قراءات نقدية

نزار الديراني: سراب الحلم الأنوي بين المبتدى والمنتهى في: تَلافِيفُ أحلامِ الخَريف

عن المديرية العامة للثقافة والنشر السريانية صدر للشاعر سمير خوراني مجموعته الشعرية (تَلافِيفُ أحلامِ الخَريف) عام 2022 .

في هذه المجموعة زخ الشاعر عدد هائل من الصور الشعرية الجميلة والمتتشظية ما بين لهيب المبتدى وصقيعِ المنتهى من اجل خلق مشهدية شعرية دراماتيكية في ازدواجية الحضور كي تجعلك تشتاق وتنزلق الى حيث نقطة التمركز التي أنطلق منها إلى فضاءاتهِ المُحلقة في سماء الأنا الجمعية المتكاملة، من خلال لغة سردية شفافة تشد القارئ شداً وبتلهف مرهف يتابع مسارها الى حيث متنها ليمسك بتلافيف أحلامه الخريفية ليرتوي عطشه. وحيث الجميع يعاني من العطش في رحلته سائرا على حبله السري منطلقاً من سرته أو مهده الى حيث متاهات الازقة في الداخل وكما في الخارج.

منذ الوهلة الأولى نلتمس تعالقاً واسعاً بين السرد والشعر الغنائي من خلال تداخل الواقع والرؤى والاحلام في نصوصه الشعرية. فسنجد أنفسنا أمام تعالق أجناسي بين الأسلوب السردي الممتد أفقياً وأسلوب غنائي شعري يتمدد بشكل عمودي، حيث ترتكز عنونة المجموعة على ثلاثية متوازية ومتجانسة وهي (التلافيق، الاحلام، الخريف) ومن تزاوجها ولدت ثلاثية سردية تنتمي الى فضاء ميثيولوجي وهي (المبتدى،المنتهى، الحبل السري) وفي هذا الثالوث يدفع الشاعر وظائف كل عنصر فيه الى تشعيره واقترانه الواحد بالاخر وشد مفاصل علاقاتهما البعض مع البعض الاخر كي يرسل سيلا من النصوص الشعرية بلغة شفافة وجدانية ثرة في معانيها وفضائها السيرذاتي.

يستهل الشاعر سمير مجموعته هذه بعتبة الإهداء الى الشاعر العراقي (سركون بولس) الذي حاول أن يلتصق بجده الاول كلكامش قبل ما يقارب 5000 سنة وينتعل حذاءه ويحمل عزمه وسراجه تاركا بلدته اوروك / الحبانية وكركوك ليصل الى بلاد الارز لبنان، الا ان الشاعر سركون لم يستسلم مثل كلكامش وحيث تراءى لهما الوجود والخلود على شكل سراب فاصبحت بلاد الارز هي المنتهى لكلكامش فعاد الى حيث المبتدى إلا أن سركون سار الى حيث دول العم سام كي يتذوق الفودكا ومن ثم يتقمط هناك المنتهى.

الشاعر بقصيدته الجميلة هذه والمعنونة (عرّاف أور خارج الملكوت ) تتشظى الى حيث أعماق الصراع فيفتتح مجموعته الشعرية ليقول لنا:

أيُّها الرَّائي في زمنِ اللارؤيا

الُمتَبَصِّرُ في زمنٍ تعشُو فيهِ الأبصارُ والعُقُلُ

أيُّها الرّاحلُ بلا اعترافٍ أخير في كنيسةِ الشِّعرِ

أيُّها الحالمُ بوطنٍ يُرمِّم انكساراتِكَ الأَزَلُ

أيُّها الُمهاجرُ المُتْعَبُ من حملِ الحقائبِ وأتربةِ الُمدنِ الّتي تَتَشَظّى

في وجهكَ كالزُّجاجِ

أيُّها الثائرُ في زمنٍ استوى فيهِ الثُّوار والتُّجارُ

أيُّها الرّاغبُ في موتٍ أكثر جمالاً وجلالا

منذ البدء تجسد لنا القصيدة كماً هائلاً من الاحلام التي يداهمها الخريف منذ خطوتها الاولى فمنها ما تعود الى مهدها وتتقمط منتهاها واخرى تتأرجح وتتمرد بقوة وصخب، لتحاكي ملحمة سفر كلكامش وحيث يبدأ توتره الانفعالي في أوج التصاعد التراجيدي وهو يرى حلمه بالخلود يتكسر بموت صديقه أنكيدو وفقدانه لعشبة الخلود فتمتد ايقاعاته لتبلغ ذروتها، وهو يعي مـا حدث لكلكامش حدث لسركون بولس ولعشرات من ابناء شعبه.

كيف لا نتعب من حمل الحقائب ويتعذر علينا أن نتقمط مبتدانا ليكون لنا المنتهى ونحن نرى في أوطاننا قادتنا (كثيرون في الأضواءِ / وقليلون في العملْ / قصيدته " تساؤل") كيف لنا ان نجعل مبتدانا يتقمط منتهانا ونحن نعيش الوهم ليقول في قصيدته (وَهْم):

جَدِّي كانَ يقولُ لي: غداً سيكونُ أجمل

أُمِّي تردِّدُ بينَ الفيْنةِ والأخرى: غداً أجمل

أنا الآخر، أَوهَمتُ نفسي، تاراتٍ وتارات

بإنَّ الغدَ أجمل.

آلافُ الغُدودِ أَقْبَلتْ وَوَلّتْ، ولَم تكن جميلة!

وقبل أن أنقلَ العدوى لأطفالي

شطبتُ الغدَ الجميلِ من قاموسي

وصنعتُ حاضري المغتَدِي بِيِدِي

من خلال هذا الكم من الصّور الشّعريّة المرتبطة بالخيال تنكشف قدراته التصويرية ومن خلالها نقل تجربته واحساسه الى القارئ وهو يرسم لنا بكل جرأة صورة الآخر بمشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش تجميل كونها ذات علاقة متبادلة بين التصوير الشعري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية عبر الخيال وهو يستغيث بالرموز التاريخية، وشخصيات تركت بصماتها على أذهان القارئ ليؤهلنا أن نغوص في أعماق صوره الشعرية ودلالاتها التعبيرية.

الشاعر سمير خوراني في مجموعته هذه يتناول أحداث عاصفة ترسم للمواطن العراقي مسار رحلته وهو يبحث عن عالم الخلود متأبطاً تقلباته الناتجة كرد فعل للهزات العنيفة الذي يتلقاها سواء في مهده أو مهجره، فهو ملزم بان يبحث في مضمونه الروحي من خلال تصوير ذاتيته أي عالمه الداخلي فجاءت قصائده وكأتها مرآة الذات الفردية فمثلت أناه بوصفها فاعلا شعريا لتنوب عنه في ميدان (الأنا) ليأخذ من التمركز الأنوي وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر ومن خلال فيضه الشعري. كما يقول في قصيدته (حلُمُ قديم):

في القريةِ الّتي كانَ كُلُّ شيءٍ فيها أَخضَرَ

كانَ الحُلُمُ يَنمُو كَشجرةِ الجَوزِ

وتَشْرَئِبُّ أَغصَانَهُ طُولَ المَدَى

لِتَحُطّ عليهِ الطّيورُ فَيُغَنّي:

ثم يقول

يَتَلاشَى الحلُمُ... تَتَهَاوَى الأُمنيةُ نَحوَ حَتْفِها

يُخَيِّمُ اللّيلُ مُتُثَاقِلاً،ثَمِلاً

الشاعر سمير خوراني ينطلق في مجموعته هذه من الذات الشاعرة بلحظاتها العاطفية المشحونة بالعواطف والأحساس فأنطلقت أناه منذ القصيدة الأولى نحو خريف الغربة إن كان في وطنه او في بلاد المهاجر لتتحد مع روح العديد من أبناء شعبه الذين يجمعهم وأياه المصير الغامض، ليقتحموا سوية منصة النص الشعري ويقيموا علاقة فيما بينهم، بأعتبارهم جزء مكمل لأناه وحيث الجميع بدأت أشجارهم الربيعية تتعرى في الخريف ليقول في قصيدته (الرحيل):

سَنسقُطُ كأَوراقِ الشَّجرِ

وُرَيْقَةً

وُرَيْقَةً

وندخلُ جوفَ الثَّرَى

كلُقَى الآثارِ

ولا ندرِي بعدَهَا

إن كُنّا سَنتلُو صلاتَنَا الأخيرة

في أرضٍ كُنّا نُسَمِّيها... وَطَنَاً

الشاعر سمير في ثنايا صوره الشعرية، يكمن الوطن والوطنية والحرية والانسانية و.. كلها عبارات تعويضية افتراضية لا وجود لها إلا في تلافيف حلمه الخريفي الذي صنعهُ بمخيلتهِ ، وتعبيراً عن حزنهِ وغربتهِ في وطنه او في مهجره يكون قد عبر تعبيرا عن حاجته لإثبات الذات وتحقيق الوجود. وكما يقول في نصه الخامس من تأملات:

طُوبى لي

فأنا مَحبُولٌ بوطنٍ من سبعةِ الآف عامٍ

وما زلتُ أنتظرُ.. الولادة

ولان المسافة التي يسير عليها الشاعر هي بطول حبله السري أو قماط مهده، لذا تراه ينتهي في نفس النقطة الذي يبتدئ منها مما يعطي للمكان منطلقا متينا لولوج خبايا تأويلاته والتي هي تأويلات لردود أفعال عوامل مختلفة باتت تشكل لديه تلافيف مسيرته باحثا عن الخلود كي يتشبث بدلالاته الحبلى برؤية جمالية وفلسفية لهذه التلافيف (الأماكن)، فأنتج لنا كينونة المكان وفاعليته على مستوى العلاقات التقابلية والضدّية في نصوصه الشعرية لذلك تجده يستنجد بالخيال للولوج الى عمق الصراع الدائر بين المبتدى والمنتهى مثلما يدور بين الميلاد والموت وهو يبحث عن أماكن جديدة علها يمتطي واقع حلمه للعثور على عشبة كلكامش وينال الخلود كما يقول في قصيدته ("لُعْبَة ):

أمّا أَنا، أيُّها السّادَة

فأظلُّ كَئِيباً

أجتَرُّ خَيْباتِي المُزمِنةَ

قُربَ نافِذَتِي

وأدخلُ في لُعبةِ البحثِ عنِ اللّامكان

نلاحظ أن الغربة المكانية والنفسية تسيطر على روح الشاعر حيث يعتبر حضور المكان مرهون بحسن استثمار الشاعر بتلافيفه في وسط صراعه مع مخيلته لتفرز له مكونات النص كي يفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار قصائد المجموعة من بدايتها وحتى نهايتها من خلال الصور الشعرية التي تزخر بها قصائده، وبهذا يصبح المكان مكونا مهما يساعد في صنع المعنى داخل النص.

إن النص يتخلق من خلال نصوص صغيرة يحولها إلى عناصر فاعلة تذوب في جسد النص، والتي تجعل منه قراءات متعددة، وكما في قصيدته (أرحل):

ارحَلْ

عن سمائِكَ المُغْبَرّةِ

وابحثْ عن سماءٍ تكونُ فيها النُّجومُ أَقربَ

وأَجملَ

وأَنصعَ

وأَصفَى

واتركْ أرضاً لا يَغْسِلُها المَطَرُ

إلى أرضٍ خضراءَ حُبْلى بالغيومِ والمَطَرِ والثَّلجِ

ففي قصيدته ("شِيواسارى) يكشف الستار عن زوال معالم الجمال في النفس البشرية وحيث الصراعات ورفع الشعارات المزيفة وقطع الرؤوس باسم الله دأبت على تشويه القيم الجميلة في قلوب الناس وحثتهم على ترك الإنتباه إلى ماخلق الله من جمال الأمكنة في هذه الدنيا وحيث سلبت المرء دهشته بعوالم الطبيعة وسحرها، لذا ينساق الشاعر بعفوية مع جدلية العلاقة بين أناه و بعض وجوه الطبيعة، والهادفة الى عكس رؤيته في الوجود وهو يضع بعض مقاييس التحول. حيث كل الاشياء التي تعطي وجودها من أجل اسعاد الاخر ينتهي بها الامر إلى الزوال.

يا نبعاً من الماءِ صافٍ

يجري تحتَ ظلالِ التوت

ويَمضِي الهُوَينَا حامِلاً

كلماتي وقُبُلاتي في سكوتْ. ها نحنُ- مثلكِ- ننتظرُ العُمْرَ

كي يفوتْ

ونموتْ

الشاعر يحاول دوما ان يكشف وينتقد الصراعات والانكسارات التي تلازمنا منذ المبتدى وستبقى تلازمنا وحتى المنتهى طالما نعيش في ساحة المزايدات. بمعنى آخر (الميلادُ أَوَّلُ خطوةٍ نَحوَ الفَنَاء / قصيدته (ميلادٌ وفَنَاء).

ولان الارض كروية لذا سيلتقي المتخلفون وتجار الزيف والمدعين زيفا ببضاعة اسمها الحرية وحقوق الانسان لذا تراه يقول في قصيدته (" لا فَرْق"):

ولأنّ الارضَ كرويةٌ لا مسَطّحة

فإنّ السائرينَ الى الوراء، تخلُّفا وتسلّفاً

والسائرينَ - بوهمِ الحرية- الى الامام،، تسَفُّفاً

سيلتقيان في نقطةٍ تُدعى

رأس الغباءِ الطّالِحِ

من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري يُضفي على صوره الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية للتخفيف من شدَّةِ الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر وكما نعيشه نحن، والتقليل من آثار تدفق إرهاصاته النفسيَّة والتي تصطدم بتداعياتنا الشعورية التي نواجهها في حياتنا اليومية وحيث التشاكل الدلالي من الصدمات والانكسارات التي نواجهها على مر السنين بسبب الحروب المتكررة تنعكس وتفيض بها نصوصه الشعرية. لذا تراه يتساءل في قصيدته (اندهاش) ويقول:

أَخْبِرني، أيُّها الكائنُ

كيفَ قَدَرْتَ

أن تَحمِلَ ثُقلَ آثامِنَا

من قبلُ ومن بعدُ

من غيرِ أن ترفعَ الشَّكوى أو تتذمِّرْ؟ !

تساؤلاته هذه مستخلصة من وقائع مَرايانا العاكسة لتكون لنا كاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها لِمَا في الرُّوح الذاتية الشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة.

ففي قصيدته (ارتِداد) يطرح الشاعر كماً من الصور الشعرية لمظاهر الحياة وهي من فرط حبها للعطاء تتكسر لذا تراه يتساءل ويقول:

ولأنَّ حاضِري زورقٌ

أتأرجحُ فيهِ واقفاً

وغَدِي مَجهولٌ لا أفقَ فيهِ

أجِدُني مُنْجَذِبَاً قَسْراً

إلى حائِطٍ قديمٍ مَحْبولٍ بذكرى

اتَّكِىءُ عليهِ خِيفةَ التَيْهِ.

في الختام أقول: في قراءتي للمجموعة الشعرية من زاوية تأويلية وجدت النص الشعري لديه يمتد بامتداد حلمه السائر عبر تلافيف الحياة ليتجاوز على المساحة المرسومة له بين المبتدى والمنتهى بنصوص حبلى بالإبداع، وهي تستمد خاماتها الشعرية من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق وهو يسير على منوال الشاعر الأمريكي والت وايتمان مقارعاً الواقع في الرصد والتقاط الارهاصات اليومية بمفردات شفافة ومباشرة. حيث تمكن الشاعر لما لهُ من ملكة شعرية قادرة على استقراء الأحداث التي تحصل يوميا وفق جدلية التفاعل بين الذات والآخر مع محيطه الداخلي والخارجي من خلال شخصيات تركت أثرها لدى الشاعر من أمثال الشاعر سركون بولس وسعدي يوسف و... مولداً صدمات قادرة على اجتراح ذائقة القارئ من خلال انسياب جوارحِهِ ومشاعرِهِ الفيَّاضةِ بألحان سلسة إلى مسامعِ القارئ. لذا فأن جمالية نصوصه هذه إنما تتأتى من الإيحاءات التي تشع بها صوره سواء من نصوصه الشعرية أو فلاشاته القصيرة. هذه الإيحاءات تراها حبلى بتأويلات عديدة. فمبارك لصديقنا الشاعر هذا الانجاز وتحية الى المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية التي وفرت الفرصة لقرائه لقراءة نصوصه الجميلة لكي نحلم حلمه وهو يقول.

أُمْنِية"

في هذا الشِّتاءِ القارسِ والقاسِي

أحلُمُ بأن أكونَ برميلَ نفطٍ

تحتفلُ به المدافىءُ الفارغةُ لبيوتِ الفُقَراء

كي يَتَدَفَّأَ بنارِها الصِّغارُ

بدلاً أن يذهبوا الى ربِّهم في السَّماء

***

نزار حنا الديراني - ملبورن - استراليا

في المثقف اليوم