قراءات نقدية

مزهر جبر الساعدي: البلدة الأخرى.. حزمة اسئلة واشارات ورموز مضمرة

رواية البلدة الاخرى للروائي العربي المصري، ابراهيم عبد المجيد؛ رواية محملة بالكثير من الاسئلة عن الواقع العربي الذي كان في ذلك الوقت؛ يتجه الى، أو بداية الطريق الى هاوية التمزق والتشتت والتشظي. كما انها تحمل بين كلماتها التي رسمت مصائر اباطلها، وبطلها المركزي او شخصيتها المركزية، الذي عاين واقعيا وحياتيا؛ ابطال الرواية بعين الفاحص والمتشارك معهم في هذه المصائر. إنما بصورة حيوية، أو ان السارد الماهر بل هو البارع تجليا في هذا السرد؛ أذ، لم تكن هذه الاسئلة والاشارات، والرموز المضمرة بين ثنايا السرد، مباشرة ابدا، بل انها قالت ما قالته من خلال واقع معيش لأبطالها الذين تمحور نشاطاتهم واعمالهم حول عمل ونشاط البطل المركزي الا وهو؛ اسماعيل؛ في واقع مرير والاشد منه مرارة هو واقع الحياة التي تركوه واراءهم، وظل يطاردهم في غربتهم. الزمن الروائي في اواخر عام 1979، وهو العام الذي شهد ثلاث احداث بارزة استراتيجيا، والتي سوف لاحقا، بعد عدة سنوات؛ تلعب دورا محوريا تماما في تغيير الواقع العربي نحو ما هو معيش في الوقت الحاضر؛ اي ان الرواية كانت قد تنبأت بما هو حاصل الآن في الواقع العربي، من غير ان تقول هذا الاستقراء بوضوح اي بصورة مباشرة وفي الوقت ذاته قالته بوضوح تام؛ عبر مصائر الابطال والمصير الذي ينتظر الشخصية المركزية؛ كل هذا كان التعرف عليه، او على هذه المصائر من خلال حياة هذه الشخصيات التي تبحث في الغربة والاغتراب عن حياة حرة وكريمة ولو بعد حين.. ان هذه الاحداث ذات الابعاد الاستراتيجية؛ هي الثورة في ايران التي اطاحت بنظام الشاه، والغزو الروسي او غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين بجين والسادات ونكسون." ينتهي الارسال التلفزيوني، وادخل حجرتي اقلب في الصحف والمجلات التي يشتريها سعيد ووجيه، ويتركانها في المطبخ بعد قراءتها. كل الصحف تتحدث عن السادات وتلعنه، وحملت المجلات عنوانا يقول: الا من رصاصة تزف الى رأس الخائن؟! فوق العنوان صورة للسادات في البدلة العسكرية الالمانية وفي فمه البايب الشهير." - انك تكره السادات. أليس كذلك مستر اسماعيل؟ - ذلك واجب مستمر اسماعيل، واجب ان نكرههم جميعا. إنني اعرف كثيرا عن مصر. عن مظاهرات يناير العام الماضي. مظاهرات الفقراء في باكستان نحتاج مثلها لكن العسكريين اغبياء يطلقون الرصاص على الناس. انهم جميعا ضدنا مستر اسماعيل. كل هؤلاء الرؤساء ضدنا. أننا بحق تعساء جدا." ارشد الباكستاني، يعمل ميكانيكيا في ورشة الشركة؛ هو الشخصية هنا، في هذا الحوار بينه وبين اسماعيل المصري المسؤول عن توقيت حضور عمال الشركة وتوقيت انصرافهم يدون كل ذلك في سجل، بالإضافة الى قيامه بالترجمة للتقارير الفنية التي يتم ارسالها إليه من قبل الامريكيون الذين يقومون بتلك الاعمال. تربطه علاقة صداقة مع اسماعيل، او علاقة ابعد من علاقة العمل. اسماعيل يشتاق له كثيرا حين يتأخر في الحضور إليه، يوم او يومين، ليس من اجل التوقيع على الحضور والانصراف، إنما شكل اخر خارج علاقة العمل. في عام 1979؛ شهدت باكستان تحولات بالضد من الديمقراطية، فقد تم الاطاحة ببوتو المنتخب ديمقراطيا، واودع السجن، بقيادة ضياء الحق، احد قادة الجيش؛ بعد الغزو الروسي لأفغانستان؛ تم لاحقا، بعد فترة وجيزة، من اعتقاله؛ اصدار حكم بالإعدام عليه. كان اعدام بوتو الشغل الشاغل لأرشد الباكستاني. ان الانظمة الاستبدادية ومنها نظام ضياء الحق؛ تطارد شعوبهم حتى وهم في غربتهم سعيا وراء تحسين اوضاعهم المعاشية، وظروف حياتهم. يتحملون الاغتراب عندما تضيق بهم ظروف الحياة وانعدام فرص العمل والحياة الكريمة في بلدانهم. يعود الباكستانيون بعد انقضاء اجازاتهم، لم يعد ارشد معهم. يفتقده اسماعيل. يسألهم عنه. يكون الجواب الذي يسمعه اسماعيل منهم؛ مؤلما، ومسببا، المزيد من الحزن والأسى على المصير الذي، ربما ينتظره. يقول الباكستانيون عندما سألهم عنه: لقد تم اعتقاله حين نزل من الطائرة، من قوات الامن. يقولون انه متهم بمساعدة المعارضة، ماليا، وان المعارضة قد ارسلتهم، هو وغيره الكثير، الى دول الخليج العربي؛ اولا كي ينقذونهم من السجن وثانيا لجمع اموال من العمل في السعودية وبقية دول الخليج العربي لصالح المعارضة. لم يقل شيئا، ظل صامتا، إنما داخله كان يمور بالألم والحزن والغضب. تحضر امامه؛ مظاهرات الطلاب، عندما كان في حينها، طالبا جامعيا، في السنوات الاولى لعهد السادات، وكيف يتم اطلاق الرصاص عليهم لتفريقهم، وزج البعض منهم في المعتقلات. يتحرك من مقر الشركة بسيارته التي كان قبل اشهر قد علمه ارشد قيادتها. يقودها بطيش او بغضب استمر دفينا داخل نفسه، لم يبح به لأحد. لكنه تفجر او انه هو من فجره بقيادة سيارته بجنون، في شوارع تبوك وفي دروبها الخلفية، لا يلوي على شيء، ولا هدف له، فقط ان يقودها بسرعة فائقة. تعترضه سيارة اخرى، حين حاول التخلص منها، لم يتمكن، ولم يسيطر عليها، تقذفه السيارة والاصطدام الى النهر الثاني للطريق. ينجو بأعجوبة. تفاجيء ان من صدمه، صالح صاحب الدار المؤجرة لهم من قبله. هو الطالب الذي رفض اسماعيل تدريسه من المحاضرة الاولي، لا يريد ان يدرس، يريد النجاح بلا دراسة، عبر رشوة المدرسين العرب والاجانب. تتخلل كتلة النص الروائي تداعيات تشحن بالمعاني جسد النص. حين يفتح عينيه في المستشفى؛ تحط عيناه على وجه عايدة الممرضة المصرية، واقفه الى جانب الدكتور وجيه، جراح المستشفى، الذي يسكن معه في الدار. " كنت مارا في الطريق عندما حدث الاصطدام. حسن حظك اوجدني في المكان في تلك اللحظة. صالح صدمك قاصدا. بإمكانك مقاضاته؛ بطلب التعويض." ثم ينصرفان دكتور وجيه والممرضة عايدة. الممرضة عايدة تثير فيه، أو تحرك فيه الكثير من الاحاسيس، منذ راها ذات ليلة، حين سهر مع الدكتور. يرى انه منجذب إليها بقوة، فيها شيء خفي، حزين ومؤلم هذا الشيء، لكنه لا يعرف ما هو. يخرج بعد يوم واحد من المستشفى، لكنه يدخل إليه، تاليا، بعد شهر؛ لأستأصل الزائدة الدودية، يرقد فيه؛ لأيام. في احدى ليالي رقوده في المستشفى؛ يسمع صوت نجاة الصغيرة. يقف في الرواق امام غرفة عايدة الذي يبث منها صوت الغناء الشجي المملوء بالحزن والاسى. ينصت مأخوذا بسكون الليل وصمت المكان. ثمة نحيب في الغرفة. "عايدة تبكي" لم ينتبه الى باب الغرفة حين فتح. " – لم اقصد. أنا متأسف. لم اقصد ان اسبب لك الألم." – لا عليك. لم تسبب لي اي ألم." يقضى معها في الغرفة دقائق كثيرة. حدثته عنها وعن عائلتها. اخوها هاشم مشلولا. اخوتها او بقية عائلتها سعداء بما ترسل لهم من المال. هي سوف تظل هنا؛ لترعى عن بعد، اخيها هاشم حتى يعود كما كان، قبل شلله. هاشم شارك في مظاهرة ضد نظام السادات؛ اصابته رصاصة. الشرطة اطلقت النار عليهم. تصر على عدم الزواج حتى ولو بعد عشرين عاما، الى ان يشفى هاشم من شلله. مع تدفق الروي على لسان اسماعيل الشخصية المحورية؛ نتعرف على مآل شخصيات الرواية. الدكتور رأفت يسافر الى امريكا لجلب اجهزة لعيادته في طنطا، غادر في اليوم التالي لنزول اسماعيل في الدار، حتى يكون قريبا من ابنه المريض. " عندي عيادة في طنطا، وسأسافر من هنا الى امريكا اشتري بعض الاجهزة، واعود اعمل بالعيادة واعيش كأي مواطن يعتمد على عقله وقوته.. هل تراني مخطئا؟ إنما القدر كان له بالمرصاد؛ يموت قبل ان يصل الى مصر. يرزح المجتمع السعودي وبالذات نساء هذا البلد العربي؛ تحت نظام اجتماعي صارم، تفتقد فيه، المرأة السعودية، ادميتها حتى تتحول الى كائن من لحم والدم بلا روح، تتحول الى قطعة من حجر؛ يضم في داخله كم هائل من نار العواطف والاحاسيس الانسانية المشروعة، تبحث لها عن مخرج ما حتى ولو كان ضئيلا كي تخرج الطاقة الكامنة فيه او فيها، حتى لا ينفجر ويتشظى الحجر. إنما هذه المحاولة او المحاولات تصطدم بعيون كاشفة للظلام والمستور في ظلاله، وحتى لو كانت هذه المحاولات في البرية خارج المدن، او داخل غرفة مقفلة الباب؛ فالعيون الرادرية تكشف كل نأمة او اي حركة مهما كانت في اي حيز من الوجود تحركت. واضحة شابة في مقتبل العمر، جدها لأبيها مصري، استوطن السعودية من عقود. يقوم اسماعيل بتدريسها الادب الانكليزي، بتكليف من اخيها خالد. عندما يلتقيها في اول محاضرة؛ ينجذب إليها بنفس درجة انجذابه لعايدة الممرضة المصرية؛ فيهما جمال عربي اخاذ جذبه إليه بقوة. يتأكد من انها هي التي كان قد راها في اول ساعة، من اول مساء لوصوله الى تبوك؛ تطوف بها سيارة شرطة في الشارع الرئيسي لتبوك. " واضحة بنت سليمان بن سبيل التلميذة في المدرسة المتوسطة بالعزيزة كانت تخرج كل يوم بعد الدراسة، مع اليمني اليامي بين عبد الله اليامي.. كانت تخرج معه كل يوم الى طريق تيماء المهجور." يتوقف اسماعيل عن اعطاءها المحاضرات؛ اخوها خالد طلب منه التوقف عن تدريسها مؤقتا. صالح وشى بهم؛ من انهم يحتسون الخمر في الدار. تقبض عليهم الشرطة في الليل. ينتشر الخبر في تبوك. واضحة الفتاة اليافعة الممتلئة بالحيوية وحب الحياة، الطامحة لحياة افضل؛ حياة تعثر فيها على نفسها وذاتها؛ لكنها تنتهي بفضيحة وفجيعة، لم يكن اسماعيل طرفا فيها. يسافر اسماعيل الى القاهرة لمعرفة امر البضائع التي تعاقدت الشركة على توريدها لحسابها عن طريق او بواسطة لاري الخبير الامريكي للشركة. يخبره مدير شركة الشحن من انه لا اساس لمثل هذه البضائع، لا هنا، ولا في امريكا، اي ان العملية مزورة بالكامل. " هذه ردود التلكس. لا بضائع خرجت من سان فرانسيسكو، ولا بضائع وصلت الى مطار من مطارات الرحلة. ازداد عم عبد الله امتعاضا وقال للاري – اذن جهز نفسك للسفر. وقام ليغادر المكتب، لكنه ابتسم فجأة وقال - لا تنس ان تأخذ روس معك، لا تتركها وحدها في الكامب" في بيت الخبير الامريكي لاري؛ فقد دعته زوجته روز" ليس في الامر حيلة يا روز. أنا مصري فلن يصدقني الناس هنا ويكذبوكما. رأيت في عينيها ألما فأسرعت بالخروج... سمعتها تصرخ! – انت أغبى رجل في العالم يا لاري، ولن اتركك تفوز بكل شيء." الممرضة المصرية، عايدة، تنقل الى قرية الضبا ومن ثم بأمر وزير الصحة يتم نقلها الى مستشفى في الرياض." جاءت زيارة الوزير في وقت دقيق. كنت بدأت افقد شيئا من قوتي، وبدا الخوف يجد مسالك الى قلبي. ما ابشع المستوصف في الليل. كل طارق للباب من اجل الدواء اظنه رجل امن جاء للقبض على هاشم، كانوا يأتون في الليل دائما." الدكتور وجيه هو الأخر يتم نقله الى ذات المستشفى في الرياض. سعيد الذي يعمل مدرسا، يعود الى مصر. لم يبق في الدار الا هو. ينتقل الى دار اخرى، صالح طلب منه اخلاءها. يؤجر دار اخرى، لم يشأ ان يشاركه احد فيها. تمر الليالي عليه في وحدة قاتلة، وموحشة في ليل بدى له، لم ينته. يتصفح المجلات والجرائد. تكاد لا تخلو من عملية فدائية في الاراضي الفلسطينية المحتلة؛ يتوقف امامها فاحصا، متأملا، وموجوعا؛ لوضع منذر احد عمال الشركة. " انظر ضاع ثديي الامين من حريق قذيفة مرت من امامي، وانظر هذا الهور في ربلة ساقي.. وهذه ذراعي فيها عشر خرز. أنا من عائلة فداوية يا اخ اسماعيل. لا تخبر أحدا بما رأيت من جسمي. يعرفون اني كنت فدائيا فيرحلونني يا أستاذ. - معقول؟! – جدا." العالم يمور بالاحداث، الجرائد تنقل إليه تطورات العالم واحداثه. الطلاب في ايران؛ يقومون بمهاجمة السفارة الامريكية، واحتجاز الدبلوماسيين الامريكيين داخل السفارة. الامريكيون يقومون بعملية فاشلة في تحرير الرهائن الامريكيين في السفارة الامريكية. تهب عاصفة ترابية تحطم مروحيتين، يقتل جميع افراد المجموعة الخاصة الامريكية. في هذه الاثناء تصل إليه رسائل من الاسكندرية. اخاه يخبره بمرض امه. يطلب منه ارسال كمية من المال لغرض العلاج. ثم تنقطع الرسائل لأسابيع. تاليا بعد هذه الاسابيع؛ يتسلم رسالة من اخيه تخبره بموت امه. " وانا اتقلب ساقطا ولا تلحق بي الذراعان اللتان ميزت بينهما وجه امي فزعا ولا اصل الى قرار الهاوية." في الطائرة كان معه على متنها؛ نبيل عامل الكافتيريا. ما ان ارتفعت الطائرة قليلا في السماء الا وصوت المضيفة يعلن عن خلل فني في الطائرة.. لاحظ ان نبيل قد اغمي عليه. مما اجبره على ان يشد له حزام الامان. في المطار ابصر عم عبد الله مدير الشركة مع مجموعة من الشرطة. يقول بالكاد له نبيل: ليس هناك خلل فني. انا اخذت جميع المال الذي في الخزنة؛ عرفت رقمها السري" - لا اظن ان الله يكرهك يا نبيل. هز رأسه وابتسم وقال: ليت خالي اعطاني الفلوس ولم يمت، وليت المدرس تركني فتعلمت، وليت الضابط لم يدفع بي الى اصلاحية الاحداث. واجهش يبكي فجأة ثم قام وتركني!.

***

مزهر جبر الساعدي

في المثقف اليوم