دراسات وبحوث

منى زيتون: وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ

منى زيتونلما رأى رب العزة حرص رسوله الكريم على هداية من يدعوهم من المشركين خاطبه في غير موضع من كتابه العزيز فقال:

﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ﴾ [الشورى: 48].

﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 23].

﴿إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21-22].

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272].

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56].

﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8].

﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3].

وعلى الرغم من حرصه عليه الصلاة والسلاه على هداهم فقد آذوه بالقول، فمنذ بدأت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار مكة لا يفتأون يسخرون ويستهزؤون ويسبون، ويتهموه تارة بأنه شاعر وأخرى أنه مجنون. وكان أمر الله لنبيه في التعامل مع المشركين في بداية الدعوة ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10].

ولكنهم لم يكفهم إلحاق الأذى بالقول حتى زادوا إلى الأذى باليد للنبي وصحبه، وكان الضعفاء والعبيد أكثر من تضرروا منهم في المرحلة المكية، فكان الأمر بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ومع أنهم تركوا لهم البلاد والدور لم تكف قريش عن ملاحقتهم فبعثوا عمرو بن العاص إلى النجاشي طالبًا أن يعيد المهاجرين لديه إلى مكة! واحتالوا حتى أعادوا بعض من فر منهم إلى المدينة في القيد!

حروب الرسول

كعادة أهل الشر فهم لا يرعوون إلا عندما يظهر لهم الوجه الخشن، وبعد صبر سنين على أذاهم كان الإذن من الله بحربهم وقتالهم ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]. والعلة واضحة ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 40].

وكعادة مفسرينا فهم يرون في نزول آية في باب بعد آية سبقتها في الباب نفسه نسخًا من الثانية للأولى بإبطال حكمها، بينما مراجعة كتاب الله تفهمنا أن الأحكام لا تُنسخ غالبًا بمعنى أنها تبطل تمامًا، وإنما يتدرج التشريع من العام إلى الخاص أو العكس، فقد يتغير بأن تقل رتبة الحكم الأول أو يُلغى تعميمه وتورد حالة أخرى وفق ما جاء في الآيات الجديدة، ومن ذلك فإن آية الوصية لم تُبطل بآيات المواريث، وإنما أصبح حكم الوصية تخصيصًا لغير الوارثين، والأمر نفسه أراه فيما يخص التعامل مع المعاندين فالصبر الجميل لم يُبطل تمامًا وإنما بقي حكمًا خاصًا لمن تأتي منه إساءة بسيطة، أما من عداه فالحكم فيه هو القتال.

وقد يكون النسخ بتدرج التشريع من الخاص إلى العام، ورأينا هذا في الآيات التي أمر الله فيها النبي بالدعوة، والتي بدأت بالأمر بإنذار العشيرة الأقربين، وانتهت بأن ينشر رسالته في العالمين.

ولأن الحق بحاجة إلى قوة تدعمه وينتصر بها كان لا بد من قتالهم. والحرب قد تكون دفاعًا وقد تكون هجومًا، وجميع حروب الرسول والخلفاء الراشدين كانت دفاعية ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]. والخلاف إنما يكون على توصيف ما تلاها من حروب في عهد الدول الملكية التي سمت نفسها زورًا خلافات.

كانت حروب الرسول ضد قريش التي فعلت الأفاعيل في المسلمين، ولم يتركوهم وحالهم حتى بعد أن اضطروهم إلى الهجرة، كما بدأ التحام المسلمين بالروم منذ عهد الرسول بمعركتي مؤتة وتبوك، ومن يقرأ السيرة النبوية يعلم أن الروم وأتباعهم الغساسنة كانوا يحشدون للمسلمين، وإنما خرج الرسول لملاقاتهم قبل أن يدهموا المدينة، وبقي العداء إلى عهد الخلافة الراشدة، فقاتلت غسَّان مع الروم ضد المسلمين في حروب الشام.

وهناك المرتدون الذين حاصروا المدينة بعد وفاة الرسول، وحركة التنبؤ التي نبغت في العرب الذين كانوا على صلة بفارس، وما بدا أنه تأليب باطني لهم من الفرس الذين تمزق ملكهم سريعًا بعد تمزيق كسرى الثاني (كسرى أبرويز) كتاب الرسول، فوجبت الحروب ضد الفرس أيضًا، وعلى ذلك فلم يخض المسلمون حروبهم الأولى حبًا في الحرب ولا رغبة في سفك الدم وإنما كانت حروبَ بقاء.

محمد وقتل المدنيين!

من أشهر اتهامات المتهوكين في حق رسول الله أنه كان يقتل الأبرياء من غير المحاربين، ويسوقون قصصًا –على قلتها- عمن أباح النبي دمهم يوم فتح مكة أو من أمر بقتلهم أو قُتلوا ولم يقتص لهم من أولئك الذين كانوا يسيئون إليه أو للمسلمين أو يطعنون في الإسلام أو القرآن ويشككون الناس في دينهم؛ باعتبار أن أمثال هؤلاء مدنيين أبرياء!

ومن يطلقون هذه الاتهامات يغفلون عن أن المحارب ليس فقط من يحمل السيف بل إن من يطلق لسانه أيضًا يكون محاربًا. وسواء دخل هؤلاء ممن قُتلوا في الإسلام وارتدوا أو كانوا مشركين أو يهودًا أساءوا إلى الإسلام ورسوله فالحكم واحد وحدهم حد الحرابة، خاصة إن تكررت فعالهم، وإطلاق اللسان بالسب الفاحش والانتقاص وإلقاء الاتهامات الباطلة والتغني بأشعار القدح والذم والتشبيب بالمسلمات ومحاولة التشكيك في أساس العقيدة سواء كان الموحى به –القرآن- أو الموحى إليه –الرسول- لا يدخل في إطار حرية التعبير، وقد أساء الفهم كل من اعتبر أن الارتداد في حد ذاته كان الإشكالية مع من ارتد.

إن المساس بالقول بأي قيادة دينية أو سياسية أمر لا يُغتفر، وما كان كسرى أو قيصر أو أي من القيادات السياسية أو الدينية قديمًا أو حديثًا ليصيبه أذى على هذه الشاكلة ويترك من فعلها؟! ولكنهم في عصرنا يجيدون الضحك على عامة الناس باسم الحريات التي ينتهكونها في الخفاء بكل السبل.

وبينما نجد عظماء مفكري العالم يقفون إجلالًا وإكبارًا لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة نجد السفهاء يتقولون بشأن من أمر الرسول بقتلهم يومها، مع أنهم يُعدون على الأصابع! فهو بحق نبي الرحمة أنه لم يزد عن هذا وعفا عن البقية.

وهؤلاء لا يميزون بين مؤمن اقترف ذنبًا استحق أن يُعاقب عليه ليتطهر من ذنبه، ومنافق يؤذي رسول الله في الخفاء، وبين كافر مصرح بالكفر وشديد العداوة والذي يصر أن يكون حربًا على الله ورسوله بيده ولسانه﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:  33].

وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن قتل المنافقين رغم أن الله أخبره أسماءهم، ورغم ما كان يلقاه منهم حتى أنهم هموا بقتله عند عقبة تبوك، ومواقف حياته صلى الله عليه وسلم التي تثبت أنه كان يشاور أصحابه وينزل عن رأيه لرأيهم في أمور الدنيا كثيرة، وكيف لا وقرآننا يقول: ﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، ومواقف الشورى في دولة الرسول لا تكاد تُحصى من كثرتها، كما أن قصص عفوه صلى الله عليه وسلم على من أغلظ له بالقول أو هجاه تكفي لأن تُجمع في كُتيب، لكن أن يصل الكلام إلى السباب في الأعراض والافتراء على القرآن ونحوه فهذا مما لا يُسكت عنه. فإن كنت لا تميز بين كعب بن الأشرف الذي أمر بقتله وبين كعب بن زهير الذي عفا عنه فهذه مشكلتك.

محمد والمسيح

مثلما أن هناك عقلاء من البشر يتتبعون سِيَر العظماء ليقتدوا بهم، فهناك سفهاء يتكلمون في حق العظماء وينتقصونهم. وهذا حال البشر منذ بدء الخليقة، فلا بد دومًا في كل أمة من الناس أن يكون بينهم من يقوم بأدوار الخير وآخرون يقومون بأدوار الشر.

والسب والانتقاص للإسلام ورسوله يأتي غالبًا من ملاحدة، ولكنه قد يأتي أيضًا من بعض المنتسبين لأهل الكتاب. وقد يكون موجهًا نحو عقيدة الإسلام كما قد تطال الإساءة نبينا الكريم. ومن يفعل هذا في عصرنا يستغل جهل عامة الناس بالسيرة النبوية فيروي القصص محرفة لإثبات نقيصة ما مكذوبة ومدّعاة، وما أسهل كشف زيف ما يدعي بأن تقرأ.

ولا يخلو الأمر من عقد مقارنة لا وجه لها بين محمد والمسيح تظهر محمدًا على أنه سفاك دماء بينما تتغنى برحمة المسيح، وتتندر على وصف الله رسولنا بأنه رحمة للعالمين. والمقارنة بين محمد والمسيح عليهما السلام مقارنة ليست في محلها ولا معنى لها؛ فالمسيح قد انتهى دوره في الحياة مبكرًا رغم كونه شخصية محورية في قصة الإنسان، وارتفع شأن دعوته بعد اختفائه من على مسرح الحوادث، فلم ير دعوته تعلو. وأرى الحكمة من ظهور المسيح واختفائه قبل انتشار دعوته أن الله أراد أن يخبرنا أنه قادر على نشر الإيمان وتبليغه بطرق مختلفة. ومن ثم فلم يتخط المسيح مرحلة الصبر والهجر الجميل. وهل كان للمسيح أتباع كُثر وبإمكانه أن يخوض بهم حربًا لنُصرة دينه ودفع الأذى عنه وعنهم، ثم أنه لم يفعل لتقارنوه بمحمد؟!

ومن يقارن بين محمد والمسيح يدعي ضمنًا أن المسيح لو استمر وجوده وقويت دعوته وكثر أتباعه وهو بيننا فلم يكن ليتغير من دوره شيء! ولا أفهم من أين جاءوا بهذا الاستنتاج فرأوا أن تغير كل العوامل من حوله لن يكون له تأثير على رد الفعل! وليس في سيرة أنبياء بني إسرائيل ما يُصدِّق على هذا التصور.

ثم إن التوراة وهي العهد القديم هي جزء من رسالة المسيح، والمسيح عليه السلام ما جاء ليهدم الناموس بل ليكمله، فالمسيحي ليس مؤمنًا بالمسيح وحسب، وإنما بكل الرسالات من قبله، مثلما أن المسلم يؤمن بكل الرسالات قبل نبينا محمد، وفي التوراة أمثلة على كل ما يحاول المتطرفون أن يشينوا نبينا به من قتال وتعدد زوجات، وأغلب الأنبياء قاتلوا، كما أن أغلبهم كانت لديه أكثر من زوجة، ‏﴿‏إِنِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أُخْرَى، لاَ يُنَقِّصُ طَعَامَهَا وَكِسْوَتَهَا وَمُعَاشَرَتَهَا﴾ [الخروج 21: 10]. بل يمكن الجزم بأن داود وسليمان عليهما السلام قد استكثرا من الزوجات فوق الحد المعتاد والمعروف، وإن كانوا يعتبرونهما ملِكين! وحقيقة فإنني كثيرًا ما أتساءل عندما أستمع إلى من يلقي هذه الاتهامات إن كان قد قرأ التوراة!

وفي كتاب الله من خبر أنبياء بني إسرائيل ما يجزم بوقوع قتال أو أمر به، وهل غضب الله على اليهود إلا بعد أن قالوا لموسى عليه السلام: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]. ثم بعد مدة وعندما نشأ منهم جيل جديد وأُرسل لهم نبيًا آخر بعث الله لهم طالوت ملكًا، والذي حارب والمؤمنون معه العماليق بقيادة جالوت، ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 251]. فهل لم يسمع هؤلاء بنبي الله داود وجيشه العرمرم الجرار حتى وإن اعتبروه ملكًا! ولست بحاجة أن أنقل من آيات التوراة ما يفيد الأمر بقتال ووقوعه، فمن يتقولون على الإسلام لا يجهلوها ولكنهم يتعامون عنها لا أكثر.

ثم إننا كمسلمين نعلم أن هناك كنائسَ في الغرب في عصرنا خالفت تعاليم المسيحية وسمحت بترسيم رجال دين من الشواذ باسم الحرية الجنسية، وأن هناك متطرفين مسيحيين قد يقتلون مسلمين أو يعتدون على المساجد في أوروبا مقتدين بفرديناند وإيزابيلا وما فعلوه في مسلمي الأندلس، ومنذ قرون زحفت نحو بلادنا جيوش أسموها جيوش الرب وحملوا شارة الصليب وادعوا أنهم يقاتلون في بلادنا وفقًا لما أمر به الرب في الكتاب المقدس، وأقنعوا العوام من سكان أوروبا بتلك الأفكار ليلتحقوا بهم، بينما كان الهدف سلب الشرق خيراته، ولكننا لا نلصق أفعال هؤلاء المحتالين في المسيحية، فنميز بين تعاليم الدين وما يقترفه بعض أتباعه من المهاويس، بينما في المقابل نجد بعض المسيحيين المتطرفين إضافة للملاحدة ينسبون للإسلام كل ما اقترفه المتطرفون من المنتسبين إليه، وعندما نقول لهم إن أفعال هؤلاء ليست صادرة عن عقيدة صحيحة يرددون علينا أفكار المتطرفين التي يصرون أنها تعاليم الإسلام!

ونحمد الله أن أراذل الناس من قليلي العقول -قديمًا وحديثًا- هم من ينتقصون من ديننا ورسولنا، فوالله إن مثل نبينا لا يعرف قدره إلا الكبار. يقول الفيلسوف جوته: "لقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد". ويقول الأديب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد: " لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتورِّد المُقْلتين، العظيم النفس المملوء رحمةً وخيرًا وحنانًا وبرًا وحكمةً وعقلًا، أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه، وكيف لا وتلك نفس صافية ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين."

 

د. منى زيتون

 

 

في المثقف اليوم