قراءات نقدية

جيل دولوز وفيليكس غوتاري (5): المحتم والرغبة

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

اللاهوت السلبي (أو لاهوت الغياب)، وتسامي القانون، وأولوية الذنب، هي الموضوعات السائدة في معظم الدراسات عن كافكا. وتقدم المقاطع المشهورة في "المحاكمة" (وكذلك في "مستعمرة العقوبات" و"سور الصين العظيم") القانون على أنه شكل نقي وفارغ ودون مضمون، له موضوع مجهول دائما:وعليه يمكن التعبير عن القانون من خلال جملة فقط، ويمكن إدراك الجملة فقط من خلال العقاب. ولا أحد يعلم جوانية القانون. لا أحد يعلم ما هو القانون في المستعمرة. وتكتب أذرع الآلة الجملة على جسد المحكوم، الذي لا يعرف القانون، وفي نفس الوقت تفرض هذه الأذرع عذابها عليه. وهكذا "سيتعرف على 'الجملة' وهي على جسده".

في "سور الصين العظيم": "شيء مؤلم جدا أن تكون محكوما بقوانين لا تعرفها... وجوهر الشفرة المجهولة هو في أنه يجب أن تكون دائما لغزا". وقد وضع كانط نظرية عقلانية عن ردة القانون من المفهوم الإغريقي إلى اليهود مسيحي. ولم يعد القانون يعتمد على خير مسبق يمنحه ماديته، ولكنه أصبح شكلا نقيا يرتكز ويعتمد عليه الخير كما هو. والخير هو الذي يعبر عنه القانون حينما يعبر عن نفسه. ويمكن القول إن كافكا وضع نفسه في محل جزء لا يتجزأ من هذه الردة. ولكن الأخلاق التي استثمرها تبين قصدا مختلفا كلية. بالنسبة له المسألة أدنى من أن تكون عن تمثيل هذه الصورة للقانون المتسامي والمجهول، وأقرب لتجزيء ميكانزم آلة من نوع مختلف تماما، غير أنه يحتاج لصورة هذا القانون فقط ليرتب عتاده ويجعلها نشطة مثل كل متكامل يحظى ب "انسجام وتزامن مثالي" (وما أن تختفي هذه الصورة - الفوتوغرافية تختفي أيضا أجزاء الآلة كما هو الحال في "مستعمرة العقوبات"). ويجب النظر إلى "المحاكمة" على أنها اختبارات علمية، وتقرير عن التجارب المجراة على عمل الآلة والتي يتحكم فيها القانون بالخطر الداهم لسيرورة العمل،  مثل دور لولب التعبئة الخارجي. ولذلك يجب العودة للنص في "المحاكمة" بحذر شديد. والمشكلة الأساسية هنا تعاني من سوء تفسير أهمية هذه النصوص النسبية، مع اتخاذ فرضيات غير مثبتة عن موضعها في الرواية، كما هو واضح على نحو خاص في طريقة ترتيب ماكس برود الأشياء لتأكيد أطروحته عن اللاهوت السلبي.

ولدينا فصلان شديدا الأهمية على نحو خاص: الفصل المكثف الأخير، عن إعدام كاف، والفصل السابق "في الكاتدرائية"، وفيه يمثل الكاهن خطاب القانون. لم يخبرنا أحد أن الفصل الأخير مكتوب في نهاية "المحاكمة". وربما كتبه كافكا حينما بدأ التنقيح والمراجعة، وكان لا يزال متأثرا بإنهاء علاقته مع فيليس. وهي نهاية غير ناضجة، ومؤجلة، وجهيضة. ولا أحد يمكنه التلاعب بالمكان الذي اختاره لها كافكا. وربما هو حلم يمكن أن يدخل في أي مكان في سياق الرواية. وبالفعل نشر كافكا مقطوعة أخرى، مستقلة وتحت عنوان "حلم"، وهي بالأساس رؤيا تمهيدية ل"المحاكمة". وعليه كان ماكس برود مصيبا حينما لاحظ كيف  كانت "المحاكمة" رواية دون نهاية، وبالضرورة  دون حدود:"بالنسبة لل "المحاكمة، حسب تصريح الكاتب حرفيا، أنت لن تصل أبدا إلى المحكمة العليا، وبمعنى من المعاني لا يمكن للرواية أن تنتهي - ويسهل أن تقول إنه يمكن تمديدها بشكل لانهائي" (ملاحظة لترجمة ويلا وإدوين موير. نيويورك. ألفريد أ نوبف، 1956. 334). وفكرة الانتهاء بإعدام كاف تتعارض مع اتجاه كل الرواية ومع صفة "التأجيل غير المحدود" الذي يتحكم ب "المحاكمة". وموضع إعدام كافكا في آخر فصل يبدو أن له مرادفا في تاريخ الأدب - موضع الوصف المشهور للطاعون في نهاية كتاب لوكريتوس. في الحالتين هو مشكلة تظهر أنه ليس أمام الأبيقوري في آخر دقيقة إلا أن يستسلم للألم، أو أنه يمكن ليهودي براغ أن يباشر متابعة الذنب الذي يعمل في داخله.

أما بالنسبة للفصل الآخر "في الكاتدرائية"، فإن الشرف الذي منح له، والذي يدل أنه على نحو ما مفتاح للرواية، ومع أنه دليل على المكانة الدينية للكتاب، يتعارض أيضا بشكل ملحوظ مع محتواه. وقصة "حارس بوابة القانون" تبقى غامضة جدا، ويدرك كاف أن الكاهن الذي يروي هذه القصة هو عضو في الجهاز القضائي، وهو دير للسجناء، وهذا عنصر واحد من سلسلة عناصر أخرى، وهو بلا ميزات، لأن السلسلة لا تتوقف عليه. ونحن نوافق على اقتراح أويترسبروت الداعي لنقل هذا الفصل بحيث يصبح قبل الفصل المعنون "المحامي والصناعي والرسام"(1). من وجهة نظر تسامي القانون فرضا، لا بد من وجود ارتباط ضروري معين يربط القانون مع الذنب، مع المجهول غير المعروف، ومع الجملة أو العبارة. والذنب في الحقيقة هو قبلي ويترادف مع التعالي، لكل شخص أو لكل إنسان، سواء هو مذنب أو بريء. ولو أنه بلا موضوع وأنه شكل نقي، لا يمكن للقانون أن يكون مجالا للمعرفة ولكنه تحديدا مجال للضرورة العملية المطلقة: يشرح الكاهن في الكاتدرائية أنه "من غير الضروري أن تقبل كل شيء على أنه صحيح، وعلى الإنسان أن يقبله على أنه ضروري".

وأخيرا لأن القانون دون موضوع للمعرفة، فهو يعمل فقط على أنه بيان وبيان محدد لنشاط العقاب: مقولة محفورة مباشرة على الحقيقي، على الجسد والبدن، وهي عبارة عملية تعاكس أي  نوع من الافتراضات والتأملات. كل هذه الموضوعات تقدم على نحو جيد في "المحاكمة". ولكن على وجه الدقة إن هذه الموضوعات ستتحول إلى موضوع تفكيك (تجزيء)، وحتى إزالة، لخبرات كافكا الطويلة. وأول جانب من هذا التفكيك موجود في "إزالة أي فكرة عن الذنب منذ البداية"، وهذا جزء من التهمة ذاتها: الإقرار ما هو إلا حركة سطحية وفيها يحتجزك القضاة والمحامون كي يمنعوك من الدخول بعلاقة مع الحركة الحقيقية - وهذا يعني العناية بقضاياك الشخصية(2).

ثانيا، سيفهم كاف حتى لو أن القانون يبقى غير معروف، فهذا ليس لأنه مستور بتعاليه، ولكن ببساطة لأنه دائما محروم من أي جوانية: هو دائما في مكتب مجاور، أو وراء الباب، في اللامتناهي (ونحن رأينا هذا فعلا بشكل واضح في أول فصل من "المحاكمة" حيث يجري كل شيء في "غرفة مجاورة").

ختاما، ليس القانون هو الذي يعلن عنه بسبب الطلب على التسامي المختفي. وتقريبا هو العكس تماما: العبارة، النطق، الذي يبني القانون باسم قوة الواحد المتسلطة وهو الذي يعلن عنه- يرتبك القانون بما ينطق به الوصي، والكتابة تسبق القانون، ولا تكون التعبير الضروري والمشتق منه.

وأسوأ ثلاث موضوعات في العديد من القراءات عن كافكا هي عن تسامي القانون وتعاليه، وجوانية الذنب، وذاتية النطق. وهي مرتبطة بكل الحماقات التي كتبت عن المجاز والاستعارة والرموز في أعمال كافكا. أضف إلى ذلك فكرة التراجيدي، والدراما الداخلية، والعلاقة الحميمة.  ودون أي شك يقدم كافكا الطعم. ويقدمه، بوجه خاص، إلى أوديب، ليس بسبب الرضا ولكن لأنه يريد أن يوظف أوديب على نحو خاص ليخدم مشروعه الشيطاني. ولا فائدة ترجى أبدا من البحث عن موضوع حول كاتب ما إن لم يسأل المرء بدقة متناهية ما هو وجه أهميته في ذلك العمل، وكيف يعمل (وليس ما هو "معناه"). وكافكا بحاجة ماسة للقانون والذنب والجوانية - إن تحركت على سطح أعماله. والحركة السطحية لا تعني أنها قناع يختفي تحته شيء آخر. الحركة السطحية تدل على نقاط إبطال الفعل، الفك، وهو ما سيحرك التجريب حتى يبرز حركة الجزيئات والتركيب الآلي والذي تنجم عنه نتيجة كونية هي حركة السطوح. ونود أن نقول إن القانون والذنب والجوانية موجودة في كل مكان. ولكن ما هو ضروري أن تفكر بجزء محدد من آلة الكتابة على سبيل المثال، كالأسلحة الأساسية الثلاثة - الرسائل والقصص والروايات - وكي تؤكد أن هذه الموضوعات ليست حاضرة في أي مكان ولا تعمل أبدا. وكل سلاح / عتاد منها له بالتأكيد نبرة مؤثرة أساسية.

ولكن في الرسائل، أنت على موعد مع الرعب وليس الذنب: الرعب من الفخ الذي تقترب منه، والرعب من عودة التيار، رعب مصاص الدم من أن يكون فجأة أمام ضوء النهار تحت شمس ساطعة، أو بمواجهة الدين، أو الثوم، أو أن الوتد ثقب القلب (وكافكا خائف جدا، في رسائله، من الناس ومما يمكن أن يحصل بسببهم، وهذا يختلف تماما عن الذنب أو الإهانة). وفي قصص التحول إلى حيوان يوجد مهرب ذو نبرة مؤثرة دون أي ترابط مع الذنب. كما أنه مختلف عن الرعب. بالتحول إلى حيوان أنت تعيش حياة الهروب أكثر من حياة الرعب (الحيوان في "الأخدود" لا يخاف حقا، و بنات آوى ليست مرعوبة - وتعيش في حالة "أمل جنوني"، والكلاب الموسيقيون  "التي تجرؤ على تحقيق شيء من هذا النوع لا تحتاج للخوف من مثل هذه الأشياء").

وأخيرا في الروايات من الغريب أن تلاحظ الدرجة التي بلغها كاف في التحرر من الإحساس بالذنب، والتحرر من الإحساس بالرعب، وعدم المباشرة بالفرار. وهو صاخب تماما ويقدم نبرة جديدة غريبة تماما، لها معنى التفكيك والذي هو في نفس الوقت يعني القاضي والمهندس، وهذا إحساس حقيقي، روح Gemut. الرعب، الهرب، التفكيك - يجب أن نفكر بها على أنها ثلاث عواطف، ثلاث كثافات، وترادف الميثاق مع الشيطان، والصيرورة الحيوانية، والمكننة والتركيب التراكمي.

فهل يجب ان ندعم التفسير الواقعي والاجتماعي لكافكا؟.

بالتأكيد، بما أنه أقرب إلى استحالة التفسير بشكل لامتناه. ومن المفيد أكثر أن تتكلم عن مشاكل الأدب الثانوي، عن وضع يهودي براغ، عن أمريكا، وعن البيروقراطية وعن المحاكمات الكبيرة، ولا أن نتكلم عن إله غائب.

يمكن للمرء الاعتراض أن أمريكا كافكا غير حقيقية، وأن إضراب نيويورك غير ملموس، وأن أصعب حالات العمل لا تقلل من كرامته في عمله، وأن انتخاب القاضي يقع في مجال اللغو التجريدي. ويمكن للمرء عن وجه حق أن يلاحظ أنه لم يكن هناك أي نقد لكافكا على الإطلاق. وحتى في "سور الصين العظيم" يمكن لحزب الأقلية أن يؤمن أن القانون هو حقيقة عبثية عن "النبالة": فالحزب لا يعبر عن الغضب، و"إن السبب الحقيقي في أن الأحزاب التي تعتقد أنه لم يعد للقانون وجود قليلة جدا - مع أن أطروحتها هي بأساليب معينة، جذابة جدا،  وتحترم دون جدال النبالة وحقها في أن تستمر بالوجود". في "المحاكمة" لا يهاجم كاف القانون ويضع نفسه طوعا مع الطرف القوي والجلادين: ويطعن فرانز الذي تلقى الجلد، ويرعب الشخص المتهم بإلقاء القبض عليه من ذراعه، وعند المحامي يسخر من بلوك.

في "القلعة" يحب كاف أن يخاطر ويعاقب كلما أمكن. هل يمكننا أن نقول، وهو ليس "ناقدا لعصره"، إن كافكا حول نقده "ليكون ضد نفسه وأن لا يكون لديه منصة غير 'منصة داخلية'؟". وهذا شيء غروتسكي، لأنه يوجه النقد إلى بعد من أبعاد التمثيل. وإن كان التمثيل ليس خارجيا، سيكون حصرا داخليا من الآن وصاعدا.

ولكن هناك حقا شيئ آخر في كافكا: فهو يحاول أن يستخلص من التمثيلات الاجتماعية مركبات لفظية ومركبات آلية.، وأن يفكك هذه المركبات. وفعليا في قصصه عن الحيوان كان كافكا يرسم خطوطا للهرب: ولكنه لم "يهرب من العالم"، ولكن العالم وتمثيلاته هو الذي قام بالهروب، ثم تبع تلك الخطوط.  كما أنه إشكالية عن الرؤية والكلام مثل خنفساء، مثل خنفساء الروث. أضف لذلك، في الروايات، يدفع تفكيك المركبات التمثيل الاجتماعي إلى الهروب بطريقة فعالة أكثر مما يقوم به ناقد، ويقترب من إلغاء الحدود  في عالم سياسي ليس له علاقة بنشاط العاطفة (3).

للكتابة دور مزدوج: ترجمة كل شيء إلى تركيبات وتفكيك التركيبات. والاثنان شيء واحد. ولهذا السبب نحن نميز في أعمال كافكا حالات هي في الواقع متداخلة مع بعضها البعض - أولا الدليل الآلي، ثم الآلات المختزلة والمتجردة،  وأخيرا تركيبات الآلة. دليلات الآلة هي إشارات تدل على تركيب لم يتحقق بعد أو تم تفكيكه، لأن المرء يعرف فقط الأجزاء المعزولة التي يمكن أن تشترك بتكوينه، ولكن ليس كيف تتشارك معا. وعلى الأغلب هذه الأجزاء هي كائنات حية، حيوانات، ولكنها ذات قيمة فقط كأجزاء متحركة أو مشاركات في تركيب تذهب لما هو أبعد من المكونات، ولغزها يستمر لأنها  فقط من يتحكم أو أنها جلاد هذا التركيب. وعليه إن الكلاب الموسيقية هي في الواقع أجزاء التركيب الموسيقي وتنتج ضجيجا "برفع وتنزيل أقدامها، وبتدوير الرأس، وبركضها وخمودها، والوضع الذي 'تأخذه' لترتيب نفسها". ولكن وظيفتها لا تعدو أن تكون دليلا، فهي "لا تتكلم، ولا تغني، وتبقى على وجه العموم صامتة، وتقريبا صامتة بحزم". وهذه الدليلات الآلية (وهي ليست مجازية أو رمزية أبدا) متطورة جدا بشكل خاص فيما يتعلق بالتحول إلى حيوان، وفي قصص الحيوانات. وتشكل "المسخ" مركبا معقدا وله عناصر - الدليل،  وهي غريغور -الحيوان والأخت الموسيقية، وهنا يكون موضوع - الدليل هو الطعام، والصورة، والتفاحة. وفيه تكون تضاريس الدليل هي المثلث العائلي والمثلث البيروقراطي.

الرأس المنكس الذي ينتصب والصخب الذي ينتهي إلى صوت ويخرجه عن مساره يعمل أيضا كدليل لهذا النوع في معظم هذه القصص، ولذلك هناك دليل آلي في كل مرة تقام فيها آلة، وتبدأ بالعمل. ومع ذلك لا يعرف المرء كيف أن الأجزاء المنعزلة التي تكونها وتدفعها للعمل تعمل هي فعليا. ولكن الوضع المعاكس يظهر أيضا في القصص: تظهر الآليات المجردة في الوجود تلقائيا، دون دلائل. ولكن في هذه الحالة لا تعمل، أو أنها لا تواصل عملها. وهذه هي الآلة في "مستعمرة العقوبات" التي تستجيب لقانون الحارس القديم ولا تقاوم تفكيكها. وهكذا هو المخلوق المسمى أودراديك والذي "يغري المرء في أن يؤمن أن المخلوق كان له في وقت ما نوع من الشكل المحسوس ولكنه الآن بقايا محطمة فقط. ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال.. ويبدو المظهر العام دون معنى ولكنه بطريقته الخاصة ناجز على نحو مثالي".

وكذلك أيضا كرات بينغ بونغ بلومفيلد. ولكن يبدو أن تمثيل القانون المتعالي، بكل عناصر الذنب والمجاهيل التي يحملها، هي آلة تجريدية من هذا النوع. ولو أن الآلة في "مستعمرة العقوبات"، وهي ممثلة للقانون، تبدو أحفورية وخارج النطاق، وهذا ليس لأنه هناك قانون جديد، كما ادعى الناس مرارا، وهذا القانون أكثر حداثة، ولكن لأن شكل القانون على نحو عام، لا يمكن فصله، ولا يتطور، بطريقة محسوسة. ولهذا السبب تبدو القصص وكأنها تقاطع خطرين تمنعهما من إتمام عملهما، أو تجبرهما على البقاء غير تامين أو تمنعهما من التطور إلى روايات: إما لأنهما ليس أكثر من دلائل آلية تدل على التركيب، مهما كان وضعهما نشيطا في الظاهر، أو لأنهما يضعان قيد العمل آلات تجريدية كلها مجمعة ومركبة، ولكنها ميتة، ولا تفلح في الاتصال ماديا بأي شيء (ويجب أن ننتبه أن كافكا نشر بإرادته نصوصه عن القانون المتعالي في قصص قصيرة قام باقتباسها من عمل شامل).

عليه تبقى هناك تركيبات آلية بشكل موضوعات في الرواية. وفي هذه المرة تمتنع الدلائل الآلية عن أن تكون حيوانات. يجتمعون، ويتناسلون بشكل سلسلة، ويبدأون بالانتشار، ويأخذون أشكالا بشرية من كل الأنواع، أو أجزاء منها.

من جهة أخرى تتبدل الآلة التجريدية وتأخذ شكلا فرديا. وتتوقف عن أن تكون ملموسة ومعزولة. ولا يبقى لها وجود خارج التركيبات المادية والاجتماع سياسية التي تتقمصها.

وتنتشر فيها وتقدر درجة آليتها. وأخيرا تتوقف التركيبات عن العمل بصورة آلة في سياق تركيب وتجميع نفسها، وبطريقة غامضة، أو بصورة آلة تامة التجميع ولكنها لا تعمل، أو أنها متوقفة عن العمل. وتعمل فقط عبر التفكيك الذي تقود إليه الآلة وكذلك تقود إليه التمثيل. ولكنها تعمل، وهي تعمل فقط من خلال وبسبب تفكيك ذاتها. وهي تولد من هذا التفكيك (لم يكن التجميع والتركيب هو ما يهم كافكا على الإطلاق). وهذه الطريقة في التفكيك الإيجابي لا تستفيد من النقد الذي لا يزال جزءا من التمثيل. ولكن تكون متضمنة في استطالة، في تسريع، الحركة ككل والتي تعبر فعليا الحقل الاجتماعي. وتعمل في ظل افتراض حقيقي عمليا دون أن يكون فعليا (فقوى المستقبل الشيطانية المخصصة لهذه اللحظة تلامس فقط الباب).

***

........................

هوامش

1-انظر هيرمان أويترسبروت. هل أنت مستجد على أعمال كافكا؟.

(Antwerp: Vries-Brouwers). 1957.

2- كافكا. المحاكمة. 127: "علاوة على كل شيء، لو أنه عليه تحقيق أي شيء، من الأساسي أن يلغي من ذهنه ونهائيا فكرة الذنب المحتمل. وهذا الفعل القانوني ليس أكثر من صفقة تجارية لمصلحة البنك ، كما بين مرارا. وهي صفقة وفي داخلها، كما يجري غالبا، يتحرك الخطر والذي يجب بكل بساطة تجنبه".

3- حميمية البورجوازية الصغيرة وغياب أي نوع من النقد الاجتماعي هو الموضوع الأساسي للمعارضة الشيوعية المعادية لكافكا.  خذ على سبيل المثال دراسة نشرتها المجلة الأسبوعية "أكشين" عام 1946:" هل ينبغي إحراق كافكا؟". ثم أصبحت الأمور أصعب وأصبح كافكا على نحو متزايد مدانا لأنه ناشط ضد الاشتراكية، ومتورط في الصراع ضد البروليتاريا، بسبب اللوحات التي يرسمها للبيروقراطية. وتدخل سارتر في مؤتمر موسكو للسلام عام 1962 ودعا إلى تحليل أفضل للعلاقة ببن الفن والسياسة وبالأخص عند كافكا. ثم تابع مناسبتين في ليبليتة liblice في شيكوسلوفاكيا (1963و1965) وكلتاهما عن كافكا. ولاحظ المشاركون الإشارات على التبدل العميق، وفي الحقيقة، وردت مشاركات هامة من غولدستاكير وفيشر وكارست. ولكن دون مشاركين من روسيا. وكان للمشاركات وجود محدود في الدوائر الأدبية الاشتراكية. ولم تتكلم غير الصحافة الألمانية الشرقية عنها، ولإدانتها فقط. وقد تعرضت هذه المؤتمرات وتأثير كافكا للهجوم بحجة أنها أحد أسباب ربيع ثورات براغ. وأعلن غولدستاكر "نحن مدانان، أنا وأرنست فيشر، بأننا حاولنا استبعاد فاوست غوتة، وهو رمز الطبقة العاملة، من روح الاشتراكيين، وذلك لنستعيض عنه ببطل كافكا الحزين، غريغور سامسا، وهو رجل تحول إلى حشرة". وتوجب على غولدستاكر أن يهاجر إلى إنكلترا، وكارست إلى أمريكا. عن كل هذه المسائل، وعلى أوضاع الحكومات الشرقية المختلفة، وعن مقالات كارست وغولدستاكر الراهنة، انظر المقال الممتاز لأنتونين ليهام "كافكا بعد عشر سنوات" في الأزمنة الحديثة (تموز 1973).

* ترجمة الفصل الخامس من كتاب: كافكا - نحو أدب ثانوي. ص 43-52.

في المثقف اليوم