قراءات نقدية

جودت هوشيار: روميو وجولييت الأرستقراطية الحمراء

الكسندر تيريخوف كاتب روسي ولد عام 1966، وتخرج في كلية الصحافة بجامعة موسكو عام 1991. بدأ مسيرته المهنية صحفياً وكاتباً سياسياً، قبل أن يتجه للأدب في أواخر التسعينيات. نشر روايتين وعدة قصص قصيرة، لم تلفت الأنظار كثيراً.ثمّ فاجأ الأوساط الأدبية الروسية برواية " الجسر الحجري " عام 2009، وهي رواية طويلة تقع في ( 832) صفحة ومعقدة من حيث الأسلوب والبناء الفني، وتدور حول قصة " روميو وجولييت" العهد السوفيتي. وهي ليست قصة وثائقية، كما تبدو ظاهرياً، بل رواية يمتزج فيها الواقع بالخيال، وان كانت تتناول واقعة حدثت فعلا في ذروة الحرب الطاحنة بين الإتحاد السوفيتي وألمانية النازية في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. لم تكن هذه القصة تثير الإهتمام لو تكن تتعلق بعائلتين من النخبة المحيطة بستالين.

في 3 يونيو 1943 وقعت على الجسر الحجري الكبير بالقرب من الكرملين، فاجعة صدمت النخبة السياسية في ذلك الوقت، وأصبحت نقطة الانطلاق للتحقيق في الحقائق التاريخية والسياسية الأخرى. ففي حوالي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، عند نهاية السلم المؤدي من الجسر باتجاه المبنى الحكومي، الذي يسكنه كبار المسؤولين، وجد المارة فتاة أصيبت برصاصة في مؤخرة رأسها.، وفتى أصيب بجروح قاتلة - أصابته رصاصة في صدغه. كان مستلقيا على ظهره ويده اليسرى في جيبه. ولم تعثر الشرطة على مسدس في مسرح الجريمة. ولم ير أحد لحظة إطلاق الرصاص. من بين المتفرجين الذين جاؤوا راكضين، برزت سيدة جميلة جدا ترتدي ملابس أنيقة، تعض أصابعها في يأس.

تعرف الجمهور على الفتاة والفتى، وتبين أنهما من سكان المبنى الحكومي، تلميذان في المدرسة رقم 175 المخصصة لأطفال قادة الكرملين بضمنهم فاسيلي وسفيتلانا ستالين. الفتاة هي نينا أومانسكايا، ابنة كونستانتين أومانسكي، السفيرالسوفيتي لدى الولايات المتحدة، والذي تم تعيينه قبل ايام من الحادث سفيرا لبلاده في المكسيك. الفتى هو فولوديا شاخورين، نجل أليكسي شاخورين مفوض الشعب لصناعة الطيران. كان كلا الأبوين من بين المقربين لستالين. حاول أفضل الأطباء السوفيت إنقاذ حياة فولوديا دون جدوى، حيث توفي في صباح 5 يونيو دون أن ينبس ببنت شفة.

عهد بالتحقيق في الحادث إلى محقق سوفيتي بارع وهو ليف شينين، الذي سرعان ما خلص إلى إستنتاج مفاده: إن قتل الصبية نينا كان"بدوافع رومانسية"، وان فولوديا حاول إٌقناع صديقته بعدم السفر مع والديها إلى المكسيك والبقاء في موسكو.ولما فشل في مسعاه، أطلق النار على الفتاة، ثم على نفسه. اشتهرت الفتاة بجمالها، حيث درست ونشأت في أوروبا الغربية، وعندما كانت في واشنطن مع والديها دعيت للظهور في مجلات الموضة، حتى الرئيس روزفلت - الذي لم يعجبه أومانسكي كثيرًا، فقد كان يعتبره، ربما ليس بدون سبب جنرالا في المخابرات السوفيتية - أشار إلى جاذبية نينا غير العادية.

منظمة الرايخ الرابع

تبين من خلال التحقيق ان المسدس الذي استخدمه فولوديا في قتل صديقته ونفسه يعود إلى فانو إبن أنستاس ميكويان (أحد مساعدي ستالين) الذي كان معهما على الجسر. وان فولوديا أستعار المسدس منه لتخويف صديقته.وادعى فانو خلال التحقيق أنه غادر الجسر قبل وقوع الجريمة،ولكن سرعان ما أخذ التحقيق منعطفًا جديدًا بعد العثورعلى يوميات فولوديا، التي تحتوي على تفاصيل المنظمة النازية التي تشكلت في مدرسة النخبة واطلق عليها "الرايخ الرابع" بزعامة فولوديا وعضوية عدد من أولاد كبار المسؤولين في الحزب والدولة بينهم نينا (القتيلة) ووفانو ابن أنستاس ميكويان.وقد أطلقوا على انفسهم القاباً نازية. وكان هدفهم الرئيسي هو الإستيلاء على السلطة بمجرد إنتهاء الحرب. بعد أن قرأ ستالين نتيجة التحقيق قال عن هؤلاء المراهقين إنهم " أشبال الذئاب ". وينبغي معاقبتهم.

بعد استجوابات دامت ستتة شهور في سجن لوبيانكا وقع أعضاء المنظمة على اعترافات خطية، ما عدا فانو إبن ميكويان، ولكن والدته التي كانت حاضرة خلال إستجوابه، قالت لإبنها أن والدك يأمرك بالتوقيع على الإعتراف، فوقع بدوره. وحكم عليهم بالنفي لمدة عام إلى مدن نائية في سيبيريا وأوزبكستان.. ومع ذلك، فإن آبائهم ظلوا بمنأى عن الفضيحة. في ذروة الحرب ضد المانيا النازية، لم يجرؤ ستالين على القيام بأعمال انتقامية ضد هؤلاء الآباء الذين كان معظمهم أعضاء في لجنة الدفاع عن الدولة.

قال فانو لأبيه: " إنني برئ ". فرد ميكويان:" أعرف ذلك ولو كنت مذنبا لخنقتك بيديّ". غادر أومانسكي مع زوجته المذهولة في اليوم التالي لمقتل ابنته لتولي منصبه الجديد في المكسيك. وبعد عام وسبعة أشهر لقي حتفه مع زوجته  في حادث تحطم الطائرة التي كانت متجهة إلى كوستا ريكا. وأثار هذا الحادث تكهنات لم تتضح أبعادها حتى الآن. وواصل ميكويان شغل مناصب عليا في الدولة السوفيتية حتى عام 1965. أما إبنه فانو فقد أصبح مصمما شهيرا للطائرات، ومنها طائرات الميغ المعروفة.

لم تنشر نتائج التحقيق الرسمي حول قضية الجسر الحجري لعلاقتها بقادة الكرملين،وأدى ذلك إلى ظهور العديد من الشائعات والأساطير حول القضية. ولم تسمح السلطات لبطل الرواية –اليكسندر فاسيلييفيتش- وهو ضابط سابق في جهاز الأمن الداخلي تولى التحقيق في القضية في عام 1990- بالإطلاع على ملف التحقيق الرسمي. وظل لمدة عدة سنوات يقلب كما هائلا من المستندات القديمة عن تلك الفترة الزمنية ويحلل أقوال الشهود الذين ما زالوا على قيد الحياة ولهم صلة بالقضية. وفي النهاية، تبين أن عمله المضني بلا جدوى..

الموقف من الستالينية

وتركز إهتمام المؤلف أيضًا على التغطية الغامضة لموضوع الستالينية واستنتاجاته المخيبة للآمال بأنه " ليس من الضروري إثارة الماضي، فمن المستحيل إثبات الحقيقة، والتاريخ ما هو إلا ثمرة للتفسيرات المختلفة ". ربما لهذا السبب لا يوجد اليوم فهم مشترك للقيم عند الروس، ومن الصعب عليهم فصل الخيرعن الشر. وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يعد حوالي 40٪ من الروس ستالين شخصية تاريخية كاريزمية. وهذا يمكن تفسيره بجهل الروس لتاريخ بلدهم. ولكن " الجسر الحجري ليست رواية عن العهد الستاليني، بل عن بحث الروس بعد تفكك الإتحاد السوفيتي عن حقيقة ما حدث في حزيران عام 1943،وتقييم التجربة السوفيتية.

يحاول المؤلف، تبرير سنوات الإرهاب الستاليني، بطريقة غير متوقعة تمامًا - ويقول أن الأرستقراطيين الحمر كانوا أناسا "حديديين" وكل ما فعلوه كان مهيبًا. ويزُعم أن ستالين نفسه حارب هذه "الطبقة اللعينة".لكن تيريخوف يتجاهل مجمل القمع الذي مورس ليس فقط على الحاشية الستالينية، بل طال فئات اخرى من الأدباء والفنانين والعلماء والناس العاديين.

إن افتتان تيريخوف بعصر ستالين، واضح منذ فترة طويلة: فقد نشر عام 1993 مقالا في صحيفة " البرافدا" بعنوان "في ذكرى ستالين".قال فيه أن كل جهود الليبراليين لفضح "الغول الدموي" كانت بلا جدوى. سيظل ستالين في ذاكرة الشعب باعتباره زعيما ملحميا. في الوقت نفسه، لم ينكر تيريخوف إطلاقًا أن "الإمبراطور جوزيف ستالين" كان مصاصًا للدماء - مثل بطرس الأكبر و إيفان الرهيب." الجسر الحجري" رواية قاتمة ومناهضة للإنسانية في جوهرها، لأن المؤلف يبرر الإرهاب الستاليني، ولا يخفي إعجابه بالماضي المأساوي.

الجنس الجسدي

هناك الكثير من الجنس في الكتاب. البطل جذّاب في نظر النساء من شتى شرائح المجتمع (طبيبات، ممرضات، سكرتيرات، موظفات، أمناء مكتبات، نادلات،، سائقات ترام...إلخ)، كلهن يقعن في حبه، لكنه مع ذلك يشعر بأنه لا يستطيع إعطاء الحب الروحي المتبادل لأي منهن. الرواية مليئة بالجوانب الجسدية فقط للحب. كلمات وأفكار ومشاهد قذرة. البطل يعد النساء مجرد أداة لتحقيق الرغبات البيولوجية للإنسان. وقد أثار هذا الموقف الغريب حفيظة وإستهجان النساء في روسيا.

 يقسم بطل الرواية كل الناس في عصره إلى وقطاع طرق، ومرتشين. وعاهرات،ولكن حتى عند وصف هؤلاء، يبدو أنه لم يعد البطل، بل المؤلف الذي يقسم العالم وفقا لنفس المبدأ.

بين فترات ممارسة الجنس، يبحث البطل في الأرشيفات، ويذهب إلى المشاركين الباقين على قيد الحياة في تلك الأحداث ويصل إلى ما سمي ب"قضية الأشبال". هذا أيضًا هو ذلك الجزء المشين من التاريخ الذي لا يرغب الباحثون الروس في التطرق إليه، ولا يتم تضمينه في الكتب المدرسية.

الأرستقراطية الحمراء

أفضل ما في الرواية هو وصف حياة الطبقة السوفيتية الحاكمة أو الأرستقراطية الحمراء في العهد الستاليني. التي عاشت في بحبوحة ورخاء وحظيت بإمتيازات، لم يحلم بها كبار الرأسماليين في الغرب،وتخلى أفرادها عن كل ما هو إنساني في أنفسهم من أجل السلطة، و تستروا على الحقائق، حتى عندما كانوا يكتبون مذكرات فارغة مكونة من كليشيهات مبتذلة. ولكن اطفالهم لم يفهموا قط، بأي ثمن وصل الآباء إلى مواقعهم في السلطة. تيريخوف، الذي يصف الحياة اليومية للبطل وتداعيات الماضي في ذاكرته، يعطي القارئ مادة للتفكير في الموضوع: الحب مكلف، ويذبل بسرعة؛ التخلي عن الحب مكلف أيضاً - كيف يمكنك ملء الوقت المتبقي قبل الموت بدون حب؟ عليك أن تفكر في الأمر وتختار.

مآخذ فنية

"الجسر الحجري" رواية مطولة، فضفاضة من الناحية الهيكلية، ومربكة للغاية من الناحية الأسلوبية، وغير مؤثرة عاطفياً نظرا لوجود العديد من  القصص الفرعية، التي لا علاقة لها بالحبكة الرئيسية، ومنها الحديث الطويل عن السفير أومانسكي وإنتحارعشيقته الموظفة في وزارة الخارجية السوفيتية. أو تفاصيل الحياة الشخصية للقادة السوفيت: أندرية غروميكو،ومكسيم  ليتفينوف وأندريه غروميكو، ولافرينتي بيريا وجورجي مالينكوف، وأنستاس ميكويان،وهي قصص لا تؤدي إلى تطوير الحبكة أو إلقاء الضؤ على القضية.

في الصفحة 566 يتحول السرد الواقعي إلى خيالي محض: يدخل البطل إلى نوع من المصاعد ويجد نفسه في المكسيك في عام 1945، ويستجوب الشهود حول تحطم الطائرة التي كانت تقل السفير أومانسكي وزوجته، ويعود إلى روسيا في المصعد نفسه..

يبدو للقارئ المتمعن ان الرواية تتألف من قصتين مختلفتين تماماً – الأولى هي رواية إستقصائية عن الحادث عند سلم الجسر الحجري، والثانية المغامرات الجنسية المثيرة للبطل،، وقد نشرتا بين دفتي كتاب واحد. الأولى قصة مثيرة للإهتمام، يمكن الإحتفاظ بها في مكتبة بيتك، وإن كانت لا تخلو من المثالب.والثانية ينبغي إلقاؤها في سلة المهملات دون تردد.، لم يقسم المؤلف روايته إلى فصول أصغر. أحيانا يلتبس على القارئ مكان وزمان الأحداث الموصوفة. كان من الأفضل إختصار هذه الرواية االمترهلة وسرد مضمونها في مئة صفحة بأسلوب مشوق، وبناء فني محكم.

لغة العرض باهتة، غير مثيرة للاهتمام. يغرق المؤلف في تفاهات غير مهمة، وتفاصيل غير ضرورية، ويحول السرد جانبا، ثم يبدو أنه يفقد الاهتمام بما تم تقديمه. ويكاد يكون من المستحيل فهم معنى التحقيق في "قضية الأشبال" في فوضى العقل الباطن للمؤلف.

أثارت هذه الرواية ضجة في الأوساط الأدبية الروسية، ورشحت لأهم الجواهز الأدبية المرموقة في روسيا وحصلت على المرتبة الثانية لجائزة " الكتاب الكبير" (جائزة الدولة التقديرية) لعام 2009 ، وحولت إلى مسلسل تلفزيوني روسي عام 2020. الإهتمام المكثف بهذه الرواية الثقيلة والترويج لها من قبل دور النشر والإشهار الروسية التجارية دليل على مدى تردي مستوى الأدب الروسي بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، فهذه الرواية المملة تبدو جادة لأول وهلة في خضم الأدب الخفيف المسلي الذي ساد المشهد الأدبي في روسيا الأوليغارشية.كما أن ترجمتها إلى الإنجليزية وإهتمام النقاد الغربيين بها يرجع إلى تشجيع هؤلاء النقاد لكل ما هو غريب ومثير في الأدب الروسي المعاصر، بصرف النظر عن قيمته الفنية والجمالية.

***

د. جودت هوشيار

في المثقف اليوم