قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: الذِّئب في الشِّعر العَرَبي (5)

(دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

يمكن القول إنَّ محرِّك الهيبة من (الذِّئب) وراء تصويره تلك الصور النمطيَّة في الشِّعر العَرَبي، أي إنَّ الشاعر يلمح في كُلِّ صِفَةٍ يصف بها الذِّئب ما توحي به ممَّا رسمه للذِّئب من معاني في مخيِّلته. وبمعنًى آخَر أن الشاعر- إذ يصف الذِّئب- فإنَّه لا يصف بالضرورة ذلك الحيوان المعروف، الذي شاهده في البيئة، لكنه يجسِّد في نموذجه: الشرَّ، والغدر، وشراسة الطبع. ومن أجل ذلك فهو قد يُهوِّل في وصفه فوق ما يُعرَف عنه في الواقع، وقد لا يكون عَرَفَ الذِّئب عَيانًا، وإنَّما يتَّخذه رمزًا فنِّيا لتلك المعاني التي قدَّمنا. ومن هذا تصويره في قصيدة (البُحتري)(1)، مثلًا:

وأَطْلَسَ مِلْءِ العَيْنِ يَحْمِلُ زَوْرَهُ

وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ

لَهُ ذَنَبٌ مِثْلُ الرِّشَاءِ يَجُرُّهُ

ومَتْنٌ كمَتْنِ القَوْسِ، أَعْوَجُ ، مُنْأَدُّ

طَوَاهُ الطَّوَى حتَّى استَمَرَّ مَرِيْرُهُ

فما فِيْهِ إِلَّا العَظْمُ والرُّوْحُ والجِلْدُ

فهو «مِلْءُ العَين»، من مهابته في نفس الشاعر لا في حقيقته، وإلَّا كيف يكون «مِلْء العَين» و«ما فيه إلَّا العظم والروح والجِلد»؟! ثمَّ إنَّه يبدو متناقض الصورة، ففي حين يصوِّره «يَحْمِلُ زَوْرَهُ وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ»- وهي صورةٌ قد تنطبق على (الفِيل) لا على الذِّئب- يُمعِن في تصوير هُزاله؛ إذ طَواه الطَّوى حتى استمرَّ مريره. ولا يتهيَّأ الخروج من هذه المناقضة إلَّا أن تكون صورته الأُولى صورةً معنويَّة(2)، بما تنطوي عليه من إعظامه وتهيُّبه، والأخرى واقعيَّة، إلَّا أنها تثير كذلك رموز الشِّدَّة والحِدَّة في صورته، أكثر ممَّا تنقله من صورته الشكليَّة والتكوينيَّة. ولذا تراه يكثِّف في بيته الأخير معناه هذا، بما يصفه به من الطَّوى، واستمرار المرير، وهما صفتان تقتضيان أن يكون أشدَّ ضراوةً ووحشيَّة.

وليس ببعيدٍ عن هذا الهدف الفنِّي ما اعتاده الشُّعراءُ من تصوير (الذِّئب) منجردَ الشَّعر، مشبِّهين به رِماحهم أو خيلهم مُغيرةً على الأعداء. فيقول (الحُطيئة)(3):

بِكُلِّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ مُطَّرِدٍ

وشَطْبَةٍ كعُقابِ الدَّجْنِ تُزْهِيْنِي

ويقول:

وكُلُّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ آزَرَهُ

مَسْحُ الأَكُفِّ وسَقْيٌ بَعْدَ إِطْعَامِ

فانجراد شَعر الذِّئب هاهنا لا يُعبِّر عن صِفة شَعره بمقدار ما يُعبِّر عن: روح التمرُّد، والانفلات، والمراوغة، وسَعة الحِيلة، إلى آخِر هذه الصفات التي يوحي بها انجراد شَعره، والتي أحبَّ الشاعر أن يتَّصف بها رمحه وتتَّصف بها فرسه في مواجهة خصومه. حتى قال (ابن مُقْبِل)(4):

لا تَحْلُبُ الحَرْبُ مِنِّي بَعْدَ عِيْنَتِها

إِلَّا عُلالَةَ سِيْدٍ مَارِدٍ سَدِمِ

أي: إن الحرب لا تنال منه شيئًا، إلَّا كما يمكن النيل من ذِئبٍ ماردٍ هائج.

وفي تصوير (الذِّئبَ) لدَى (البُحتري) يهتمُّ بتأكيد جوعه، كما رأينا. وقد كانوا يقولون: «رماه الله بداء الذِّئب»، أي الجوع؛ لأنهم يزعمون أنْ لا داء له سِواه(5)، وهو في مدافعة دائه هذا يكون في أشد حالاته شراسة. والشاعر يُلاحِظ هذا فيُوظِّفه في تصويره، إلَّا أنَّه يقول:

سَما ليْ وبيْ مِنْ شِدَّةِ الجُوْعِ ما بِهِ

بِبَيْدَاءَ لم تُحْسَسْ بِها عِيْشَةٌ رَغْدُ

كِلانا بِها ذِئْبٌ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ

بِصَاحِبِهِ ، والجِدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ(6)

فهو هنا ينظر إلى نفسه هو؛ ولأنَّه يودُّ أنْ يَرَى في الذِّئب نفسَه: «كلانا بها ذِئب»، فإنَّه يخلِّص صورته ممَّا لا يودُّ أن يراه في نفسه؛ فلا يَصِفُه بالغدر، مثلًا، كما فعل (الفرزدق) في قصيدته، بل يستبقي من صفاته- في علاقته الصراعيَّة معه- ما يجعل من تغلُّبه عليه، في النهاية، فوزًا عظيمًا:

فما ازدادَ إلَّا جُرْأَةً وصَرَامَةً،

وأَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ مِنْهُ هُوَ الجِدُّ

فأَتْبعْتُها أُخْرَى فأَضْلَلْتُ نَصْلَها

بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ

فَخَرَّ وقد أوردتُهُ مَنْهَلَ الرَّدَى

على ظَمإٍ لو أَنَّهُ عَذُبَ الوِرْدُ(7)

يُعْجِب الشاعرَ فيه أنَّه كلَّما اشتدَّ عليه الموقف، من جوعٍ أو خوفٍ، ازداد جُرأةً وصرامةً وجِدًّا، لولا أنَّه غزا بنصله جماع تلك الروح كلِّها: «بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ»، فخَرَّ الذِّئب. إنَّه لا يكاد يموت، وإذا مات، مات واقفًا، ثمَّ يَخِرُّ كيانًا عظيمًا، يحقُّ للشاعر الفخر بانتصاره عليه. وهكذا يكون الدافع الرمزي، وراء هذه الصُّورة، سببًا في اجتهاد الشاعر للتجويد فيها.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

............................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف، 743.

(2)  ويؤيِّدها عند (البُحتري)، خاصَّة، أنَّه كان يعيش في الحاضرة، مع ما عُرِف عنه من طبعٍ، أبعد ما يكون عن مثل ذلك الموقف الذي صوَّر فيه نفسه. هذا بالإضافة إلى العلاقة الواضحة بين وصف (الذِّئب) والصراع معه وبين خصومة الشاعر مع (آل الضحَّاك)، الذين ذكرهم في القصيدة، قبل أبياته هذه.

(3)  الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 87، 227.

(4)  (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم، 399/ 9.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (ذأب).

(6)  البُحتري، ديوانه، 743.

في الديوان: «والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ«! ولعلَّ صوابه كما أثبتناه؛ فالجِدُّ: الاجتهاد، والجَدُّ: الحظُّ. أي إن نتائج الاجتهاد قد يحول دونها سوء الحظِّ.

(7)  م.ن، 744.

في المثقف اليوم