قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في شعر عبد الرزاق الربيعي

حساسية ملفوظ الفقدان ومرثية الحداد النوعية

توطئة: تمنحنا إمكانية تجربة الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي في شكلها الكلي والجزئي محمولات إضافية من الدلالات النوعية والمركزة عبر مجموعته (ليل الأرمل) ومجموعته المؤثرة (قليلا .. من كثير عزة) ذلك التشكل التمايزي في المنظور الأكثر دقة وأوجه وحدات وتفاصيل موضوعة وحساسية الفقدان وإمكانية شروع هذا الفقد في خلق لغة جمالية مؤثرة تكفلت بها الذات الشعرية التي اتخذت من مداليل الرثاء على ذات الفقيد وذاته ووحشتها عبر الأنساق المكانية والزمانية والصفاتية والأفعالية، شكلا في مستوى مأزومي لا نظير له في تسطير خصوصية دلالات الألم والإحساس بذلك الاغتراب في الأكوان الفراقية من سبحات وحشة الذات الشعرية .

ــ مرايا البياض ومعادلة الدلالة الاغترابية:

أن طبيعة العتبات النصية المصاحبة في أوليات المجموعة الشعرية (قليلا .. من كثير ــ عزة ــ ) وهي عبارة عن إحالات شعرية مشحونة بالاستعارة واطرادات الذات التي ترثي حال فقيدته الكريمة بعد رحيلها عن دار الدنيا بكل ما تحمل من أضواء وأنوار أحوالية وروحية وعاطفية في شغاف ذات الشاعر، الذي ظل بعد فراقها أكثر إنجذابا إلى تركاتها في ذاته وعبر (المكان ـ الزمان) التي تركتهما في حياد الأموات الخفي، لتكون لدى الشاعر موضوعا يقترح عليه الشروع في أقصى مراحل النزف الوصفي المنشطر ما بين (الزوج ــ الشاعر) وصولا إلى صياغة حالات الذات المفجوعة لديه بأسمى الدوال المتناغمة في دليلها ودقتها ومواطن وحشتها.نقرأ ما جاءت به قصيدة (تقاطع ألوان) ضمن مؤشراتها الفواصلية التي تمنح لحسية الملفوظ حضورا منقطعا بالحضور الأداتي في علامات الطباعة السطرية:

مَهَرَتْ حياتي بالبياضِ

وأسكتني في البياضِ

وألبستني

من مَبَاهِجِها البياض

....

..../ ص88

ترتكز محتملات الدوال على ذلك الدليل الشائع في المتعدد التطهيري، الذي يتخذ لذاته من خلال البنية التعريفية للبياض، ذلك الطابع الأدارجي في دوال (الزهد ـ الطهر ـ العفاف) أو ربما عبر هوية التقارب في دلالة (الصفاء المفرط) لذا فإن جملة (مهرت حياتي بالبياض) لا تتعارض مع المفهوم الاشتقاقي في كون البياض هو العلامة المرتبطة بالتطهر، خصوصا وأن جملة اللاحق حلت توكيدا على أن مفهوم البياض هو الرمزية إلى حد محتمل في ذلك الفضاء الخالص من شوائب ورذائل الخارج من حيز الكون البياضي (وأسكنتني في البياض) وبأعتبار أن حيوات الذات الواصفة مع ذلك الآخر أصبحت مرهونة بالبياض، إذ غدت جميع متصورات الذات إلى جانب ذلك الشريك إلى محصلة عفافية لا يمكن وصفها إلا بتعدد ما لا يجوز حصره من الافادات الأحوالية في وحدات القول، لذا وجدنا عبد الرزاق الربيعي، راح يستعين بالأداة السطرية المنقطعة، دليلا على محاكاة المتعدد والمرسل لا الحصري من عطايا سيدة البياض الأوحد (وسارت الأيام ــ حبلى بالبياض / ... ـــ ...) وبهذا الأسلوب الحذفي والمنقطع راح يغطي الشاعر ما تتصف به متواليات مستوى أحوال البياض ، ولو كان الأمر مقصورا في تعرفية خاصة من المسكوت عنه، ولكن صورة الخطاب في النص، كانت مؤتلفة على شاكلة أحتواء زمن ما بعد البياض، حتى جاءتنا هذه الجمل من تقاطع الألوان:

وعندَ تقاطعِ الألوانِ

والأزمانِ

والأسماءِ

والأنواءِ

والكلماتِ

والخيباتِ

والأحلامِ

والأورامِ./ص89

في هذه العملية المتتالية من المدلولات عن طريق تجاذب الدوال (وتترامى ــ التواريخ ــ الأزمنة ــ الأمكنة ــ خيبات الأحلام ــ نتوء الأورام) بدت لنا الفواصل متواصلة بالأسى والإقرار بالذات الواصفة ، كونها إلحاقا تواجه به متغيرات نوعية من الانقسام اللوني والتشكيلي.فلهذه المسميات ألوانها ومنحنياتها وتعرجاتها وشجونها وزوابعها والخوف من تقادمها نحو مزيدا من جراحها بعيدا في قارة الغياب (ذابت .. ثم غابت ــ في محيط من بياض) الدليل هنا إزاحة في لوحة البياض ضمن الترتيبات الحركية التي قامت بتوزيعها مرتكزات (تقاطع الألوان) فما خلت سوى الابعاد القيامية في أهوال اللون البرزخي، ولكن المعنى البياضي لم يجفل نوعه ولونه وسحنته، بل ظل محافظا على هالته البياضية في مملكته الغائبة بالبياض.

1ــ بلاغة الخطاب ومرسلة الرثاء المركبة:

سنحاول في دراستنا هذه تناول دلالات مجموعة (قليلا من كثير ــ عزة ــ ) حيث التعامل مع علاقات (الذات / المكان / مشكل المعنى) في حدود قيمة مرحلة حاسمة في تحولات قصيدة الشاعر الربيعي، ذلك تماشيا واتصالا مع مجموعة (ليل الأرمل) التي تسودها ذات الدلالة والقيمة والمحتوى من (حساسية ملفوظ الفقدان) ولكننا مادمنا في اجواء اسطرة الحزن في (قليلا ..من كثير عزة) سوف نواصل البحث في أهم ما جاءت به ثريا هذه المجموعة من أحوال وأشكال ومظاهر وصور لا يمكن العدول عنها بغير مداولتها على الأوجه المخصوصة.أقول إن طبيعة شعر الربيعي في حد ذاته كوظيفة قولية، يتعدى تجميد وتحجير وتعطيل الواقعة الشعرية ، بل إنها أي الواقعة في مسار شعرية الشاعر، حالة إنتاجية عذبة لأدق مكامن بلاغة واكتمال الشكل الشعري:فكيف إذا كان الأمر متعلقا بأقرب الذوات إلى قلبه، فكيف تكون تشكلات أوجه القصيدة كفعل حسي مهيمن ومتمثل ببرانية وجوانية الوجود الكينوني للشاعر نفسه.تكشف لنا قصيدة (ثياب) كأثر وكأنطباع، إلى حالة موجعة من علاقة الشاعر مع ذكريات زوجته المغفور لها.ويمكن اعتبار الحالة الملفوظية في احياز هذه القصيدة الذروة المثلى في قصيدة الرثاء المعاصرة من جهتي الشخصية وليس النقدية.أقول تكمن الإفاضة الحسية عبر لغة الشاعر وهوية الأشياء، طابعا تزاحمه ملامح النمط الشواهدي في النتيجة الشعرية.فالشاعر وظيفة تتدخل في مستوى آخر ولاشك، ومادام الأمر كذلك، فلنقرأ قليلا مما جاءت به قصيدة (ثياب):

ذكراكِ المعلّقةُ

في دولابِك

وحائطِ أحزاني

من ينزلها من عليائها

سوى يدك التي

أورقتْ

في الغياب؟/ص9

قد نفترض ها هنا أن العوامل الاستدلالية في الخطاب قد حلت بصورة من حدود (مجاورة ـ مقابلة) فهي في مستوى تعضيدي من الاستدلال الخاص، طالما أن صيغة التلفيظ (صوتي ــ مساند) قد تمت بلورتها في ممارسة متزامنة في القابلية الملفوظية وفضاء النص.وبما أن دوال النص ممارسة خاصة في إنتاج دلالة عبر ضمير الواصف، يستطيع الشاعر في الآن ذاته، مقاربة أشكاله الذاكراتية في مراحل ملائمة ـ تكثيفا بالمعنى ـ إلى أقصى اللحظات المكبوتة في استعادة الهواجس والصور والغرق في مخاطبة (من ينزلها من عليائها .. سوى يدك التي ..أورقت في الغياب) وعلى هذا النحو تسلم الذات الشعرية ملاحقات ملفوظها إلى غياهب ثلاثية القطب (الأنا ــ الهو ــ الأعلى) وقد تظهر مخلوقا في اللاوجود الزمني، سوى ما يعاود الذات الشاعرة من إحصاء مواعيد حياته السابقة والتي أصبحت الآن في ديمومة مجردة:

صباحٌ جديدُ

يطلُّ على الصمتِ

إذ لا لونَ للوقتِ

في ربوةِ اللامكانِ

فقومي من الليلِ

قولي لحراسِ نومكِ:

موعدُ إفطاري الآن

حانْ

وحانَ رجوعي لبيتي./ص91 قصيدة. قليلا..من كثير (عزة)

في الحقيقة تأخذ هذه القصيدة شكلا موجعا آخر يتجلى فيها الدال في النسق النصي تجليا يفوق مستوى وقابلية (النزف التخييلي) فهي عبر سطورها تتكشف بالصلات الدلالية الدينامية التي تجعل من وعي القراءة مشغلا قد لا يفي بكل أدواته لأجل إيصال المعنى للقارىء ، خصوصا وأن زخم الأسى في هذه القصيدة وأخرى لا تحتمله سوى أفعال القصيدة ذاتها، وربما الذائقة النقدية من جهة ما لا توفر مدلولا أكثر غنى وخصب من أعماق أحوال صور ومواقف وعبرات مقولة القصيدة في ذاتها.ولكننا على نحو ما نقول أن العاطفة وبلاغة اللغة في هذه المجموعة هي من أشد وأكثف ما تتطلبه حالات الفقدان حضورا ودالا ودلاليا.

ـــ ليل الأرمل: من الفقد الماحولي إلى فواجع الفاعل الإجرائي

إن طبيعة العلاقة المحفوفة بذات النكهة الفقدانية، جعلت من مشروع مجموعة الشاعر اللاحقة (ليل الأرمل) علاقة متلاحمة في الظاهر والباطن مع مجموعة الشاعر السابقة (قليلا .. من كثير ـ عزة) لذا يبقى واقع الخطاب الشعري بين كلتا المجموعتين تطابقا مع وظيفة (القصيدة الرثائية) العاملة على إضاءة الرؤية والكشف والفرادة في تجاوز التخييل النمطي في فنون قصيدة الرثاء الحداثوية، التي لا نأخذ منها عادة سوى مقررات الحالة دون شعريتها المؤثرة لدى شعراء اليوم والأمس.أنا شخصيا ممن ينطوي في قلبه وحسه ميلا وإقرارا بشعرية عبد الرزاق الربيعي، كما أن قراءتي لقصائد الشاعر الآن ليس محض ورقة اختبارية لأجل قصدية شاذة في نفوس البعض ، أقول لا أبدا فقط أني وجدت في تجارب هذا الشاعر الثمين ما لا أجده في شعر أفضلهم حالا، بأستثناء بعض التجارب الشعرية التي انتخبتها ذائقتي بطريقة خاصة لا يفارقها الانتقاء والاختبارية والتمحيص المسبق.فالربيعي في مجمل أعماله الشعرية قدم لنا الأنموذج الشعري عبر أدواته وحالاته ورؤاه ولغته، بمعنى ما جعل نصه موضوعا متعددا فيه من مسكونية الوعي الشعري ما راح يشكل في قصيدته الحساسية الشعرية المتبلورة ضمن توقد الرؤى والفعالية القولية المكينة.فمن خلال (ليل الأرمل) نتعرف على قصيدة (المشهد الأخير) المهداة إلى روح شقيقه محمد .. في مشهده الأخير:

في راحة (الأمير)

يبسطُ الطائرُ جنحيه

على الرمال

حيثُ المشهدُ الأخيرُ

الملاكُ جاهزٌ

و (كادر) السماءِ

جاهزٌ

العرشُ والضياءْ./ص11

ينفتح الشاعر في أداة قصيدته على تقانة السيناريو المسرحي.إذ إن جملة البدء (في راحة الأمير) تتضاهى وتتعامد مع رمزية الشكل الأسلوبي الملخص في جملة اللقطة (يبسط الطائر جنحيه) لتبدأ تجليات الكاميرا نحو وضعيات الدوال المشهدية (على الرمال ــ حيث المشهد الأخير ــ الملاك جاهز ــ وكادر السماء ــ جاهز) كما وتتوزع مناطق الرؤية المفصلية في المتن الشعري، إلى أوجه ملامح التصوير بدءا من (لقطة رأسية) وصولا إلى (لقطة قريبة):

مخرجُ الملهاةِ أعطى

شارةَ التصوير

(لقطةٌ قريبة)

من ساحلِ الجنة

والحضنِ الذي نحب

من سنين

(لقطة ...)

والكاميرات

دارتْ

(دارت الأيام) ./ص14

ـ تعليق القراءة:

تقودنا هذه الأحوال السيناريوية بالمعطى الصوري في القصيدة ، نحو غائيات قصدية، تمنحنا الترقب والإثارة تأثيرا إلى حيز إنتاج المصورات الشعرية داخل سياقات نموذجية من الابداع والتواصل نحو فسحة تأملية أخرى من أعمال شعرية حديثة للشاعر، سوف نعمل على استكمال قراءتها ومتابعتها عبر مشروعاتها المتشكلة في هيأتها الكفائية والإنتاجية الشديدة التمحور حول ثيمات الذات واستدعاءاتها المضيئة والكاشفة تحولا نحو شعرية موقعة بالتوقيع الإشاري الزاهد في لغته وقابلياته الظهورية والإحالية.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم