دراسات وبحوث

منى زيتون: أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ

منى زيتونعند استفتاح الحق تبارك وتعالى الحديث عن قصة خلق الإنسان في سورة البقرة، دار حوار بينه وبين الملائكة، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

وحديث الله تعالى لملائكته في الآية هو إخبار لهم عما قرره عز وجل بشأن خلق أبينا آدم واستخلافه، فمن المعلوم أن آدم عليه السلام هو الخليفة الأول لله في الأرض، وهو الذي كرمه تعالى بأن خلقه خلقًا مباشرًا، وأنه كان نبيًا وحاشاه أن يكون من المفسدين في الأرض، وأن الإفساد الذي علمت الملائكة أنه كائن بعد استخلافه إنما سيأتي من بعض ذريته، وإن كان الخلاف بين مفسرينا في هذه النقطة قد دار حول هل ذريته من غير الصالحين يعتبرون خلفاء أم لا يصح اعتبارهم؟ كما روى مفسرونا روايات كثيرة لتفسير سبب تعجب الملائكة عند إخبارها باستخلاف آدم وذريته، وكيف عرفت الملائكة أن فسادًا وسفكًا للدماء لا بد حادث في الأرض؟ وهل يعني هذا أن الأرض كانت عامرة قبله؟

وبالنسبة للنقطة الأولى نكاد نجد ما يشبه الإجماع بين مفسرينا على أن الصالحين الذين يحكمون بين الناس بالعدل من ذرية آدم عليه السلام وحدهم من يستحقون أن يكونوا خلفاء لله في الأرض بعده، ونفي صفة الخليفة عن الجائرين المفسدين سافكي الدماء! وكأن الحياة لم تُرنا كم بيننا من مفسدين وكم حكم وتحكم حكام الجور في البشر عبر العصور!

وأرى أن هذا التفسير خاطئ لغويًا ولكنه صحيح اصطلاحًا وفق ماحدّه رسول الله لنا؛ فمن حيث اللغة يُقال: خلف فلان فلانًا إذا قام مقامه في الأمر، ولا فرق في هذا بين المصلح والمسيء فرغم أن بلاء كل منهما فيما قام فيه يختلف إلا أن كليهما قد استخلف، وكلنا خلفاء الله في الأرض، وإن كان الأخيار يأملون أن يكون الجميع مصلحين إلا أنه فرق بين ما هو كائن وما كان ينبغي أن يكون! وهؤلاء ممن لم يأخذوا عهد الله واستخلافه لهم بقوة وخلفوه بالسوء من ذرية آدم مثلما نحن من ذريته، والاستخلاف هو اختبار لنا جميعًا، وأستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يُونُسَ: ١٤]، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165]. فعندما تذهب طائفة يقيم الله مكانهم أقوامًا آخرين، والآيتان دالتان على أن الاستخلاف يشمل الجميع، ولكن بلاءنا فيه هو ما يميزنا ويفرقنا فريقين.

ومما رواه أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود؛ قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء –يعني معاوية- ينازع أصحاب محمد في الخلافة؟ قالت: وما يُعجب؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر.

ولكن بالعودة إلى حديث سفينة مولى رسول الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الخلافة ثلاثون سنة وبعدها الملك، فرسول الله قسَّم من سيحكمون المسلمين بعده إلى خلفاء وملوك، وليس إلى خلفاء ‏راشدين وخلفاء،‏ من ثم فمن قام بحق الاستخلاف الذي أراده الله ممن أتاه الله الملك استحق اصطلاحًا أن يُقال خليفة، ومن لم يقم فيه بحقه فالاصطلاح الصحيح الذي ينبغي أن يوصف به أنه ملك، ولكن هذا قد خالف ما جرى لقرون. فإن كان من العامة ومن المفسدين فلا هو ملك ولا هو خليفة لله في أرضه!

وأما بالنسبة لسبب تعجب الملائكة فمما قاله المفسرون أن الأرض كانت عامرة قبل آدم، واختلفوا فيمن عمرها، بين من قال –وهم الأكثرية- إن الجن هم من عمروها قبله، فأفسدوا وسفكوا الدماء، وبين من ظنوا أنه كان هناك خلق آخر قبل آدم، أي بشر قبل البشر، وهذا التفسير روج له من قال بالتطور منذ القدم، ولهذه النظرية ذيول تاريخية قديمة قبل دارون.

وأقول لو كان الجن قادرين على القتل، وأنهم عمروا الأرض قبل الإنس، فأفسدوا وسفكوا الدماء، وخشيت الملائكة أن تُعاد الكرة بخليفة جديد وإن لم يكن من جنسهم، لظهر هذا من سيرة الجن التي حكاها لنا رب العزة جل شأنه قبل خلق آدم أو بعده، ومن ثم فهذا التفسير هو افتراء على الجن، ولا يستقيم؛ لأن سيرة الجن وإبليس منهم لا يُعلم منها ذلك، وأول فصول قصة الخلق تتحدث عن وسوسة إبليس لآدم وزوجه ليغضب الله عليهما مثلما غضب عليه ويخرجهما من الجنة، ولو كان الجن قادرًا على القتل لقتل إبليس آدم، لكن غاية ما قدر عليه أن وسوس له ليقترف المعصية.

فالقتل لم يكن فعل إبليس، بل كان بيد الإنسان الذي غلب عليه الشر. وحين أخبرنا تعالى عن قتل هابيل لأخيه قال: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ [المائدة: 30]، فأبرأ  تعالى إبليس أن يكون قد وسوس لقابيل أن يقتل أخاه، على عكس ما قال المفسرون بأن لإبليس دورًا في الجريمة وهو من علمه القتل، والحقيقة التي يجب أن نقر بها أن إبليس غير قادر على القتل، وأول جريمة قتل وسفك دماء وقعت على الأرض كانت بيد بني آدم وبوسوسة النفس وليس وسوسة إبليس. بل إنني أرى أن الآية هنا أعم من أن تكون في حق قابيل فقط، بل هي تصف كل إنسان عندما يهم بأن يقتل إنسانًا بوسوسة نفسه.

وبمراجعة الآيات التي جاءت فيها كلمة القتل في القرآن الكريم وجدتها جميعها قد خلت من ذكر وجود وسوسة من إبليس للقيام به، ولا فرق بين قتل الأنبياء أو قتل الأبناء! وليس غير الإنسان من يستطيع القيام بهذه الحماقة فيسفك الدماء، ونفسه هي التي تسول له بهذا عندما يقترف هذا الذنب. ووسوسة النفس أقوى من وسوسة إبليس ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16].

وهناك من المفسرين من ظن أن هذا الخليفة آدم يخلف مخلوقًا غيره من جنسه، فكأن آدم وذريته يقومون مقام خلق آخر أشبه بالبشر كانوا مستخلفين قبلهم في الأرض، فيُستخلفون بعدهم، ولكن ما أفهمه من الآية أن الله تعالى أراد آدم خليفة له هو وليس لخلق عمروا الأرض قبله. ولأجل هذا التشريف كان خلقه له بيده ثم أمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، فأبونا آدم اختصه الله تعالى بكونه خليفته، ونحن خلائفه من بعده.

أما عن كيف عرفت الملائكة بالإفساد الذي سيحدث بعد هذا الاستخلاف لو لم تكن الأرض قد عُمرت قبل آدم بمن سفك الدماء، فهي بلاغة القرآن المعهودة بعدم ذكر ما يُفهم من السياق بعده؛ فهو استغناء بذكر ما ذُكر عما تُرك ذكره؛ ففي الكلام حذف لإخبار الله تعالى الملائكة بما سيكون بين بني آدم من صراع أبدي بين الخير والشر، وهو الصراع الذي بدأ من الجيل الأول من بنيه؛ بين هابيل وقابيل، وما سيحدثه من سيغلب عليهم الشر منهم من إفساد وسفك للدماء، ولهذا تعجبوا من استخلاف الله لآدم وذريته من بعده.

ثم إن الأرض لو كانت عامرة قبل آدم، فإن المنطق يقطع بأن تسأل الملائكة عن صفة الخليفة الجديد الذي سيسكنها ليعلموا إن كان مفسدًا كمن سبقه أم أنه مصلح، لا أن يظنوا فيه السوء بمجرد الإخبار عن إرادة الله خلقه، فلا مناص من أنهم سألوا عن صفته وأن الله أخبرهم أنه سيفسد ويسفك الدماء، ومن ثم فتلك الإضافة التفسيرية بأن الجن أو خلق أشبه بالبشر قد عمروا الأرض قبل آدم وقتلوا وأفسدوا إضافة لا قيمة لها ثم أنها لا دليل عليها.

وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: 60]  ينفي أن الله تعالى شاء أن يخلفه خلق آخر في الأرض، على غير جبلة آدم، فالملائكة معصومون ويعبدون الله خير عبادة، والله تعالى خصهم في هذه الآية الأخيرة بنفي أن تكون له مشيئة باستخلاف بشر في الأرض على شاكلتهم، ويُستدل بهذا على أن السبب الرئيسي لاستخلاف آدم وذريته من بعده أنهم غير معصومين، وأنه تعالى يريد استخلاف خلق يعبدونه مع أن باستطاعتهم ألا يفعلوا، ذلك أنه تعالى قد جبلهم على ذلك، لذا فإن الأرض يعمرها الثقلان الإنس والجن ممن لهم القدرة على العصيان.

ومعركة ابن آدم الحقيقية في هذه الحياة هي مع نفسه وليس مع إبليس، ووسوسة إبليس الخارجية يسهل دفعها والتحصن منها، ولكن رغبات النفس التي ينبغي تهذيبها والتغلب عليها هي الأصعب.

ولعل أهم الدروس المستفادة من الفصل الأول في قصة خلق الإنسان أن العلم هو ما ميّز الإنسان عن باقي الخلائق، وأن الكبر هو جذر الشرور، وأن الاعتذار عن الخطأ هو أهم صفات المؤمنين، وأن من لا يعتذر ويتمادى في خطئه لا يستحق العفو.

وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ

طالما تحدثنا عن خلق الإنسان فهناك مسألة تتعلق بها من حكايا الجدود، وأحببت الحديث عنها؛ ذلك أنه بالرغم من أن الحق سبحانه وتعالى لم يخبرنا باسم شجرة الخطيئة التي أكل منها آدم وحواء عليهما السلام إلا أنه مما شاع بين الناس منذ القِدم أنها شجرة التين، ولأن إبليس تخفى في صورة حية ليدخل الجنة أو أدخلته الحية واختبأت خلف الشجرة، فقد اعتقد الناس ولا زالوا يعتقدون أن شجرة التين هي مأوى الحيات وحيثما وُجدت كانت الخيانة، فحرصوا على عدم زراعتها بجانب البيوت، فيزرعونها في الصحاري وأعالي الجبال.

لكن ثمرة التين ثمرة مباركة، وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له طبق من تين فأكل منه، ثم قال لأصحابه: "كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه".

ولأن الله تعالى قال عن آدم وحواء بعد أن أكلا من الشجرة: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ فقد اعتقد القدماء أن آدم عليه السلام لم يصبح قادرًا على التناسل إلا بعدما أكل منها، لذا كان يُقال للعقيم وضعيف النسل من الرجال عليك بالتين.‏ وكانوا يعتقدون أن من أكل منها في المنام رزقه الله ولدًا. ومن ثم يمكن القول إن الأكل من الشجرة كان اختبارًا لآدم وإعدادًا للحياة على الأرض في الآن نفسه.

كما كان يُقال للمرأة التي لديها مشاكل في الإنجاب أن عليها بأن تكثر من أكل الزيتون. والله تعالى يقسم في أول سورة التين فيقول: ﴿وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ﴾ ثم يأتي جواب القسم ‏﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. مع الأخذ في الاعتبار أن الزيتون ثمرته وشجرته مباركة، والناس منذ القدم تحب زراعتها داخل المدن وفي البيوت لأنها شجرة تجلب السلام، وذلك على العكس من شجرة التين.

 

د. منى زيتون

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

  

في المثقف اليوم