قراءات نقدية
نسرين إبراهيم: حين يتكلم الوجع.. خطاب متعدد اللغات والأصوات والهويات

يقول الجاحظ "القلوب المكلومة إذا قالت أوجعت، وكان لكلامها وقع لا يكون لغيرها"
في ارض العراق يتشارك الجميع الألم، فهو القاسم المشترك تتوارثه الأرواح فيتشكل من خلاله الجزء الأكبر للمخيال الجمعي، وكما يقره الباحثون، فهو البنية الرمزية التي تنبثق من الوجدان الجماعي وتتسرب إلى اللغة والصورة والرمز لتتجسد من خلالها، ولذلك كان الشعر أرضا خصبة للمخيال الجمعي، فمن خلاله تَّحول النص إلى مرآة تكشف ذلك القلق بحنين وألم الشاعر تارة وبالبحث عن الهوية المستلبة أو المهددة تارة أخرى، ومن هنا أتقدت فكرة إماطة اللثام عن هذا القلق، متجاوزا الأمكنة عابرا لتلك التنوعات الثقافية فلا يعترف بالخرائط ولا تحده ثقافة متخطيا ذلك، متسللا عبر الثقافات معانقا لذلك المشترك الثقافي، بنبرة حزينة تجمع ما بين شاعر الجنوب يحيى السماوي وشاعر الشمال جهاد الدامرجي، وصوت الانتماء المربك شاعرة الأنثى آمنة محمود ليتبدى لنا صوت يشق جدار سومر لتنهض تراتيل سومرية نازفة من الطين ذاته، ارض العراق، لتجمع بين نخيل الجنوب يحيى السماوي، وسرو الشمال، جهاد الدامرجي، وصفصافة الأعظمية آمنة محمود.
إنَّ التمثلات الشعرية للغربة والحنين والانتماء للشاعرين نراها محملة بمعاناة جماعية تتجاوز الذات الفردية، فلم تعد الغربة توحي بذلك البعد المكاني، بل نرى الشاعر يُعيد تشكيلها لتعبر عن انفصال قسري وتمزق داخلي ناتج عن الإقصاء والتهميش وتنميط الأخر ووفقا لذلك يتلاقى الشعراء.
أولا: المكان بين وجع الروح وألم الجسد.
يتعامل الإنسان مع الأمكنة وفقا لمنظومة متباينة من الدلالات كان منها ما يركز عليه الشاعر من دلالة توحي بها علاقة الروح مع الأمكنة، فتلك العلاقة تجسد لنا لحظة الهلاك لذلك الجسد إذما فارقته الروح \المكان وهذا يُشير إلى رابط نفسي ووجداني بين الشاعر والمكان [1]، وتبعا لذلك يقول السماوي ما نصه:
أأحمل ُ نخلة أمي معي ؟
أم أترك روحي هناك
وأهاجر وحدي ؟[2]
وهنا يدخلنا الشاعر في دوامة فقده لروحه متسائلا إن كان بإمكانه أن ترافقه تلك الروح التي تجسدت كائنا أخر يحاوره الشاعر، إذ يتساءل السماوي إن كان بإمكانه أن يحمل وطنه \نخلة أمه وهو يعلم بأنه ليس بإمكانه أن يحمل وطنه معه، فالعلاقة بين الشاعر \الأم \النخلة، علاقة ثلاثية الأبعاد، تتجسد من خلالها الهوية متمثلة بالمكان، وتكون الأم دليل الانتماء أما النخلة فقد كانت رمزا للمكان وامتدادا للأم، واصول الشاعر الجنوبية، فهي شامخة متجذرة كالأم تشد الشاعر إلى اصوله الجنوبية فالصورة تختزل دلالة روحية فضلا عن دلالتها المكانية.
أما سؤاله فمؤكد أن الشاعر على علم بالإجابة وهي استحالة أن يحمل الشاعر تلك النخلة، والهوية والمكان، وهنا تكمن لحظة الوجع من خلال منفى الشاعر الحقيقي ووانفصاله عن تلك الجذور.
أما الدامرجي فقد يتجسد الوطن في صورة أنثى تتوحد مع الأم والحبيبة، فكانت مصدرا يهبه الحياة وتؤكد أُصوله وتعزز انتمائه، لكن الشاعر يعيش لحظات الفقد ذاتها التي شهدها السماوي فيقول ما نصه:
"آنا كركوك
كَوزل ياريم
سن سز قالماغ
جانسيز قالما ق."[3]
يتحقق من خلال علاقة الدامرجي مع مدينته وجوده وتثبت هويته ويُعزز انتماءه، وفقدانها هو قطع لتلك الأواصر وإلغاء لهذا الوجود، وانكسار لجوهر الشاعر الداخلي، فالمدينة \كركوك، هي الأم والحبيبة الجميلة وبمجرد أن يفارقها كأنما يُفارق روحه، وهي علاقة مشابهة تماما لعلاقة السماوي مع النخلة التي لا يمكن أن يقتلعها ليحملها معه أينما حل.
يعيش الشاعران التجربة ذاتها وحالة الفقد ذاتها، فتغدوا العلاقة مع المكان
إنَّ ما يُميز قصائد (الدامرجي) هو إصراره على قولها دون ترجمة بل بلغة الأم التركمانية في العراق وهذا بحد ذاته فعل مقاومة وكأنَّ القصيدة تحاول أن تقول إنَّ لغتي موجوعة لكن رغم هذا الوجع والألم ما زالت تنطق وهذا يتفق تماما مع رؤية الناقد (د. سمير خليل) أستاذ النقد الأدبي الحديث والدراسات الثقافية في جامعة المستنصرية، إذ يقول:" إنَّ التمزق في الهوية الوطنية العراقية برر فيما بعد للتمسك المتطرف بالهوية (الكردية والسريانية والتركمانية وقبل ذلك القومية العربية) [4].
كما وتميزت اللهجة التركمانية عند (الدامرجي) بصوتها الريفي الكركوكي أو التلعفري، وهذا بدوره أضفى على المفردة الطابع المأساوي وكأننا نلمح أنيين ينبعث من صدى حروف المفردة، حتى أنَّ القارئ العربي رغم اللامفهومية قد يكون لتلك الكلمات وقعها على مسمعه.
ثانيا: الوجع الداخلي وتشظي الهوية:
يستدعي السماوي مرآته لتكون البوابة التي تنقله إلى ماض يحن إليه وذكريات يحاول استحضارها لكن المرآة تخونه والذاكرة لا تسعفه، فهو يتوسل بالذاكرة لتكون المنقذ له في الغربة، لكنها تفاجئه باستحضار مشاهد تضمر الخيبة والانكسار فلا يتذكر سوى الخسارات لذلك فهو يقول:
أبحث في المرآة عن قميصي القديم
فلا أرى غير الحطام "[5]
فالمرآة تُعيد أنتاج الخسارة، لكنها لا تخمد صراعات الشاعر الداخلية وكأنه يرى من استحضار الماضي وتذكره المنقذ له، لكن هذا المنقذ يتعمد الفرار ليتعرى الفرد أمام ذاته لائما ومعاتبا، فلم تعد الذاكرة تملك القدرة على استحضار صورة الوطن أو صورة الأحبة وهنا يكمن الوجع ويتجدد الألم عند كل لحظة يحاول الشاعر فيها أن يمتلك زمام الأمور لكن يرد خائبا متألما.
وللأنثى كذلك جروح لا تُدمل بل تتسع وتتسع ما بين حين وحين ليتجدد الألم وكأنه يأسف على مغادرة الجسد فالذاكرة هي الحارس الأمين وكيف له أن يفرط به ويسمح له بالخروج، وهنا يكمن الوجع الحقيقي هو أن تخونك ذاتك وترتد عليك تلك القوى من الداخل لتستنزف قواك وتكون يدك هي اليد التي قطعت أنفاسك، فالوجع كصوت أنثوي قد يعلو فجأة كصرخة مكبوتة، وقد يخفت كأنين لا تسمعه إلا تلك الروح الموجوعة فهو يتوارى خلف تفاصيل الحياة، وهذا الأنين لا يعني نهايته بل يتجدد بين الحين والحين، يتمدد داخل الجسد قد يعلو حينا ويخفت كأنين خفي حينا أخرى، هذا الصوت الذي نسمعه من صدى تلك الحروف التي سطرتها الشاعرة (آمنة محمود) ، تلك الشاعرة التي لطالما مزجت بين وجع انثوي وانتماء المتعدد فوصفتها بعض القراءات بالفراشة الملونة وأنا أراها صفصافة دجلة، إذ تجذر صوتها بين ضفتي الحياة والموت معا، صفصافة انحنت على نهر دجلة دون أن تنكسر وذلك ما توحي به قصائد الصفصافة، ووفقا لذلك تقول ما نصه:
استنطق ذاكرة المرايا فأراها
(أنثى من ورق
أثاثها الكلمات
ودمعها الأحبار)
أتشرنق حولي
تتكدَّس شظاياي فوق شظاياها
وحين نصير كتابا لا نعود.[6]
يبدو أن الذاكرة تقود الشاعرة إلى ذكريات محملة بالألم والوجع تلك الذكريات ولشدة وجعها ووقعها جعلت منها مجرد أنثى ورقية من الممكن أن تتمزق في أي لحظة أو تحترق فصورتها التي تنعكس على المرايا كانت اللحظة المسؤولة عن ولادة الوجع، ومحاولة فرض سلطته على الشاعرة لكنها تنتفض لتطرد الوجع خارج مملكتها وتتمرد، رغم أنَّ محاولاتها الدفاعية كانت تتسم بالرقة والأنوثة، إذ نراها تتشرنق حول ذاتها كوسيلة دفاع ومع أنَّها وسيلة دفاع هشة لكن ما يُحسب لها هو تلك الأنوثة التي تتجلى بها وهي تقاوم هذا الوجع فقولها (أنثى من ورق) قد يوحي بالجمال والرقة تارة والضعف والانكسار تارة أخرى وللفظة (التشرنق) هشاشة وانطواء حول الذات وشعور داخلي بالضعف والخوف والقلق مما هو آتا، لكن هي صورة لولادة جديدة، فضلا عن ذلك فقد كانت المفردات التي شكلت الصور المجازية تحمل بصمة أنثوية واضحة، فهي تستحضر مفردات تنحدر من حيزها الأنثوي والرمزي للمرأة وهذا ما تجلى لنا من خلال (اتشرنق، امرأة من ورق) ، فتعبر من خلالها عن موقع المقاومة من الداخل لا من موقع الصدام، بعبارة أخرى من موقع تكوينها الداخلي، فهذا التحول الذي يُسببه التراكم وتكدس الألم والانكسارات إنما كان سببا في قوة الشاعرة فمن هشاشة إلى ورقة ومن ثمة إلى كتاب فأي تحول هذا تتسلح به تلك الذات الأنثوية لتؤكد تجاوزها الألم وتحقق انتصارها وتحوله إلى قوة هادئة، تستمد رقتها من جوهرها لا من ضعفها وانكسارها، ومؤكد أنَّ هذا الكتاب الذي تشكل من ألمها لا يمكن أن يوارى بل سيضل رمزا لخلودها رغم أنه نُسج من جراح هذا الجسد، والاهم من ذلك أن الصفصافة آمنة محمود بعد أن تناست هذا الوجع اختارت أن لا تعود قد يكون للماضي أو لتلك المرأة الورقية، أو إلى تذكر تلك الجراح وفي كل الأحوال كان الرحيل دون عودة المنطقة التي يتألف شعورها الداخلي مع الألم ويعتاد عليه.
وتأسيسا لذلك لنا أن نقول أنَّ كوامن الذات الداخلية للشاعرة كان مصدر للألم والوجع، فلولا الذاكرة لما تمثلت لها صورة المرأة الورقية على المرايا فأوقدت تلك الجراح التي تتوارى في كوامنها الداخلية لتتشظى منقسمة على ذاتها ما بين السقوط تارة واستجماع القوى وتجاوز تلك الجراح المتراكمة للنهوض من جديد تارة أخرى.
وللألم وقعه على روح السماوي فيقول ضمن مقطع تتجلى من خلاله فوضى الانتماء والهوية المشتتة:
وأملك من الوطن
بعض ترابه العالق بحذائي
حين عبرتُ حدوده
بجواز سفر مزُوَّر..[7]
يضمرُ نص السماوي معاناة التمزق النفسي والاغتراب وفقدان الهوية والانتماء، فأثار التراب العالقة بحذائه تعكس هذا التمزق النفسي الذي يعيشه الشاعر معلنا مرارة الفقد الكامل، فالتراب كان اثر عابر والجواز المزور كان رمز الانكسار، فكيف لأرضه، وطنه التي ينتمي لترابها، أن تكون مجرد أثار تتلاشى مع كل خطوة يخطوها الشاعر، وكيف له أن يعبر حدود وطنه بجواز يصرح بدخوله أو يمنعه من الدخول فما بين الرغبة في الانتماء وواقعه الذي لا يعترف بل وينكر انتمائه يتجلى الوجع الداخلي ليرسم لنا مفارقة تمزج ما بين الحنين والخذلان.
للدامرجي أبيات محمَّلة بالحنين والترابط العميق بين روحه كمواطن تركماني وأرضه التي ينتمي إليها ليُثبت من خلالها وجوده ويؤكد هويته التركمانية، وتبعا لذلك يقول الشاعر ما نصه:
غربته قلبم أغلار
وطنه حسرت قان آغلار [8]
فقد كانت الغربة ومفارقة الشاعر لأرضه، مدينته كركوك، مصدرا لذلك الوجع الذي أبكى قلبه ودمه، فالوجع الذي امسك قلب الشاعر بقبضته هو وجع جماعي لا فردي، مشترك والجامع هو تلك الأرض التي ينتمي إليها الشاعر والتي يبدو أنه فارقها قسرا لذلك فهو يبكي من شدة الألم فالغربة كانت توقِد نار الشوق والحنين إلى أرضه.
***
نسرين إبراهيم الشمري
...................
* ترجمة القصائد من اللغة التركمانية إلى العربية... سندس هادي شكور. (مدرسة مادة اللغة التركمانية ث جلال رضا أفندي)
المصادر
اشكالات النقد الثقافي، عبدالله الغذامي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2023:132
ديوان نقوش على جذع نخلة، يحي السماوي، ديوان العرب، 2006
النقد الثقافي والممارسات الثقافية للخطاب، سميرالخليل، كنوز المعرفة، عمان، 2023:90
جهاد الدامرجي ملك القصيدة الشعبية التركمانية، مجلة صدى التركمان، أيوب بامبوغجي، 2020