قراءات نقدية

بديعة النعيمي: تعرية المسكوت عنه في "لعبة الدوائر الفارغة"

تعرية المسكوت عنه في "لعبة الدوائر الفارغة" للكاتب العراقي "علي لفته سعيد"، الصادرة عن دار العراب/ دمشق/2023 ودار الصحيفة العربية / العراق.

شهدت مادة روايات ما بعد 2003 التحولات العنيفة التي مر بها المجتمع العراقي بعد الإحتلال الأمريكي والذي عمل على تمزيق العراق كهوية بتضخيم أقوامه وطوائفه والصراعات الدموية والقتل على الهوية تمهيدا لبناء عراق طائفي جديد وما تركه من معضلات وقضايا شائكة لا تزال تُعمل في النسيج العراقي إلى تشظي الوطن عندما تنازعه لصوص الطوائف بأحزابها المتبرقعة بالدين.

ونجد الكاتب علي لفته وهو ابن هذا الواقع بضبابيته وفوضاه قد كتب تحت سطوة الحدث وبذلك يكون قد وثق للحدث في عمله لعبة الدوائر الفارغة ما أنتج صنعة أدبية تزخر بالجمال لأنها توثق مشاعر وانفعالات اللحظة التي عاشها من تمزق . حيث تعد الكتابة الروائية تعبيرا عن تفاعل الكاتب مع واقعه وظروفه.

واعتمد علي لفته في عمله على تقنيات تجريبية جديدة اخترق من خلالها تابوهات المثلث المحرم ليس لشيء إلا لتصحيح المسار وتسليط الضوء على أمراض اجتماعية تتعلق بهذه المحرمات التي يزخر بها المجتمع العراقي والذي أفرزته فوضى الحروب.

فنحن أمام عمل يكشف وجود المسكوت عنه وحضوره في اللاوعي الفردي والجمعي. وتيمة المسكوت عنه لبنة أساسية في الخطاب المعاصر كونها تعالج موضوعات غير مصرح بها كانت ممنوعة من الطرح في وقت مضى. وقد جاءت لعبة الدوائر الفارغة كخطاب متحرر يعري التابوهات ويغوص في حيثيات المحرم السياسي والديني والجنسي فكسر الصمت،اخترق الساكن وفضح المستور.

وظف علي لفته هذه التيمة كما ذكرنا سابقا ليعكس واقع العراق الراهن المتأزم حيث تنبني جلّ أحداث العمل في بيتين فخمين أحدهما أقرب للقصر في حي راق لا يشبه الأحياء الشعبية في مدينة بغداد والزمن جائحة كورونا.

العنوان وهو العتبة الأولى للنص يختصر المضمون في كلماته الثلاثة لعبة الدوائر الفارغة،لعبة لم يتقنها أبطالها حيث يجعلها الكاتب مرة خارجها وأخرى على حوافها وثالثة داخلها ،هي لعبة السياسة والدين والجنس من يدخلها يخرج خاسرا خالي الوفاض لا يحمل سوى أدرانها ،لعبة مصغرة عن واحدة أكبر منها مضمونها رضوخ الشعوب وصمتهم حتى كأنهم دمى وأدوات بأيدي حكامهم.فعلى لسان أبي جاسم موجها كلامة لجاريه ابي عدنان وأبي سرحان ص178" عليكما أن تفهما أنها لعبة تشبه الدوائر الفارغة ،لا شيء يمكن الوصول فيها على نتيجة".

تكشف رواية لعبة الدوائر الفارغة، مجموعة من المحضورات والممنوعات التي تمس القضايا الدينية ومنها المتمثلة في شخصية المسلحين الذين يقاتلون باسم الدين حين اقتحموا بيت أبي عدنان واغتصبوا زوجته عالية وسجلوا عملية الاغتصاب وعرضوها أمام الزوج لإرغامه على الالتحاق بهم ففي ص52 عن عالية على لسان السارد" حين فتحت عينيها وجدت أحدهم يقف فوق رأسها ويصور وجهها وأسفل المسلح" وفي ص53 على لسان عالية لزوجها" ضاجعوني خمسة".

حيث يتبين لنا من هذا المشهد تجاوز هؤلاء لشرع الله في إحلال ما حرم.

كما يتجلى للمتلقي اختراق المحظور الديني من خلال شخصية أبو سرحان الذي يعلم أن مصدر أمواله وطعامه من سكوته عن زوجته التي تمارس الرذيلة ففي ص63 على لسان وعد لزوجها" الزوج الذي يرسل زوجته لتأتي بالطعام دون إعطائها دينارا عليه ألا يشك".

أما ما يخص كشف المستور وهاجس الجنس فقد قدم علي لفته وصفا صارخا في غير مشهد جنسي وتحدث بجراة كبيرة عن المسكوت عنه.فالمراة في المجتمع العراقي مجرد وسيلة يستمتع بها الرجل ليخمد شهوته ففي ص146 عن ساجدة وزوجها " يسحبها إلى حضنه فتكون له مثل أنثى عطشة فيغدق عليها فخولة هائجة".

كما ويصور علي لفته تصويرا واضحا ومكشوفا للانحلال الخلقي في المجتمع مجسدا في شخصية البطلات ساجدة ،عالية،وعد فعلى لسان ساجدة ص104"أول رجل فتح زر قميصي ليرى جزء من نهدي كنت فيها أرتعش ..لكني تركته يفعل ما يشاء ولولا سماعه الأذان لتمادى أكثر لكني حصلت على توقيع عقد استيراد ثريات إلى أخد المشاريع الرئاسية". ففي هذا المشهد أراد الكاتب تعرية الواقع ونزع الحجاب عن المسكوت عنه من خلال تصوير الحياة الاجتماعية الفاسدة التي تتلذذ بالمحرمان وتغوص بالمجون ،فالأجساد أصبحت معرضة للبيع والشراء كأي سلعة مقابل ثمن دسم.

كما تصور الرواية عجز الازواج من خلال شخصية وعد حيث تركض خلف غير زوجها العاجز جنسيا والذي تعرض لإصابة أثناء تفجير لسد جوع شهواتها الجنسية وحرمانها ويظهر هذا ص35"قارنت بينه وبين بائع أجهزة الهواتف المحمولة الذي أراد مراودتها لقاء منحها هاتفا جديدا....كانت أسرع في اللهاث ليس خلف جهاز الهاتف بل لمقارنة أنوثتها كيف تتفجر".كما وتعتبر رواية لعبة الدوائر الفارغة مرتعا خصبا لتابو السلطة والفساد السياسي فقد أقدم الكاتب على خرق الواقع السياسي فتناول تساقط المنظومات القيمية وثوابتها السياسية طوال العقود المنصرمة وتداعي أنساقها المجتمعية بفعل الإذلال والإقصاء بعد أن كرست التحولات السياسية الجديدة قيم المحاصصة المبنية على الطائفة والدين والعرق وقد اتضح هذا ص114 عندما جاءت على لسان مالك المطعم لمنتظر عامل الدليفري"لا تقل لي حكومة محاصصة وتعيينات خاصة.هذه تجدها في كل المراحل وكل الدول...لا دولة بلا محاصصة ولا واسطة".

ففضح بذلك علي لفته خلتل اختراق المسكوت عنه مجموعة الممارسات التي تتجرأ السلطة على اقترافها ضد الشعب الذي ذاق ويلات الحروب على مدى عقود ويذوق الآن ويلات الانقسامات والطائفية.

كما يتطرق الكاتب إلى ظاهرة الهجرة غير الشرعية بسبب انعدام الأمان والكرامة وقد جاء هذا عندما اقترح أبو عدنان على زوجته الهرب عن طريق تهريبهم إلى الأردن ص23.

كما تناول الكاتب في روايته موضوع الإرهاب وهو مصطلح سياسي ديني بطريقة مكثفة وغاص في بحر الحقائق لينقلها للمتلقي بكل جرأة وصراحة وأنهم جماعة متطرفة ذوي عقيدة خاطئة تقتل باسم الله والدين فهم يتبعون ما يتماشى مع مصالحهم وأيديولوجياتهم وكل من يريد أن يسلك مسلك هذه الجماعات لا بد ان يغير مظهره ولباسه.كما ونتلمس في لعبة الدوائر الفارغة قضية جهاد النكاح وهذا ما جاء على لسان قريب أبي سرحان ص67" عليك نسيان تلك الكافرة..هنا يمكنك الزواج من اية فتاة تختارها" وهنا عمد الكاتب ان يبين كيف تتم عملية غسل الدماغ.

بقي ان نقول بأن علي لفته استطاع التقاط الجمال من القبح والقيمة الإنسانية من خراب الروح في دوائر فارغة وسط ضجيج سيهدأ يوما ليسمع لعبة تلك الدوائر صوتها للعالم.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم