دراسات وبحوث

جواد بشارة: لغز الألوهية

جواد بشارةمنذ فجر البشرية وإلى يوم الناس هذا كان الثالوث المحير ــ الله، الدين، العلم ـــ يثير الخوف والخشية، وفيه طرفين يدعيان امتلاك الحقيقة المطلقة بينما يعمل الثالث على اكتشاف الحقيقة النسبية القابلة للتغيير والتطور كلما تقدمت التكنولوجيا والنظريات العلمية التي بحوزته. ولكن هل توجد حقاً " حقيقة مطلقة؟" فالإله يأخذ أشكالاً وتعاريف وماهيات وصفات مختلفة من طرف لآخر، ولا ندري إن كان موجوداً حقاً أم هو مجرد فرضية أو ضرورة سيكولوجية أوجدتها الأديان والمعتقدات البشرية وعزتها لذات متعالية متسامية أسمتها الله، بكل لغات الأرض. أما الدين فقصته أكثر غموضاً وخطورة. فلقد حكم وسير سلوك البشر وما يزال منذ آلاف السنين وأوجد مؤسسات دينية أفرزت كافة أنواع الشرور والعنف والحروب والبطش والقتل الوحشي والتكفير والسيطرة على عقول البشر بإسم الإله أو الرب أو الله، أما الطرف الثالث فهو مايزال يحبو ويجرب، يفشل هنا وينجح هناك، على نحو نسبي ويسعى إلى تحسين الوعي البشري والبحث عن أجوبة للسئلة الكبرى التي تطرحها الإنسانية على نفسها. عن الأصل والمصير، عن المستقبل والمآل الذي ينتظر البشرية ويبقى صعباً على الإدراك والفهم العام عدا نخبة قليلة من العلماء، ويواجه دوماً جملة من التحديات والظواهر التي يعجز عن فهمها وتفسيرها ومنها أصل الحياة وسرها. ما معنى الحياة؟ أو ما معنى وجودنا بشكلٍ عام؟ من الوهلة الأولى يبدو أنه سؤال ينتمي إلى حقل الفلسفة والدين والفكر المجرد، ولا علاقة له بالعلم. لكن الكثير من موضوعات الفلسفة والدين صارت تقع الآن تحت طائلة العلم، وبالأخص علم الفيزياء. وما هذا الكتاب سوى محاولة متواضعة للغوص في هذه الأقانيم المجهولة لإيقاد شمعة في ظلمة الوجود.

تساءل الفيلسوف الإغريقي الملحد أبيقور: إذا كان الله على استعداد لمنع الشر، لكنه غير قادر على ذلك، فهو ليس كلي القدرة. وإذا كان قادرًا ولكن لا يريد، فهو خبيث. وإذا كان قادرًا وذو مشيئة، فمن أين يأتي الشر؟ وإذا كان لا يقدر على أولا يريد درء هذا الشر، فلماذا ندعوه الله؟

"وقصارى القول إن الفلاسفة كلما أرادو إثبات وجود الفكر في ذاته أو وجود العقل الكامل المجرد من جميع النواحي الحسية، أطلقوا على أسمى قمم هذا العقل إسم الإله. ومعنى هذا أنه إذا كان الفكر المتفلسف قد تحول عن الديانات التقليدية فلم يكن ذلك منه إلا لقصد تأسيس نوع من العقيدة الفلسفية لها يقينياتها، وفيها إلهها الذي هو على رأس الطبيعة يدبر كل شيء، وبمرور الزمن لاحظت هذه الفلسفة أن الديانات الشعبية تأمر بالإذعان للقوانين والأمانة للواجب واحترام الموتى، فاعتبرتها معينة للعقل على مهمته فهادنتها وجعلت تنقب في اساطيرها عما عسى أن يكون مختبئاً بين طياتها من آثار عقلية أو عناصر فلسفية. وعندما توثقت عرى هذه الصلات بين الفلسفة والديانات هبت طائفة من مفكري الجهتين وطفقت تعلن في صراحة حق الوجدان الفردي في أن يتصل بالإله اتصالاً مباشراً دون أي تدخل من جانب المجادلات الفلسفية أو الطقوس الدينية، وجعلت تحارب النظر المنطقي بالإيمان والحب، وتعض الطقوس الظاهرية بالتأمل الباطني وهو جوهر التنسك. وبهذا تمت هيكلة الطرق الثلاثة التي تقود نحو الإله، أو المظاهر الثلاثة: الاجتماعي والفلسفي والتنسكي، وهي التي تبدو فيها الألوهية على مسرح الوجود البشري ولاريب أننا – إذ نعرض للألوهية في هذا السفر من خلال هذه المظاهر الثلاثة – سنقتصر على وجهات النظر الاجتماعية والعقلية والروحاني معرضين مؤقتاً عن العقائد التي استقت مبادئها من الوحي، لأننا الآن بصدد منتجات الفكر الإنساني فحسب.

غير أن سمو هذه المعضلة على بقية عناصر ما بعد الطبيعة، ووجودها لدى جميع الشعوب منذ بدء تواريخها لم يحولا بينها وبين أن تكون غاية في التعقيد، وأن تبدو في صور متباينة تسترعي كل واحدة منها انتباه الذهن البشري، ففي عهد اليقظة الأولى للعقل، وعندما وجد الفكر نفسه أمام هذه السؤال وهو من أين أتى العالم؟ ومن أين جاء الإنسان؟ لم تكن الإجابات البدائية التي نعثر عليها متناثرة في تعليلات كهنة الديانات الوثنية، ولم تكن ردود شراح النواميس الكونية الطبيعية، كافية أو قادرة على أن تقدم عن الألوهية فكرة كاملة تمثل الإله كأساس الموجودات وعلة العلل ونهاية النهايات وما إلى ذلك مما تشتمل عليه فكرة الألوهية اليوم من معتقدات، وإنما كانت تصور الإله في صورة تلتئم مع عقليات تلك العصور الضاربة في القدم. ولقد مضى زمن غير قصير قبل أن تتكون عن الألوهية تلك النظريات الفلسفية التي يتطلبها العقل البشري الذي كان – منذ أن تنبه إلى رسالته في الحياة – في نضال دائم ضد تلك القوى التي كانت تبدو كأنها نواميس متباينة تتنازع العالم وهي الضرورة العاتية والمصادفة الهوجاء، والصيرورة الأبدية. ومبدأ هذا السير نحو الهدى، هو أن طلائع الفلاسفة قد اعتدوا بعقولهم إلى حد الافتتان، وأيقنوا أن في مكنتها كشف أسرار الكون واستخلاصها واضحة جلية من وسط هذا الخليط الكثيف الذي يشتملها. وصدوراً عن هذا المبدأ لم يروا في هذه الفوضى التي يموج بها العالم إلا مظهراً خارجياً للكائنات وأعلنوا أن من يعرف كيف يتأمل في هذه الموجودات سيجد العقل والنظام ممثلين فيها بأكمل معانيهما وهكذا اعتصموا برباط متين مؤداه أن يكتشفوا كل قوى ذلك العقل العام الذي استنبط الأولون منهم دوره من أحداث الطبيعة وظواهرها ثم أخذوا يجردونه ويسمون به شيئاً فشيئاً ويلحون على إبراز المفارقات التي تميزه عما عداه حتى جعلوا البون بينه وبين غيره من الكائنات التي لها علائق بالمادة هائلاً، وأبانوا رفعته على آلهة الأساطير والديانات البدائية، وبرهنوا على أنه أجدر منهم بالألوهية وأحق بإحراز أوصاف الكمال. ومصدر سموه على ماعداه هو أنه عقل وأن " الطبيعة – كما يقول أرسطو – متعلقة بالعقل ولكنها عاجزة عن أن تساويه".

الله: بورتريه تجريدية، غائمة ومضببة وغير واضحة المعالم

لقد شوهت عبارة الله أكبر وأصبحت كناية للرعب والجريمة والعنف والإرهاب والوحشية والبطش والقتل بإسم الله الذي أورد في نصوصه المقدسة للأديان التنزيلية السماوية آيات في القتل والتدمير والإبادة والعنف، ولكن هل صحيح أن تلك النصوص تنطق عن الله وهو الذي أرسلها؟ النصوص الدينية تعمل، من حيث وعت أم لم تع ذلك، على تجسيد وشخصنة الله وتشبيهه بالبشر على اعتبار أنه خلقهم على صورته، فهو مثلهم يغار ويفرح ويغضب وينتقم ويعطف ويسامح ويعفو ويكافيء وبيده العقاب والثواب.

فمن هو هذا الله؟ ما هي صفاته؟ ما هي طبيعته؟ ما هي ماهيته؟ ما هو جوهره؟ ما هو دوره؟ هل هو كينونة موجودة في المكان والزمان، أم خارج الزمان والمكان؟ أين يتواجد، وهل هو موجود حقاً؟ متى ظهرت فكرة الإلوهية ولماذا؟ من الذي ابتكر فكرة الإله الواحد، الأعلى المتسامي الخالق الخالد القادر على كل شيء؟ هل هم اليهود؟ هل هو مذكر أم مؤنث؟ هل يعلم كل ما كان ويكون وسيكون؟ أي يحيط بعلمه الماضي مهما قدم، والحاضر والمستقبل مهما بعد؟ هل إله اليهود والمسيحيين والمسلمين هو نفس الإله وإن اختلفت التسمية؟ ما علاقة إله الأديان التوحيدية بمجمع الآلهة القديمة في عصر الحضارات الأولى السومرية والأكدية والآشورية والبابلية، والفرعونية والإغريقية والهندية والصينية والفارسية؟ من كتب الكتب والنصوص المقدسة التي تحدثت عن يهوه والإلوهيم والرب ذو الأقانيم الثلاثة والله الإسلامي؟ ماهي الأوصاف التي أسبغتها الأديان على الله وأسبغتها الفلسفة الربوبية عليه وأخيراً العلم كيف يراه وماهي المقاربة العلمية التي يتعاطى بها العلم مع مفهوم الله؟ الخ... هناك أسئلة لا تنتهي بخصوص الإله ( الله) المطلق الذي أوجد الوجود وعبرت عنه نظرية وحدة الوجود الصوفية. في الحقيقة هناك شبه استحالة للإجابة على أي من هذه الأسئلة على نحو قاطع ومثبت ومبرهن لا يمكن دحضه فــ " الله" لغز غامض حتى لمن يؤمن به، فما بالك بمن ينكر وجوده.

ظهر الإله Dieu متأخراً في تاريخ البشرية. فالإنسان الموجود على الأرض منذ عدة ملايين من السنين لم يكن يمتلك فكرة واضحة ودقيقة عن شيء أو كينونة تدعى " الله أو الرب أو الخالق" ومن الناحية العلمية تشير التنقيبات الأثرية الآركيولوجية أن أول تمثل لفكرة الإلوهية ظهر قبل حوالي عشرة آلاف سنة. كانت هناك ربات أنثوية déesses سبقت ظهور الإله، أو الآلهة. أما الإله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما يقول المسلمون، والذي يعبد في أركان الأرض اليوم، بفضل الأديان التوحيدية الثلاثة الرئيسية، اليهودية والمسيحية والإسلام، فقد ظهر متأخراً. وأول فكرة توحيدية كانت قد تبلورت في زمن الفراعنة في مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تحت حكم الفرعون أمنحوتب الرابع Amenhoteb، الذي غير إسمه إلى " أخناتونAkhénaton " إشارة إلى عبادة إله الشمس " آتون Aton" والذي فرضه الفرعون كإله وحيد لكن عبادة الآلهة المتعددة سرعان ما عادت بعد وفاة الفرعون آخناتون، كما ذكر ذلك سيغموند فرويد في كتابه " موسى والتوحيد" ، واحتاج الأمر انتظار منتصف الألف الأول قبل الميلاد كي تختبر الديانة التوحيدية في إسرائيل من خلال عبادة يهوه Yahvé، وفي بلاد فارس من خلال عبادة آهورا مازدا Ahura Mazda. فالأقوام البدائية في حقبة ماقبل التاريخ لم يعرفوا مفهوم الإله أو الآلهة. فلا توجد آثار آركيولوجية أحفورية أثرية عن الدين الذي يسير حياة البشر آنذاك. وهي الحقبة التي سبقت التحول إلى العصر الحجري الحديث Néolithique قبل حوالي إثني عشر ألف عام عندما بدأ أسلافنا بالتوطين والاستقرار في بقع أرضية وتأسيس تجمعات على هيئة قرى ، تطورت فيما بعد إلى مدن ، ولكن توجد بعض المؤشرات التي تسمح لنا بتصور ما عن وجود معتقدات يمكن أن نسميها " دينية" لدى إنسان ماقبل التاريخ. أهم تلك المؤشرات طقوس الموت. ففي وقت ما بدأ البشر بممارسة طقوس تصاحب الموت الأمر الذي لم يقم به باقي الكائنات الحية، وقد عثر على أقدم قبر في فلسطين يعود تاريخه إلى حوالي المائة ألف عام. الهومو سابين Homo Sapiens الإنسان الحديث المنتصب كان يضع جثث موتاه في وضع الجنين في اللحد وبعناية فائقة ويغطيهم باللون الأحمر قبل دفنهم وبجانبهم بعض الأدوات البدائية التي كانوا يستعملونها في الصيد لأنهم ربما كانوا يعتقدون أن أمواتهم سيعودون للحياة وسيحتاجون لتلك الأدوات، وهو تفكير رمزي كان يميز البشر عن باقي الكائنات الحية. فتلك الألوان وتلك الأدوات والأسلحة البدائية، ما هي إلا رموز لاعتقاد أو معتقد بدائي لدى البشر عما بعد الموت لكننا لا نستطيع إثبات ذلك.

في البدء كانت هناك الآلهة الإنثوية وفي السبعة آلاف سنة قبل الميلاد ظهرت في الأناضول منصات للقرابين ذات طابع ديني تجرى أمامها مراسم وطقوس دينية بدائية وعليها رسومات لربات تلدن ثيران ثم انتشرت في منطقة المتوسط وفي الهند ايضاً حيث سادت عبادة الربة ــ الأم الكبرى culte de la Grande Déesse – Déesse-Mère التي تمنح الحياة ورمز الخصوبة في الطبيعة بجانب الثور رمز الذكورية والملفت للنظر أن الثور كان دائماً خاضعاً ومستسلماً للربة الأم الأنثوية فهو في وضع أدنى ، كما يظهر ذلك بوضوح في الرسومات والتخطيطات التي عثر عليها في التنقيبات الأثرية في منطقة الأناضول وفي بعض مناطق الهند.

لم يكن العبرانيون أول من اختلق فكرة التوحيد كما ورد في كتاب عالم اللغويات والأنثروبولوجيا والمبشر الكاثوليكي فلهيلم شميدت Wilhelm Schmidt في كتابه " أصل فكرة الإله L’Origine de l’idée de Dieu" الصادر سنة 1912 فإنسان ما قبل التاريخ عبد إلهاً واحداً قريب منه داخل الطبيعة وأتخذ أشكال وهيئات مختلفة، قبل أن يبتعد عنه ويغدو مفهوماً تجريدياً ليترك مكانه لآلهة وآلهات متعددة مذكرة ومؤنثة، ومن ثم عاد من جديد في النصوص العبرية أو اليهودية القديمة. ولقد سبق أن طرحت هذه الفكرة، فكرة الانعزال والابتعاد عند إله وادي الرافدين ـــ ميزوبوتاميا ، وهو الإله " آنو Anu وبسبب إحاطته بعدد كبير من الآلهة الثانوية المذكرة والمؤنثة حيث نساه البشر وبعد ذلك جاءت تجربة التوحيد اليتيمة الوحيدة في عهد الفرعون توت عنخ امون ولكن بعد موته عاد الناس للتعدد الإلهي بضغط من رهبان الإله آمون Amon ويعتقد أن هذه التجربة أثرت في " موسى" حيث لجأ هو الآخر إلى الإله الواحد المتعالي الذي عبده أجداده من آدم ونوح مروراً بإبراهيم وإسحق الذي أصبح اسمه إسرائيل وإسماعيل ويعقوب والأسباط الإثني عشر الذين أوجدوا القبائل الإثني عشر اليهودية أو العبرية وكان كتاب التوراة اليهودي هو أول من تحدث بالنص عن الإله الواحد ، وهو كتاب تم بتجميع خليط من الأساطير والخرافات والسرديات التاريخية لأحداث متخيلة أو مستوحاة من أساطير وخرافات لحضارات قديمة ونصوص وحكم وتنبؤات وقصائد وأدعية وصلوات وترانيم ، وتخبرنا الأبحاث التاريخية المعاصرة أن العهد القديم أو التوراة La Bible دون في القرن السابع قبل الميلاد اعتماداً على تراث شفهي ما يجعل حقيقة أبطاله وشخصياته تاريخياً مشكوك فيها وهذا ينطبق على نوح و إبراهيم ــ آبراهام ، وموسى نفسه . هناك إشارة تاريخية لمملكة إسرائيل في عهد الفرعون مينبتاح Méneptah حوالي 1200 قبل الميلاد ورد فيها " أن إسرائيل محيت ودمرت ولم يعد فيها بذرة semence. وهناك نص آرامي في القرن التاسع قبل الميلاد ورد فيه ذكر لــ " بيت داود يشهد بوجود مملكة داود حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. وهي ليس مملكة بالمعنى الحقيقي وإنما شبه مدينة أقرب للقرية منها لحاضرة متطورة و لا يوجد آثر للمعبد الكبير الذي شيده الملك سليمان Salamon إبن دافيد David ــ داود . أشاع اليهود أن التوراة هو كلام الله لكن المنتقدين والمعارضين لهذا الطرح رغم إيمانهم وتدينهم يقولون أن الله لم يكتبه أو يمليه وإنما هو نتيجة إيحاء أو استلهام رباني جاء لأذهان الأنبياء القدماء وبالتالي يجب تفسيره وتأويله لأنه ليس نصاً منزلاً ومقدساً لأنه ورد في الكثير من النصوص الموضوعة والمؤلفة من قبل البشر وهناك الكثير من التزوير والإضافات فيه. ثم جاء يسوع المسيح ــ عيسى بن مريم ــ كما يسميه المسلمون وكان يهودياً متديناً في صباه وشبابه ومتمسك بالتوراة قبل أن يجهر بنبوته ورسالته المصححة والمكملة للديانة اليهودية. ولقد جمعت آثاره وأقواله وقصته ومقتله في مجموع نصوص سميت بالأناجيل ــ الإنجيل يعني البشارة ــ وهي كثيرة لم تحتفظ المؤسسة الدينية الكنسية منها سوى بأربعة هي إنجيل مرقص Marc ومتى Mathieu ولوقا Luc ويوحنا Jean المكونة لما يعرف بالعهد الجديد المكمل للعهد القديم . ولقد اعتبر عدد كبير من المسيحيين أن يسوع المسيح إله وهو إبن الرب الخالق وقالوا بالأقانيم الثلاثة « الأب و الإبن و روح القدس " وأن للمسيح طبيعتان ناسوتية ولاهوتية الأولى بشرية والثانية ربانية ،,الصقوا به الكثير من المعجزات وأضفوا عليه الكثير من المزايا الفريدة وعزوا إليه الكثير من الأعمال الخارقة للطبيعة كإحياء الموتى والسير على الماء وشفاء المرضى ووصفوه برب المحبة والصفح والتسامح الخ .. .

غالباً ما يقدم إله التوارة على أنه كلي القدرة وحاضر أو متواجد دوماً في كل مكان وزمان ويتدخل على نحو مباشر في شؤون البشر. وتفسر آيات التوراة ما يتعرض له اليهود من مصائب وكوارث بأنه عقاب أرسله الله لهم أو سمح بحدوثه بسبب خطاياهم التي ارتكبوها بحقه ، فردياً وجماعياً ، مايعني أن هناك تفسير ثيولوجي للشر ومصدره هو الله الخالق للخير والشر معاً والمسيح المنتظر هو المحرر الذي يمتلك قدرات إلهيه ينتظره الشعب اليهودي لكي يحرره من الاحتلالات الأجنبية المتعاقبة عليه .

الإيمان بوجود إله خالق متعالي، يتخذ أشكالاً متنوعة، من الإيمان الفطري أو الاعتقاد الديني، مروراً بالطرح الفلسفي والمنطقي، وانتهاءاً بالفرضيات العلمية. والسؤال الأهم المطروح هو: هل بالإمكان التوصل إلى وجود الله بالعقل وحده؟ شغل هذا السؤال تاريخ الفلسفة برمته لغاية القرن التاسع عشر. منذ العصر الإغريقي الذي يؤشر لبداية التفكير الفلسفي الغربي. كان المفكرون والفلاسفة الإغريق في غالبيتهم يعيشون في عالم متدين تحف به الخرافات والأساطير والمعتقدات المشركة وكانت جهود الفلاسفة التنويريين تصب في محاولات تجاوز تلك المعتقدات الخرافية والتمعن بالمسألة من الناحية العقلية الصرفة.. كان العديد من الفلاسفة القدماء يحترمون الآلهة ولكن ما هو مفهمهم وفهمهم لمفهوم الإله؟ أول نقطة مشتركة بينهم هي دحض الصفة الأنثروبومورفية anthropomorphique التجسيمية واللاأخلاقية لآلهة الأولمبياد les Dieux de l’Olympe، لأن هذا التصور يجعل الآلهة يشبهون كثيراً البشر مما يفقدهم بعض المصداقية خاصة وإنهم يتصفون بالكثير من صفات وردود أفعال وسلوكيات البشر كالفسوق والعجرفة والتكبر وروحية الانتقام والخداع والمكر والتقلب والخداع ونقض العهود الخ... أي على النقيض من الكمال، فهناك فلاسفة رفضوا هذا النموذج التشبيهي والتجسيمي للإلهة الإغريقية مثل أبيقور Epicure، وآخرون لا يعتقدون حتى بوجود الآلهة مهما كان كمالها ، لكن ذلك لم يمنعهم بالاعتقاد بوجود حكمة متعالية شمولية إلهية تحكم العالم ومتجلية من خلال سلوك بعض البشر المتميزين المصطفين. فهناك تيار فكري وفلسفي إغريقي ــ روماني ولد في القرن الرابع قبل الميلاد يعرف أتباعه بالمتحملون stoïciens يعتقدون بوجود كينونة ما بين العالم الدنيوي والعقل الإلهي وهي عقيدة الوجوديين الذين يعتقدون بوحدة الوجود panthéistes ومن أشهر من يتبنون ذلك فيلسوف النهضة باروخ سبينوزا Baruch Spinoza. وقبلهم كان الفلاسفة المشهورين مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو قد أدلوا بدلوهم في مسألة الإلوهية. وكذلك فلاسفة الأفلاطونية الجديدة néoplatoniciens، وعلى رأسهم أفلوطين plotin الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد وهذا الأخير أكد وجود ثلاث مباديء عليا، والتي ينحدر منها العالم الحسي وهي: الواحد l’Un الذكاء le Noos والروح أو النفس l’Ame . والواحد هو المبدأ العلي الأعلى وهو متسامي وغير قابل للتعريف والتحديد وثابت لايتغير، لا يشيخ و لا يموت ، خالد وخير إلى حد الكمال، ومكتفي بذاته. والذكاء أو العقل الأول، ينبثق من الواحد المتسامي حيث تتجلى الحقيقة. والنفس أو الروح تنبثق من الوعي أو العقل الأول ككينونة أو مبدأ للوحدة التي تحرك العالم المحسوس. فهناك " روح العالم الجمعية، وهناك روح جزئية لكل كائن حي، وهذا الطرح يتميز ويختلف عن الطرح التوحيدي الذي جاءت به الأديان التوحيدية الكلاسيكية الثلاثة. وهناك في ذلك الوقت فلاسفة ملحدين لايعتقدون بوجود مبدأ أو كينونة خالقة ربانية أو إلهية عليا athéistes أو لا أدريون agnostiques ويوجد فرق كبير بين إله الفلاسفة الإغريق وإله الأديان التوحيدية لأن هذا الأخير فيه الكثير من الصفات والمزايا البشرية كما نصت على ذلك النصوص المقدسة المنزلة. أما مسألة إثبات وجود الله فهناك عدة حجج وحالات أحدها يسمى بالدليل الأنطولوجي حيث يكون التفكير بالله باعتباره الكائن الأكثر كمالاً من أي كائن آخر في الوجود وبما أنه من الكمال بمكان فهو إذن يوجد أكثر مما كونه لا يوجد فسيترتب على ذلك بالضرورة أنه موجود عقلاً إلا أن هذه الحجة لا تنطلي على المفكرين والمثقفين، ما عدا ديكارت، ولاتقنع أحد سوى المؤمنين الذي لايحتاجون لحجة لإقناع أنفسهم. ولقد حاول عدد من الفلاسفة، وبأسلوب المنطق إثبات وجود الله ومن بينهم لايبنز الذي سعى لتقديم ما يسمى بالبرهان الكوسمولوجي والسبب الكافي الذي يقول لا يوجد شيء بدون سبب ولا علة بدون معلول. من هنا لابد من وجود كائن يسمى الله لضرورة وجوده. وهناك حجة ثالثة قدمها الميتافيزيقيون وتسمى البرهان الفيزيقي الثيولوجي physicothéologique وينطلق من مراقبة ومشاهدة النظام المعقد والذي يقود حتماً إلى ضرورة وجود عقل ذكي خالق ومنظم إذ لا يمكن لهذا النظام أن يكون ثمرة الصدفة. لذلك لا بد من وجود عقل علوي ذكي يكون هو الأصل الموجد للكون. ولقد علق الفيلسوف الفرنسي فولتير قائلاً " الكون يحيرني ولايمكنني أن أقبل بأن هذه الساعة الكونية موجودة بدون ساعاتي صانع لها".

وبعد ظهور نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ المبنية على نظرية النسبية العامة لآينشتين انبرى عدد من المثقفين المتشبثين بالإيمان بوجود الله تحت يافطة " التصميم الذكي dessin intelligent" ليجيروا مقولة التنظيم الدقيق للكون وللقوانين الفيزيائية التي تنظمه وتسيره ، إلى جانب ظهور الحياة الذكية العاقلة ونشوء جنس البشر وتطوره لا سيما العضو الأكثر تعقيداً فيه ألا وهو الدماغ، وقالوا بأن ذلك يشهد على وجود تصميم ذكي ومصمم خارق لهذا الكون ، دون أن يغرقوا في وصفه على غرار الأديان السماوية التي قللت من قيمته دون أن تعي أو تقصد ذلك. وحاول هذا التيار الثقافي والفكري أن يمحو مسلمة الصراع بين الدين والعلم بخصوص مسألة الإله الخالق للكون. ولكن لايوجد في الكون المرئي الجمال والهارمونية والتنظيم الدقيق فقط، بل تزخر الطبيعة بالفوضى والكوارث الطبيعية والمذابح وهيمنة الشر الذي لا يعرف أحد مصدره سوى أنه خالق الكون نفسه إذا آمنا بأن للكون المرئي خالق ، أي أن الله هو مصدر الشر وبهذا الصدد علق الفيلسوف لايبنز في كتابه " دراسات وأبحاث في الثيولوجيا الربانية Essais de théodicée وطرح تساؤله على نحو مباشر وصريح قائلاً :" كيف نفهم، في حالة وجود الله، وإنه إله طيب وخير، وجود هذا الكم الهائل من الشر والسوء والفظاعة والبؤس في الأرض؟ فيما يسخر فولتير من هذا الإله في رائعته كانديدCandide 1759 من خلال شخصية البروفيسور بانغلوس وهو يردد وسط الكوارث والمساويء والشرور أن كل شيء نحو الأحسن في أفضل العوالم الممكنة .وفي التصوف العبري الكابالا هناك أطروحة تقول أن الله بعد أن انتهى من خلق الكون تجرد من إلوهيته وانسحب من العالم لكي يتيح المجال لشيء آخر أن يحدث أو يوجد. فبعملية الخلق وافق الله ألا يكون هو كل شيء واختزل كينونته حتى يتيح للعالم أن يفرض نفسه ويمكن لشيء آخر أن يتواجد غيره وبالتالي يوجد الشر بالضرورة في هذا العالم الذي يفتقد للكمال .

أما أبيقور فلقد طرح المشكلة بسخرية قائلاً : إما أن الله أراد استئصال الشر لكنه لم يتمكن لذا فهو عاجز وليس كلي القدرة، وإما هو قادر على استئصال الشر لكنه لا يريد ذلك لذا فهو شرير ، أو هو غير قادر على استئصال الشر وغير راغب بذلك ، فهو إذن عاجز وشرير وغير كامل ، ولو أراد ذلك وكان قادراً عليه، فمن أين إذن أتى الشر ولماذا لم ينهه ويستأصله الله؟ .

فلاسفة عصر الأنوار انتقدوا الأديان بشدة لكن جزءاً كبيراً منهم لم يكن ملحداً ولديه مفهومه الخاص عن الله، فأغلب الربوبيون déistes، على غرار الفلاسفة في العصور القديمة، يؤمنون بوجود " مبدأ علي" خارق وخالق ينظم الكون وليس إلهاً شخصياً يهتم بشعب معين على حساب شعوب أخرى ويظهر نفسه لهم من خلال أنبياء ونصوص مقدسة يؤمنون بالإلوهية théismes. وهكذا تستمر دائرة الصراع بين العلم والدين حول موضوع إثبات وجود أو عدم وجود الله ولقد عبر غاليلو غاليله ، ضحية الكنيسة الكاثوليكية بسبب أفكاره وآرائه، عن ذلك ، قائلاً :" إن العلم والدين يجيبان على سؤالين مطروحين في سياق مختلف ولا يفترض أن يدخلا في معركة أو صراع بينهما فالدين يخبرنا كيف يمكننا أن نذهب إلى السماء في حين أن العلم يخبرنا ما هي أحوال السماء . أما في وسط الإلحاد والملحدين athéisme فكان أول ملحد علني هو الراهب جون ميسليه Jean Meslier وكان فولتير قد نشر وصيته في سنة وفاته 1729 وهو نص معادي للدين بقوة واحتدام تحت عنوان مذكرات وأفكار ومشاعر جون ميسليه وهو عبارة عن دراسة فكرية مطعمة بالبراهين والحجج المنطقية والعقلية التي تنفي وجود إله وإلوهية تتحكم بالعالم والواقع الوحيد الموجود هو الواقع المادي ، فمسيليه كان ملحد ومادي في نفس الوقت بعد أن كان رجل دين متعمق بدينه.

حصيلة ذلك أننا مازلنا وسنظل نجهل حقيقة هذا اللغز وهذه الفرضية المسماة " الله" وهل هي ضرورية لوجودنا أم لا لأن الله رغم جهوده في الاتصال بنا عبر أنبيائه ورسله ونصوصه ، لم يكشف لنا عن حقيقته وطبيعته وماهيته وصفاته وقدراته إلا من خلال نصوص لا يمكن الجزم أنها صادرة عنه بل ربما وضعها مؤلفون بشر باسمه .

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم