قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: قراءة نقدية موسعة لقصيدة "حسناً أيها الجسد"

الشاعر العراقي فارس مطر.. أردتُ القلب من الجسد إلى الجوهر
يأتي النص القصير:
"حسناً أيها الجسد،
لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر
ماذا بعد الحلمة؟
كنتُ أريدُ الأبعد،
أردتُ القلب..
القلب". ليمنحنا مشهداً شعرياً مكثفاً في لغته، عميقاً في دلالاته، يتحرك من الجسد نحو الروح، ومن الرغبة نحو الحب، ومن اللمس الفيزيائي إلى لمس الوعي. ينتمي النص إلى نمط الكتابة الشعرية المعاصرة التي تراهن على القصر والتكثيف والإيحاء، وتفتح مجالاً للتأويل الوجودي والعاطفي في آنٍ واحد.
التوتر بين الجسد والمعنى
في هذا النص، لا يُقدَّم الجسد كغاية، بل كبداية طريق نحو شيء أعمق. فالسطر: "لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر" قد يُفهم بدايةً كفعل جسدي أو شهواني، لكن سرعان ما يُجهض هذا الفهم في السطر التالي: "ماذا بعد الحلمة؟"، وهو سؤال يتحدى الجسد ويبحث عمّا وراءه.
بهذا يتحول الفعل من مجرد اقتراب جسدي إلى بحث روحي، وهذا ما يعبّر عنه النص بـ "كنتُ أريد الأبعد، أردتُ القلب".
إننا هنا أمام حركة عكسية: لا تندفع من القلب نحو الجسد كما هو مألوف في حالات الحب الشهواني، بل تبدأ من الجسد لتصل إلى القلب، في رحلة تقشير لطبقات الإنسان وصولاً إلى الجوهر.
-- : الأسلوب والتكثيف اللغوي. يمتاز النص بأسلوب شعري مكثّف، لا يستخدم البلاغة التقليدية أو الصور المزخرفة، بل يذهب مباشرة إلى المعنى، ولكن بلغة مشحونة بإيحاءات حسية ووجدانية في آن. فكل سطر يُبنى على سابقه، بتصعيد داخلي: يبدأ بالنداء: "أيها الجسد"، ثم يأتي الفعل: "وصلت يدي...". ثم الانكسار بالسؤال: "ماذا بعد؟".
ثم البوح بالرغبة الحقيقية: "أردت القلب".
هذا التصعيد لا يهدف إلى إحداث إثارة بل إلى كشف داخل الذات: حركة من الخارج إلى الداخل، من الفعل إلى التأمل، من اللذة إلى الوعي.
البعد الفلسفي – الإيروس كطريق إلى الروح
النص يستحضر نوعاً من الإيروس الفلسفي، أي الحب الذي يبدأ من الحواس لكنه لا يتوقف عندها. وهذا يذكّرنا بـ تصور أفلاطون في "المأدبة" عن الحب الذي يبدأ من جمال الجسد، ثم يصعد تدريجياُ نحو جمال الروح والفكر.
إن سؤال: "ماذا بعد الحلمة؟"، هو تحدٍ للغريزة، ومحاولة لتجاوزها، من خلال رغبة في "معرفة" الآخر لا امتلاكه، وفي الوصول إلى "القلب" لا الجسد فقط. إنها محاولة لأنسنة الرغبة، أو جعلها طريقاً لاختبار الحقيقة لا الاستهلاك.
مقارنة بنصوص مشابهة
أ. محمود درويش في "أحبك أكثر":
: أحبكِ أكثر..
لا أعرف ماذا أحبُّ فيكِ.. هل هي الزرقة التي لا تراها؟ أم هو الحزن الذي يتخفّى في ضحكتكِ؟"
مثل هذا النص، يتجاوز درويش الشكل الخارجي للمرأة ويغوص في تفاصيلها الداخلية، اللا مرئية، كأنه يردد المعنى ذاته: الجمال الحقيقي ليس في الخارج بل في العمق.
ب. أنسي الحاج في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":
"أحبكِ لأنكِ تلمسين العالم لا بأصابعكِ بل بقلبكِ" .
أنسي، ككاتب يتقاطع مع الإيروتيكا الوجودية، يرى في الجسد بوابة إلى ما هو أبعد. وهذا أيضاً ما يفعله النص الذي بين يدينا، ولكن من زاوية الذكر الذي يريد ألا يقف عند الجسد بل يطلب جوهر الإنسان.
البنية النفسية للمتكلم
النص لا يتكلم بلسان عاشق عادي، بل يبدو صوت الذات الشاعرة هنا مأزوماً بوجوده، لا مكتفياً باللذة، بل يبحث عن معنى، عن "قلب" يحسّ أنه مفقود أو بعيد. هناك جوع روحي خلف الفعل الجسدي. وهذا يمنح النص طابعاً سيكولوجياً يتجاوز الغرض العاطفي.
في الختام:
في هذا النص القصير، يلتقي الجسد بالروح، والرغبة بالحب، واللمسة بالسؤال. لا يكتفي المتكلم بالفعل الحسي، بل يتجاوزه نحو التأمل، فيجعل من العلاقة مع الجسد تجربة وجودية، لا لحظة غرائزية. بذلك ينضم النص إلى سلسلة من الكتابات الحديثة التي تسعى لفهم الإنسان لا من الخارج، بل من الداخل: من القلب.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.........................
نص القصيدة
حسناً أيها الجسد،
لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر
ماذا بعد الحلمة؟
كنتُ أريدُ الأبعد،
أردتُ القلب..
القلب
***
ميلانو / إيطاليا