قراءات نقدية

ثامر الحاج امين: رواية (دونت سبيك أسطب).. سيرة انسانية لا تعرف الهدنة

تعد رواية السيرة الذاتية من أحدث الأجناس الأدبية في تاريخ الكتابة الابداعية، كما هي فن مستقل من الكتابة السردية التي تختلف عن الرواية التقليدية في ان الروائي فيها يقوم بسرد احداث حقيقية وقعت له في حياته ومن خلالها تسليط الضوء على الواقع الاجتماعي الذي عاش فيه، وقد خاض الكتابة في هذا الحقل الابداعي عدد غير قليل من الكتاب العرب والأجانب وكذلك العراقيون ومن بينهم الروائي العراقي "سلام ابراهيم" الذي تدله بهذا النوع من الكتابة ولم يغادر محيط تجربته الشخصية منذ اول اصداراته وكانت مجموعة قصصية هي (رؤيا اليقين) الصادرة عام 1994  حيث هذه المجموعة وما أعقبها من اصدارات روائية وقصصية له والتي بلغت ثلاثة عشر كتابا جاءت كلها تدور في فلك سيرته الذاتية ويبدو التشبث بهذا النهج يعود الى اعتزاز المؤلف سلام ابراهيم بسيرته الضاجة بالمغامرات السياسية والغرامية والمعاناة العائلية وهناك ما يشفع له الاستمرار بهذا النوع من الكتابة فما مر به هذا الانسان المتشبث بالجمال والمشغول بالبحث عن الحقيقة ليس أمرا أو حدثا عاديا انما كان نتاج كفاح انساني شاق حفر أثاره في ذاكرة وحياة المؤلف وحياة عائلته، فقد انخرط في العمل السياسي مبكرا وجراء ذلك ذاق مرارة وقسوة التعذيب في أقبية الأمن، ثم عاش خيبات غرامية متعددة، وعندما شب مثقفا واعيا واجه الحرب وهرب من أهوالها صوب الكفاح المسلح ضد الدكتاتورية وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار فقد خرج من تجربة الكفاح المسلح معطوب الرئتين نتيجة القصف الكيمياوي الذي تعرض له في معارك الجبال، وخلال هذه المسيرة الطويلة نجا من ميتات متعددة (حادث الغرق في طفولته، التعرض الى حادث دهس مميت، الاصابة بالقصف الكيمياوي، اعتقالات متعددة في اقبية الأمن)، فماذا تنتظر من روائي عاش كل هذه الاهوال ان يكتب؟ هذا السؤال يحلينا الى سؤال شبيه واجهه الروائي المغربي محمد شكري بخصوص الفضائح والصراحة غير المألوفة التي وردت في روايته (الخبز الحافي)  فرد على منتقديه قائلا : (أنا أكلت من القمامة ونمت في الشوارع فماذا تنتظرون مني أن أكتب عن الفراشات؟؟)، وفي احدى حواراتي مع الروائي الصديق " سلام ابراهيم " اقترحت عليه كتابة سيرته الذاتية واصدارها في كتاب خاص لكي ينهي بها هذا الشغف بالذكريات والتفرغ الى مواضيع انسانية أعم وأشمل في حياتنا العاصفة دائما بالمتغيرات، ويبدو انه استمع بجد الى ملاحظتي فدفع لنا بإصداره الجديد رواية (دونت سبيك أسطب) الصادرة مؤخرا عن دار أبجد للترجمة والنشر والتي تمثل خلاصة تجربته الحياتية فجاءت سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ متسلسل استهلها بالنشأة في ظروف عائلية واقتصادية قاسية وعلاقته بأسرته التي تحملت صنوف المضايقات والتنكيل من الاجهزة الامنية والرعب الذي عاشته خصوصا بعد انقلاب شباط 1963جراء انخراط ابناءها بالعمل الوطني في صفوف اليسار العراقي وقدمت خلالها  ابنا شهيدا اعدمه النظام مع ابن عمته وآخر هو ابن بنت ايضا تمت تصفيته وصولا الى  ــ الراوي ــ الذي تشرد في المنافي المتعددة .

يتخذ الروائي سلام ابراهيم من عبارة " دونت سبيك .. أسطب " عنوانا لروايته وهي أولى مؤشرات تعلقه بماضيه وشخصياته فهذه العبارة كانت واحدة من مخلفات والده الذي كثيرا ما كان يطلقها لحسم النقاش وانهاء الحوار وذلك عندما يُحاصر ولا يجد وسيلة مناسبة للرد على الاخر . وفي الرواية يتداخل الماضي بالحاضر ويستخدم فيها المؤلف تقنية الاسترجاع الفني ــ الفلاش باك ــ أي الرجوع بالذاكرة الى الوراء البعيد من أجل ربط الزمنين ، فمطلع الرواية يصور وصول الراوي ــ سلام ابراهيم ــ  الى رحمه الاول ــ بيته في الديوانية ــ بعد غيبة قسرية امتدت الى عقدين من الزمن قضاها في منافي متعددة، حيث يقف امام باب البيت مذهولا غير مصدق باللحظة الحاضرة التي طال بها حلمه وعندها ينفتح امامه خزان ذكرياته وينتقل الى ماضيه فيتذكر فقر العائلة ومعاناتها الحياتية حيث سنوات الجوع بسبب الفقر وكذلك الرعب الذي لاقته من الحكومات المختلفة ــ ملكية وجمهورية ــ وذلك بسبب هويتها اليسارية ويسرد بكل دقة وجرأة غير مألوفة معاناة تلك الأيام والسنوات التي تحملها الأب والأم ثم انتقال المعاناة الى الأبناء والأحفاد الذين ورثوا عنهم صلابة الموقف وصدق الانتماء وفي الاخير التاريخ المشّرف . 

الجزء الأهم من الرواية يتحدث الراوي ــ سلام ابراهيم ــ عن طفولته الشاقة التي ظهرت عليها ومنذ وقت مبكر من نشأته ملامح المشاكسة والتمرد، فقد عاش وهو يتصارع مع عائلته على تحقيق احلامه في الفكر الذي يؤمن به والمرأة التي يحبها، في حين تعاكس العائلة حريته المطلقة وتضيق الخناق عليه بسبب الخشية على طفلها من الانزلاق فتشدد الرقابة على سلوكه وعلاقاته وتوجهاته ويبقى الصراع بينهما قائما الى ان يشب فتى واعيا وينتزع حريته من العائلة ومن يقف في طريقه بما فيه التمرد على عمه خليل الحلاق الذي كبس ابن أخيه الصبي متلبسا بعريه مع عشيقته في البيت السري الذي اتخذ منه عمه مكانا لسهراته الماجنة والذي تسبب في احداث القطيعة بينهما وترك العمل في دكانه، ويتحدث عن طفولته بتفاصيل دقيقة وجريئة لا تخلو من سقطات بسب شهوات النفس الانسانية وأمراضها كالجنس والغيرة وتذكرنا بتفاصيل شبيهه لها من حيث الجرأة والخصوصية وردت في رواية (الخبز الحافي) للروائي المغربي محمد شكري فالروايتان خاضتا تفاصيل شديدة الحساسية والخطورة لا توافق في الكثير منها تقاليد مجتمعها وربما هذه الجرأة تولدت نتيجة نشأة الروائيين المذكورين التي كانت اشبه بالسير وسط حقل الغام .

في مرحلة طفولته وكذلك في مرحلة صباه التي اتسمت بالمراهقة والعناد والتمرد اضطر والده الى ايداعه في دكان عمه خليل الحلاق ومن هذا المكان انطلق للتعرف على العلاقات السرية لعمه واصدقائه وسهراتهم الماجنة مع النساء وطقوسهم اليومية في احتساء الخمرة والاستماع الى نكاتهم البذيئة وقد شهد جانبا من هذه العلاقات في البيوت السرية التي اتخذوها مكانا لقضاء متعتهم و تعلق عشيقاتهم به ومحاولة جره الى عالمهن الماجن ويذكر عن تلك الفترة اهم مغامرتين جنسيتين عاشهما للمرة الاولى وكانت مع فتاة البرميل التي منحته جسدها لقاء لفة تسد بها جوعها وأخرى مع شاب عمل معه في الدكان .

قامت رواية (دونت سبيك) على عدد من الشخصيات الفاعلة والمحرك الرئيسي في بناء الرواية من أمثال (عبد سوادي، خليل سوادي، موسى سوادي، عيسى سوادي، عليه عبود) فقد احتلت هذه الشخصيات النصيب الأوفر في الرواية كما اعطت للراوي طاقة دافعة وفتحت له افاقا واسعة في استحضار المزيد من الوقائع التي أغنى بها سيرته وفضح من خلالها زيف الكثير من الثوابت التي كان يتشبث بها البعض .

(دونت سبيك) ملحمة حياتية غنية بالأحداث والوقائع فمن خلال 444 صفحة بلغتها الرواية قدم فيها الروائي سلام ابراهيم صورته عاريا بلا تزويق ورتوش، فقد تعرّض لتجاربه ومغامراته في السرقة والنوم في الشوارع والتلصص على الجيران للاستمتاع بمشاهد المضاجعة بين زوجين ومغامراته الجنسية المبكرة وكل هذه الوقائع قدمها بصراحة وجرأة لا مثيل لها ولم تقف بوجهه اية قيم وتابوهات اجتماعية او دينية مبررا هذا التمرد والجرأة  والوضوح  في قوله (شبعت سجنا وتشردا، مقاوما أحمل بندقية، ثم ضائعا في بلدان المنافي، وما زلت لا أعير لقيم وأعراف مجتمعي اعتبارا واجد بها علة التخلف والخراب، فاحتقرتها سلوكا وعريتها كتابة ص 172) كما عرجّ في الرواية على صعاليك المدينة ومجانينها وأشقيائها وجرائم سلطة انقلاب شباط 1963 كما كشف جانبا من معاناة النساء مع ازواجهن الشاذين وذلك من خلال استماعه لشكواهن الى امه وهو طفل يتصنع البلاهة فجاءت روايته سيرة انسانية وفنية غارقة بالألم كتبها بنكهة ذاتية اتسمت بالتلقائية والعفوية الممتعة وكان البوح فيها ساطعا ومثيرا وجديرا بالالتفات اليه .

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم