قراءات نقدية
عبد الستار نورعلي: سنية عبد عون رشو وقصة "شهيق وزفير"

القصة القصيرة (شهيق وزفير) للقاصة سنية عبد عون تتجوّل في أزقة الواقع الاجتماعي العراقي؛ لتلتقط منها حكايات شخصياتها، وأحداثها، وحركتها، ومعاناة شريحة من المجتمع، وهو اختيار فنّيّ قصصي (نقدي) للكاتبة، مثلما عوّدتنا في قصصها عموماً، اختيار عن قناعة، وموقف، واتجاه، وبناء فني للظواهر السلبية والإيجابية في هذا الواقع الاجتماعي، وأثر ذلك على النفس فرديّاً وجمعيّاً.
القصة تتناول حياة امرأة عراقية، متعلمة (مديرة مدرسة متقاعدة)، ومضحية من أجل بناء شخصية ومستقبل زاهر وآمن لأولادها، بعد استشهاد زوجها في الحرب العراقية - الإيرانية الطويلة في الثمانينيات من القرن المنصرم. وهي بهذا تتناول شريحة من العراقيين وهي المرأة/بطلة القصة، ومن خلالها تصوّر معاناة المرأة العراقية في تضحيتها، وتحمّلها بمقارعة الصعاب، وشجاعتها، وإصرارها على مواصلة الحياة بثبات وقوة مع الظروف القاسية التي تمرّ بها؛ لإيصال أبنائها الى برِّ الأمان، رغم فقدان ربّ الأسرة، ومعاناتها هي، وتضحيتها الكبيرة، لكنّها راضية مقتنعة، مؤمنة بدورها الأمومي. وبذا تعطي مثالاً إيجابياً للمرأة، وهو مثال موجود في المجتمع وبكثرة. والقاصة هنا تركز في حكايتها على هذا الجانب، مع الإشارة النقدية غير المباشرة الى أحد الجوانب السلبية في الواقع، وهو النكران والإهمال، والتهميش الذي تواجهه هذه الشريحة مع عظيم تضحياتها.
تمتاز القصة بجماليتها الظاهرة، سرداً ولغةً، وأسلوباً تزيِّنه الإثارة والشدّ والفضول، والتفاعل والمعايشة، من خلال جذب المتلقي بأحداثها المتسلسلة، وجعله يتابع بشغف حتى نهايتها، وبحبكة مُحكّمة.
القصة إحدى الحكايات الواقعية التي مرّت وتمرّ بمجتمعنا، وهي تغطي بعض الظروف التي عاشها، ويعيشها المجتمع العراقي وأفراده، ففي كل بيت معاناة، وفي نفس كلِّ أمّ ألم دفين، وجرح غائر نازف، بصمت وتحمّل، خلف الظاهر الذي يخفي الكثير من الآلام، والأحزان، والأحلام التي تصطدم بمرارات الحياة، وقسوتها.
تتناول القاصة الأحداث والشخصيات ببراعة سردية فنية، ولغة غنية بالمفردات، والأساليب الصياغية المنسجمة، والمتناغمة مع الحالة الموصوفة، وبموهبة كبيرة واضحة، تعمل كلها كخلية نحل. كل واحدة تؤدي دورها، ومهمتها في الحكاية المروّية، بإتقان وحرفية عالية؛ لذا تحمل قصصها شحنات من التجربة في الحياة، والتقاط الأحداث والشخصيات من الواقع الاجتماعي، بدقة متناهية؛ لتقديم صورة فوتوواقعية، من غير السقوط في مزالق المباشرة، كتقرير صحفي إعلامي. ثم تقوم الكاتبة سنية عبد عون بصياغتها فنيّاً، وبمهارة ملحوظة.
(شهسق وزفير) قصة قصيرة، مكتنزة بكلّ قوانين، واشتراطات فن السرد القصصي، من حيث العرض بحبكة متقنة، بدايةً ووسطاً ونهايةً. والتسلسل فيها يجري بعناية وحرص؛ لتكون الأحداث مترابطة الأجزاء، واقعية مقنعة، تصل الى الخاتمة الطبيعية التي ترسمها القاصة، وهي الضربة النهائية في مسيرة الحكاية، الضربة التي تترك أثرها في المتلقي، وهو الهدف من الكتابة، ومعاناتها عند التحضير والتأليف، لإيصال الفكرة المبتغاة بعناية وحرص، والّا.. فلماذا نكتب؟
هناك ميزة أخرى مهمة، وبارزة في أدب كاتبتنا، هو الإحساس الدافع للتجربة التي تخوضها في السرد القصصي، ففيه يشعر المتلقي، ويعيش مع الشخصيات ما تعيشه، من خلال السرد المُحكّم، والوصف الدقيق، بلغة ثرية متقنة، لما تعانيه، وتمرّ به الشخصيات في حياتها اليومية، وما تحيط بها من ظروف. وهذا نابع من إحساسها هي بالحكاية وأبطالها، وكأنها حقيقةً هي البطلة التي تتناولها. وهذا نجاح فائق.
والحق أقول، شعرتُ أنا شخصياً بغصة في نهاية القصة هذه، فترقرت الدموع في عيني، واجتاح حزن نفسي فانقبضتُ، وهذا دليل على كل ما أسلفت من ذكر لما يتصف به أدبها القصصي. وقد سبق لي في الكتابة عنها من قبل أن أشرتُ الى أثر الشعر في أسلوبها السردي وبنائها اللغوي في القصة، من خلال كمية الأحاسيس، والمشاعر الصادقة التي تتناولها في الشخصيات داخل رواية الحكايات الواقعية في فنها، مثلما نقرأ أثر السرد في نصوصها الشعرية. فالإحساس والشعور هما سيدا الشعر، وحادياه، وملاحاه، وفارسا مخياله. وهما النسيج الفنيّ الأدبي الذي يتداخل معاً في أسلوبها قصّاً وشعراً.
***
عبد الستار نورعلي – شاعر وناقد
..................................
شهيق وزفير ...قصة قصيرة
سنية عبد عون رشو
تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصاً من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها .
كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين . وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها .. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها .
تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد .
عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور . وها هم اليوم رجال ملتحون .
أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات . ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها .
متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها . وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد .
الظروف وضعتها هنا رغما عنها . وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها . كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل ، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها : ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع ..انتظريني سأعود ، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر ..وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي . لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان . ولتبقى تنتظر من لا يعود .
كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها ..وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب . لقد انشغلوا عنها تماما . لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها : اتصلي بنا عند الضرورة .
اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين
كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار .وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة ..لذا يكون تواجدها نادرا .
اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية . لكنها ثرثارة قليلا
سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده ..؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول : انا متزوجة من الانتظار ...وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم .
اذن وماذا تكتبين ولمن ..؟؟
أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا .
ثم قالت : أكتب له ..ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب . انه لا يكذب حين قال لي انتظريني ..
كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة . والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا .
وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي . وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد ، نقلت على أثرها للمشفى .
طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض .
ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها .وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر .
اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر . وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى .
بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت .
تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه . كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق .
..أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي : سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي .. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا . لكنني أحبكم يا أغلى الناس .
تساقطت دموعه فوق السطور ..لكنها تساقطت في الوقت الخطأ.
1 / 6 / 2025