دراسات وبحوث

عبد الجبار العبيدي: بين القصد القرآني في النص وأراء الفقهاء. الإنزال والتنزيل مثالاً

عبد الجبار العبيديان تعتيم الفقهاء والمفسرين على القصد القرآني في التفسير الفقهي.. ابعد عنهم الفهم الحقيقي لنظرية المعرفة الاسلامية للنص المقدس.. فبقينا في تيه الزمن الذي انحدر بنا الى قبول تلاعب الفقهاء بالفكر الاسلامي، بما يسمونه بنظرية المذاهب الاسلامية الوهمية التي لا أصل لها في النص.. رغبة في الاختلاف والمنافسة والظهوروالغرور وعنجهيتهم في الاستفراد بعلم النص دون دليل.. لو قرأ الفقهاء والمفسرين النص بعقل وقلب مفتوح وايمانٍ كامل بالدين.. لكان عليهم ان يبنوا، ولا يهدموا، ان يكملوا الرسالة، لا ان ينسفوها.. وغالبية مؤرخينا يقرؤون النص ولا يعرفونه، حين اعتمدوا الحديث المفبرك بدلا من القرآن الكريم.. وهنا تكمن نكبة المسلمين اليوم حين حولوا دين محمد (ص) العظيم الى دينهم الأحادي المفتعل المظلم من أجل من نادوا بسلطة " آلوا الأمر منكم " والقائلين بنظرية " منا أمير ومنكم أمير ".. من الخارجين عن النظرية الاسلامية الحقيقية.. بكل تأكيد.

يعرف التنزيل بأنه عملية نقل موضوعي خارج الوعي الانساني، بينما الأنزال هو عملية نقل للمادة المنقولة خارج الوعي الأنساني، من غير المُدرك الى المُدرك، اي عملية الدخول الى المعرفة الانسانية. وهذا يعني الافصاح عن مصدرها..

هذا التوصيف ينطبق على وجود الانزال والتنزيل لشيىء واحد مثل القرآن (نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا، الانسان 23)، والماء تنزيلاً (وأنزلنا من السماء ماءأً طهورا، الفرقان 48)، والملائكة تنزيلاً (ولو أننا نزلنا أليهم الملائكة وكلمهم الموتى، الانعام 111). أما في حالة وجود أنزال دون تنزيل كما في حالة الحديد (وأنزلنا الحديد، الحديد 25)، وأنزلنا اللباس (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً، الأعراف 26)، وتنزيل المن والسلوى (ونزلنا عليكم المن والسلوى، طه 80)، فان الانزال هنا هو عملية الأدراك أي الوعي الأدراكي فقط (اي للمعرفة لا غير) .. فرق بين الأثنين كبير..

وحتى تكون هناك حالة أنزال منفصلة عن التنزيل في القرآن، يجب ان يكون للقرآن وجود قبل الانزال والتنزيل، ومن هذا يفهم بأن أسباب النزول ليس لها أي معنى في القرآن، لأن تنزيل القرآن على النبي (ص) هو حتمي سئُل عنه أو لم يسئل، لذا فان الله قال عن الاشياء التي تخص مواضيع القرآن مثل الغيبيات (يا أيها الذين أمنوا لا تسئلوا عن أشياءٍ أن تٌبدَ لكم تسوءكم وان تسئلوا عنها حين يُنزل القرآن تُبدَ لكم عفا الله عنها، المائدة101)، ولم يقل أبداًعن الأشياء التي تخص الأحكام أو تفصيل الكتاب لا تسئلوا عنها.. هل فهم الفقهاء هذا االوعي الأداركي في تفاسيرهم القرآنية التي نشروها على المسلمين فشوشتم مفاهيم القرآن.. أبداً.

ويبرر ذلك بالسؤال عن الوجود للقرآن قبل الأنزال والتنزيل، وعن ماهية هذا الوجود، فأن كان كذلك فأن الله بالمقياس اللغوي والمعرفي هو عربي"قرآنا عربياً". وبما ان كلام الله مطلق في فلسفته المعرفية بلا حدود لأنه هوعين الموجودات ونواميسها، لكنه لم يقل سبحانه وتعالى عن نفسه أنه متكلم. فالنواميس التي تحكم الوجود خُزنت في لوح محفوظ وفي كتاب مكنون وضعه في أعلى علوم التجريد، وأعلى هذه العلوم هي الرياضيات لذا قال (وأحصى كل شيء عددا، الجن 28)، فالأحصاء هو التعقل والعدد هو حال الاحصاء، هنا كان القرآن في اللوح المحفوظ صيغة غير مدركة، فحين أنزَله على النبي ليبشر به الناس جرت عليه عملية التغيير في الصيرورة، الزمنية - الصيرورة هي صراع الأضداد وهي القانون الحتمي الذي يحكم الكون والانسان والآله-، اي جعلة مدركاً للنبي حين قال: (أنا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، الزخرف3)، أي كان له وجود مسبق قبل أن يكون عربياً فجعله عربياًعند التنزيل، وهنا جرت عملية التغيير في الصيرورة لينقل الى المدرك. أي كان القرآن قبل الأنزال غير مدرك، فأصبح بعد الانزال مدركاً.

أما نزوله في ليلة القدر، فقد أُنزلَ القرآن جملة واحدة وليس مفرقاً (أنا أنزلناه في ليلة القدر، القدر1) لكن هذا ليس معناه نزول القرآن الى الارض دفعة واحدة، بل نزوله الى السماء الدنيا، وتم اشهاره في ليلة القدر (ليلة القدر خير من ألف شهر، القدر3) فالشهر هنا معناه الاشهار الأعلامي وليس الشهر بمعناه الزمني، لأن القرآن نزل على النبي بواسطة جبريل (ع) خلال ثلاثة وعشرين سنة في مكة والمدينة منطوقا لا مخطوطا، اي غير ملموسٍ كما في قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوهُ بأيديهم لقال الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين (الانعام 7)، لذا قال الكفار لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة فيرد القرآن عليهم بقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، الفرقان 32) اي جاء بصف ٍواحد على نسق معين، لأن الترتيل لا يقصد به التلاوة كما وردت خطئاً عند المفسرين، وأنما يقصد به التنسيق في الآيات القرآنية ليبعدعنها التداخل، ونحن بحاجة الى تنسيقه الآن لنستطيع فك الاشتباك الأدراكي للآية الكريمةالتي يجهلها المفسرون، بينما جاءت الوصايا العشر الى موسى منسوخة على الواح كما في قوله (ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الالواح وفي نسختها هدىً ورحمة للذين هم لربهم يرهبون، الاعراف، 154)، فكلمة الألواح تعني القرطاس الذي نسخت فيه الوصايا العشر..

وهناك جملة امور يجب مراجعتها في الانزال والتنزيل منها:الانزال والتنزيل في أم الكتاب، وهنا لم يخصص سبحانه وتعالى آية خاصة لتنزيل الكتاب، بل قال: (تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم، الزمر1) لأن خصوصية فصل الأنزال عن التنزيل جاءت للقرآن وحده دون بقية مواضيع الكتاب ولذا خصها وذكرها صراحة لأنها من خصوصياته. أما التنزيل للملائكة فيعني نقلة مادية موضوعية خارج الوعي الانساني كنقل الصوت والصورة معاًعن طريق الأمواج التي ترى بالعين وتسمع بالأذن لكنهالا تدخل ضمن المدركات، وهكذا كان تنزيل الملائكة تنزيلاً مادياً ولكن دون ان يراها أحد كقوله تعالى: (تَنَزلُ الملائكةُ والروحُ فيها بأذن ربِهم من كل أمر، القدر4) . وكذلك الانزال والتنزيل في المن والسلوى، فقد حصلت النقلة خارج الوعي الأدراكي.. بأن جاءهم المَن والسلوى دون ان يعلموا ماهي، ولأي سبب نزلت لذا قطع قوله (كُلُوامن طيباتِ ما رزقناكم) ولم يدرك بني اسرائيل هذا الانزال الا بعد أكله. أما الأنزال والتنزيل للماء، فأنه يعطي ظاهرة قابلة للأدراك وهي من المدركات بقوله تعالى: (ألم ترَ ان الله أنزل من السماء ماء فَسَلَكه ينابيع في الارض، الزمر 21)، وهذا يعني ان ظاهرة جريان الماء في الارض هي ظاهرة قابلة للادراك الانساني فعليك دراستها للاستفادة الحياتية منها، وهذا ما يسمى اليوم بالهيدرولوجيا.

أما الظواهر التي حصل فيها الانزال دون التنزيل كما في قوله تعالى (وأنزلنا الحديد)، وفي قوله يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً)، فالانزال هنا مرتبط بالوعي الانساني، فاذا كانت هناك ظاهرة في الطبيعة موجودة موضوعياً ولكن لا يدركها الانسان وحصل أنزال لها، فهذا يعني أنها أصبحت من المدركات. وهنا يكمن التعريف الأساسي لنظرية المعرفة الأنسانية في القرآن حيث أنها تتلخص في الأنزال، أي أنه بالنسبة للأنسان الوجود يسبق الادراكَ، والأنزال كما نعلم هو عملية ادراك الموجودات.

ونظرية المعرفة الاسلامية هي منهج التفكير العلمي في القرآن لمنح النفس الانسانية جرأة التعامل والتفاعل مع اي انتاج علمي وفكري انتجه العقل الانساني قبل وبعد مجيء الاسلام بغض النظر عن عقيدته.. لذا فغياب هذه النظرية عن الفقهاء او قل جهلهم بها اوقعنا في التفكك الفكري والتعصب المذهبي واللجوء الى المواقف التراثية التي تقوم على اتهام الاخرين بالهرطقة والزندقة وهدفهم هو ابعاد الفكر المعاصر عن المسلمين، لذا اوقعونا في دائرة العداء للفكر الاخر.. والتعصب للنص المقدس.. بلا دراية.

ان عدم فهم هذه الظواهر الربانية من قبل المفسرين، ترك سوء فهم ٍفي الحدود والتعليمات، فلم يستطيعوا التفريق بين الرسالة والنبوة وبين الكتاب والقرآن، مماجعل الناس محتجزين في أفكارهم، ضيقي الافق، فضاع العقل، وضاع مفهوم القضاء والقدر، والحرية الانسانية، ومفهوم العقاب والثواب والمسئولية، والنفس والروح، لذا جاءت هذه المفاهيم رمادية التفسير في الادبيات الاسلامية ولم تترك اثرا معمقاً في نفوسهم وأفكارهم وتطبيقاتهم العملية الى اليوم، فظلت المجتمعات العربية والاسلامية في سجن حديدي لا تستطيع الفكاك منه مما ولد ويولد لنا كل هذه السلبيات التي لم نستطيع التخلص منها الى اليوم. ولان السلف لم يفهموا الانزال والتنزيل بهذا المعنى العلمي كالاصفهاني والزمخشري، وحتى في لسان العرب لم يُذكر الفرق بين لفظتي أنزلت ونُزلت لذا بقيت الامور عائمة دون تثبيت. نعم القرآن صالح لكل زمان ومكان ويفهم للأرضية المعرفية للقوم الذين يستخدمونه وهذا أقرار منا به، لكننا بقينا نعتقد بأعجازه دون فهمٍَ له مبين..

احترموا الحقيقة يا فقهاء التزييف وحكام الخيانة التابعين للاعداء الاخرين.. ونحن نحترم الحقيقة او بعضها.. فلا يوجد مستحيل لمن يحاول لتخليص الامة من اسلام فقهي مزيف فرضته علينا الحركة الفقهية في التفسير الخطأ للنص القرآني المقدس.. فأدى الى كل هذه الفرقة الدينية المذهبية التي مزقت الامة وأضعفتها حتى السقوط، اسلامنا الحالي الذي جاء من صنع المؤسسات الدينية والفقهاء.. هذا ليس اسلام محمد الأمين (ص)، وأنما اسلام المفرقين فهل ان الله جاء بدينه الاسلامي من اجل السُنة والشيعة ومئات الفرق ليفرق العرب والمسلمين.. أم من اجل التوحيد وهو القائل:"ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون، الأنبياء 93". فلتسقط التسميات الطارئة على الاسلام والمفرقين لهم.. وليتوحد آذان الصلاة.. هذا مكتف وذاك سابلا وكلها من صنع فقهاء الزيف والتهديم.. أصبحنا أمة ضعيفة غير محترمة بين الامم تستجدي الأخرين، ويتحكم بها لصوص الحاقدين.. وسوف لن تَقم لها من قائمة بعد ان تركز الخطأ في الاذهان واصبح من الصعب نزعه بعد ان تحول الى حقيقة عند المسلمين.. الا بالعمل المخلص الجاد من قبل المسئولين.. بعد ان اصبح الحاكم المستغل يتحكم بمصير الشعب المسلم بقوانينه الجائرة دون اخلاق الحاكمين وحقوق المحكومين.. وكل الذي يقولونه اليوم هو.. مجرد وَهَم.. فهل من حاكم مسلم.. واعٍ نصير..

 

د. عبد الجبار العبيدي

 

 

في المثقف اليوم