دراسات وبحوث

منى زيتون: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ

منى زيتونيقول تعالى في سورة الفلق: ‏﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)‏﴾‏.

والسورة كما نعلم هي إحدى المعوذتين، ونحن كمسلمين نقرأها لنعيذ أنفسنا من شر خلقه، وشر ما يفعلون ليؤذونا به من السحر والحسد، بينما نقرأ سورة الناس للاستعاذة من وسوسة شياطين الإنس والجن.

 ورغم أن هناك أمر واضح في آية أخرى أن نستعيذ باسم الله وليس بغيره ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، فالأمر بالاستعاذة في هذين السورتين جاء بلفظ ‏ ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ‏﴾‏ و  ‏﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ لتناسب صيغة التعوذ ما يُراد التعوذ منه. فما هو المقصود تحديدًا بالفلق؟

لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، والله تعالى يقول في آية أخرى: ‏﴿‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏﴾‏ [الأنعام: 96]، فالمقصود ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ‏﴾‏ في السورة أنه تعالى شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده عند إضاءة الفجر، فالفلق هو فلق الصبح وقت الفجر، والاستعاذة ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ‏﴾‏ القادر على كشف الظلام عن الأرض بأن يكشف عنا ما ابتلينا به من شرور خلقه.

ولأن خلق الله كثير ومنهم ما لا نعلمه، كما أننا لا نعلم يقينًا أين يكون الشر بين من نعلمه من خلقه، وقد يكون بينهم من يضمر لنا الشر ونحن ساهين عنه، جاء الأمر بالاستعاذة عامة ‏﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾.

والغسق هو أول ظلمة الليل بعد الغروب ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ووقب بمعنى دخل. فمن ذا الغاسق الذي يدخل بعد الغروب مباشرة، وأمرنا الله تعالى بالاستعاذة منه؟

القمر هو ما يدخل مع الليل، وفلكيًا فإن القمر حين يكتمل بدرًا يكون قد أتم نصف دورته حول الأرض، ويكون مواجهًا تمامًا للشمس؛ ما يجعله يشرق في لحظة غروبها، فيضيء وينتشر نوره من أول الغسق وطوال الليل حتى الفجر، وبعده تشرق الشمس ويغرب القمر البدر المواجه لها تمامًا، فلا يجتمعان في السماء أبدًا.

ولا يكون هذا حال القمر في أي طور من أطواره سوى البدر بسبب التقابل التام بينه وبين الشمس، وكل ما ظهر من أول الغروب وانتشر نوره فقد غسق، ولكنها تُقال خاصة للقمر البدر. وتقول العرب حين يتم القمر بدرًا: بَلَغَ الغَاسِقُ تَمَامَهُ.

وحتى إن كان القمر في أي طور آخر ويكون في نصف دائرة الأفق المرئية في وقت ما من النهار فلن يظهر لأن نور الشمس سيخفيه. وهذا قد يكون معنى آخر لوقوب الغاسق عندما يدخل في نور الشمس، ولكن التفسير بالبدر أدق.

أما عن سبب الاستعاذة من اكتمال القمر بدرًا ودخوله وانتشار نوره من أول الليل فيظهر في الآيتين بعدها‏﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)‏﴾‏؛ فالسحرة الفجرة يجددون أسحارهم في الليالي البيض، فينفثون ويعقدون، ويُقال إنهم ينتظرون ليلة الخامس عشر من الشهر العربي لتجديد أسحارهم لأن القمر يكون غاسقًا أغلب الليل، وقد بلغ تمامه واكتمل ثم بدأ في التناقص، وهو ما يتفق واعتقادات القدماء من أن القمر ينتحس بالتناقص.

وسبق أن ذكرت في عدة مقالات عن العناصر والطباع الأربعة أن عنصر الماء فينا يمثل الانفعالات، ولأجل ذلك فإن طاقة القمر المائية -والتي نرى بأعيننا كيف تجذب مياه البحار- قادرة على تحريك الجزء المائي في الإنسان فتقل قدرته على ضبط انفعالاته، ويزيد التحاسد والغيرة، ومن أجل ذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيام الأيام البيض، لأن الصيام يقلل محتوى الجسم من الماء، وهي نصيحة عامة تُقال لكل البشر، وتُقال خاصة لمن تغلبهم انفعالاتهم –أيًا كان نوعها- ولا يقدرون على ضبطها، فالإكثار من الصيام هو أفضل حل لهم.

وفي تفسير الطبري، عن أم المؤمنين عائشة قالت: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم قال: "يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ". وأرى في تنكير كلمة ‏﴿غَاسِقٍ﴾ في سورة الفلق وكذا في ألفاظ هذا الحديث دلالة على أن ليس في كل غاسق شرًا، فليس دخول القمر ليلًا شرًا في كل وقت، ووفقًا لعلم الفلك فإن طاقة القمر تزيد عند اكتماله، كما تتأثر بطاقة المجموعة النجمية التي يقترن بها، فتزيد طاقته المائية وتتضاعف عند اقترانه بنجوم البروج المائية.

 

د. منى زيتون

الأحد 2 يناير 2022

منشور ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم