىء به ضمن ما ينفلت من زلاّت قلم يطيع سطوة جأش المشاعر، هذا إن كان قارئها على دراية بالفكر متوغّل في التأويل النّصي، فلا يجد من الصعوبة في الكشف عن ميل كاتبتنا إلى الفكر والتنوير وحب الفلسفة والحكمة، فلا تنفكّ تنهل من كبار المفكرين وتنوّه بالنادي الفلسفي البيروتي "أستازيا فوريم " وهي التي تفاخر باستلامها كتبا من المفكّر اللبناني جهاد نعمان ومن غيره من المفكرين والفلاسفة، مؤمنة تماما أنّ أدبا لا يتفلسف، وفلسفة لا تتأدّب يبقيان بدون بقاء، لأنّ كلًّا منهما واجب وجودٍ للآخر. وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة، فلا تكتفي ولا تكفّ عن التزوّد بمختلف فنون الأدب من شعر وقصّة وراوية، تقرأ بنهم واهتمام، وتحلّل ما تقرأ، فتزيد من ثراء فكرها وسماقة لغتها.فتجد في القراءة ملاذها وحلاّ لمشكلات الحياة، كما ترى أنّ في غير القراءة تتعقّد كل البسائط.

وحي العنوان نوافل وأركان:

حملت الرواية عنوانا لافتا مثيرا  للتساؤل والبحث والإلحاح على قراءة النّص من أجل فكّ شيفرته العميقة، ليجد القارىـىء نفسه يبحر بين أمواج بحر الرواية وأحداثها، يتقفّى أثر العنوان  فلا يجد له أثرا، سوى أن يستسلم للاستمرار في القراءة، ليستمرّ في الاكتشاف عبر فصول، تعمّدت الروائية عدم عنونتها تجنبا للافصاح عن أحداثها، ليجد بذلك نصّا مفتوحا يكاد يخلو من العنوان لولا أن يتفطّن القارىء إلى كلمة "خيّ " ليربطها بالتعميد والصلاح والغفران والأخوة بين أطياف البشر على اختلاف توجّهاتهم، ووفق اسقاط العنوان الفرعي " ثمار الحرب وقائع وأبعاد " ينقشع ضباب الرؤية وتنجلي الغمامة أمامنا،كي ندرك شيئا فشيئا تبعات الحرب وثمارها وأبعادها وامتداداتها البائسة. فيختزل العنوان كلّ فرائض النص ونوافله وأركانه،ما ينمّ عن مهارة الكاتبة في انتقائه كعتبة فاصلة جامعة مانعة. لنصل في الأخير إلى أنّ العنوان هو اسم البطل الرئيسي للرواية الذي بدأت به وانتهت عنده ومعه باسم هو اختاره لنفسه " خيّ جيديوس " قائلا : "المغفرة لكلِّ من يسيء إليّ، حتّى الذين قتلوا أهلي.. لقد منحني اسمي الجديد محبّة كبيرة لكلّ الناس.. كلّنا أخوة "..ص 137.

يدقّون طبول الحرب ونعزف ترنيمة الحب

لا يخفى على القارئ أن رواية " خيّ جيديوس " في مجملها، أحداث وقعت بين سنتي 1988 و1976.لم تكن مجرد رواية يسرح فيها خيال الكاتبة لينسج أفكارا غريبة، إنما هي قصص حقيقية لشخصيات حقيقية أيضا، عايشتِ الحرب اللّبنانية الداخلية، لم تعمد الكاتبة  إلى تدوينها إلاّ بعد مدّ وجزر، وأخيرا دوّنت الوجع، فكان انجرافا في عالم البؤس حيث العنف وحده قوت المبدعين اليومي.

اختارت الكاتبة حقبة زمنيّة محدّدة تأجّج فيها العنف واستفحل البؤس وتفشّى الفساد فغمر القلوب بالغيّ وعماها عن الرّشد، إنّها قرية " الغمر" مسرح الأحداث وملحمة الجرائم غير المبرّرة، تقلّدت دور البطولة أربع شخصيات رئيسية وأخر ثانوية، وعلى لسانهم سُردت الأحداث بضمير الهو، دمجت الكاتبة أصوات متعدّدة للسرد، بفنيّة متقنة. وأسلوب المحترفين  حيث تفتتح النص بهروب الطفل "وسام" ــ الشخصية المحورية في الرواية ــ عبر شاحنة نقل الخضار وتعرّضه لحادث أفقده الذاكرة، لم يكن هروبه سوى النّفاد بجلده من المحرقة التي مَسّت القريةَ وأتَتْ على أخضَرِها ويابِسها، لتتبنّاه سيدة دون أن تعرف اسمه ولا هويته، كانت السّيّدة من عائلة " الصّائغ" اضطرت لمنحه اسم "عصام" . تتوالى الأحداث بسرد ممتع ووصف دقيق مترامي الأطراف وموغلا في التفاصيل، تقلّدت دور البطولة "مريم" إلى جانب السّيد "ناصيف الرّاعي "، كانت مريم البنت الوحيدة للخواجا "جورج سالم " الذي قضى رفقة زوجته جرّاء المذبحة التي طالت منزله، فالكل أسير للحظات العنف وضرب الخناجر في "الغمر" لم تسلم مريم من شرّ البرابرة، وكانت ضحية هيجانهم الجنسي، فكانت الفتاة الأشهى والأقرب من الاغتصاب الذي أثمر طفلا من الخطيئة التي نسبت إليها دون ذنب منها ولا حيلة، الأمر الذي عرّضها لنبذ أهل القرية وحقد جارتها " حنّة"، التي تتفنّن في أذيتها من سبب ومن دونه، تتوالى الأحداث لتنسج خيوطا تتداخل فيها شخصيات ثانوية كثيرة وتظهر الشخصية الرئيسية الثّالثة في الرواية متمثّلة في الفتاة " هبة" التي هي ابنة عمّ لمريم،  تلتقي بمريم وبأبي ناصيف الذي كان يرعاها ويقوم بشؤون منزل والدها "الخواجا جورج"، تتشابك الأحداث وتتعاظم لتصل إلى الذروة، حيث يلتقي "عصام" بهبة ويجمعهما حب كبير لينتهي بموت هبة رفقة خالها بعد أن تعرف أن عصام هو نفسه الأخ الضّال لمريم وهو "وسام" ابن عمّها الذي قررت مربيته الرحيل به الى الخارج، تستمرّ ثيمة البؤس والحزن والمعاناة تطغى على ذلك السرد القصصي الجميل الذي يجبر القارىء على استكمال النهاية دون توقّف، لتتعاظم عند اصابة مريم بالفالج ووفاتها بعد معاناة مع المرض تاركة وراءها " شربل" ثمرة الخطيئة. يستعيد "وسام " ذاكرته ويستعيد معها كل معانيي الانسانية، فيصير أخا لشربل يأخذ بيده ويرعاه ويستقران في دير الكهنوت، حيث المحبّة والسلام يقتبس وسام اسما جديدا يليق بوضعه " خيّ جيديوس " ويصبح ابن مريم " الأخ شربل". فيقرّر الأخوان الغفران والتسامح لأنّه أرقى أنواع النسيان. وتصفية أكداس من الكراهية والحقد، هروبا من مجتمع الكراهية فيه تجمع والحب يفرق، بعد أن تيقّنا، أنه لا يوجد إلا سحر واحد وقوة واحدة وخلاص واحد، وهو الحب التسامح والغفران، فقرّرا أن يعزفا سويّا ترنيمة الحبّ بعد دقّ طويل لطبول الحرب.

***

القارئة الوفية ليلى تبّاني من الجزائر

في المثقف اليوم