دراسات وبحوث

مشروع التمدن الإسلامي إشكالية القطيعة.. وخلل المنهج

عبد الامير كاظم زاهد1/1 / مدخل:

اذا كانت اوربا تملك عمقا معرفيا في الفلسفة اليونانية قبل الثقافة الدينية المسيحية احتاجته فيما بعد خلال صراعها مع ثقافة الكنيسة، فان العالم العربي لم يغادر حواضر معرفية مكتنزة الى الثقافة الدينية الإسلامية فقد نزل القرآن الكريم على امة لم تكن تتعدى (معرفيات الشعر والانسان وايام العرب وغزواتهم)(1).

وحينما تحولت الثقافة الدينية المسيحية في اوربا الى أغلال للعقل والمعرفة والحقوق المدنية للانسان، عاد الاوربيون أولا الى عقلانية الفلسفة في تراثهم، فقادتهم الى انهاء اسطورة المنطق القياسي، وتحرك فرانسيس بيكون نحو منطق جديد ينتج معرفة جديدة(2)، وتحركت بعده قوافل المفكرين لتخرج اوربا من حالة الانسداد امام مشروعها للنهضة، وان انتهت الى عبودية الطبيعة واعتماد لقوانين القوة وليس قوانين القيم لكن رغم ذلك فلا تزال امم اوربا الامة القوية المستقرة المتواصلة في تطوير مشروعها الحضاري المعاصر.

وخارج اوربا فان الصين واليابان والاتحاد السوفييتي السابق والنمور الاسيوية، وغيرها تجارب من تجارب قريبة العهد استطاعت ان تتخطى الانسداد الحضاري الى اكتشاف مشروعها (3).

لكن العالم الإسلامي لم ينه حالة الانسداد، فلا يزال العقل الإسلامي يتحرك في مكانه حركة موضعية، ولا تزال شعوبه تعاني من غياب المنهج العلمي، ولا يزال عجزه عن تحقيق تنمية إنسانية شاملة عجزاً ظاهراً رغم ان شعوبه ينحدرون من ثقافات تاريخية متعددة، ان سؤال البحث: فما طبيعة هذا الاشكال؟

- هل تكمن الإشكالية في ذات النص الديني او تتركز في سبل فهم النص وأدواته ؟

- هل يسعنا إعتماد مرجعية أخرى الى جانب مرجعية النص ؟

- ما السبيل الى بناء تصور فلسفي لتفكيك الانغلاق الذهني في اكتشاف المشروع الحضاري ؟

1/2/ مفهوم المشروع الحضاري:

يراد بالمشروع الحضاري: تصور قابل للتطبيق لاعادة صياغة مجتمع ما في جوانبه الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ويتم في اطاره بناء الفرد والمجتمع في نسق عقائدي ويحقق نظرة إيجابية جديدة للعالم، ولا مانع ان يكون المشروع ناتجاً عن رسالة ذات أساس ديني كما انه لا مانع ان تكون ناتج عن تراكم محصل من التجارب البشرية .

ان الواقع الراهن في العالم الإسلامي يميل نحو اعتماد الإسلام السياسي مدخلاً للتحضر والنهوض، فالمشروع الراجح هو ذلك الناتج عن رسالة الإسلام التنويرية، وعقيدته التي تتطلع الى إعادة انتاج حضارة الانسان على أسس قيمية ويلاحظ هنا تطور النظرة الى الإسلام من شعائر وعبادات، الى نظام حياة، ثم من نظام حياة الى (رؤية حضارية إنسانية) ترتكز على ثلاثة مرتكزات هي (التوحيد، والتمدن، والعقلنة)، وواضح ان التوحيد توحيد الخالق المشرّع واهب العلم بالاسماء كلها والتمدن خلق المجتمع المدني تخلصا من البداوة والقبلية والجهتية واما العقلنة فيراد منها عقلنة التدين، وعقلنة المعرفة الدينية وعقلنة الفلسفة وعقلنة العلم والسياسة لكن التجربة التاريخية الحضارية الإسلامية حتى في ذروة ازدهارها كما اعتقد ويشاطرني عدد من الباحثين وكثير معي لم تحقق هذه المرتكزات مجتمعة، لذلك فان المشروع الذي ننتظره يجب ان يكون مشروعاً مستقبلياً وليس مشروع الماضي مرتكزاً على الايمان والتمدن والعقلنة.

وهذا المشروع هو المرجح للخيارات الاستراتيجية الراهنة وهو القادر على بناء المدنية على أساس الايمان – والمتمكن من النأي بالايمان عن التعصّب او تحكيم الشرع الإسلامي كما عرفناه بظروفه الزمانية السابقة الماضوية فلا بد من اعمال الاجتهاد لاحتواء الواقع والمتوقع، ولا بد من اختيار الحل التاريخي لانهاء الحروب الاهلية الناتجة عن التعصب واختيار المواقف الموضوعية في مجال الفكر والتدين بحيث تتحقق غاية الامن الحضاري، والظروف اللازمة للوعي والتنوير، ومواجهة النموذج السلفي المنزوعة منه رؤيته الحضارية والمساق في سياق تحريفي ضخم لعزل المسلمين عن مسارات الحضارة الإنسانية .

1/3/: مراحل المشروع الحضاري الإسلامي:

للمشروع الحضاري الإسلامي تاريخ ضارب في عصور التطور فقد حقق النص الديني قفزة كبيرة ونوعية في إعادة بناء العقل والوجدان والقيم ورسم افاقا تحرك عليها الانسان المسلم فتدرج مشروعه الحضاري من التأسيس لقاعدة لهذا المشروع وتحديد مرجعيته النصية،الى فهمها فانجز تفسير القرآن وشروح الحديث النبوي وانتقل ليكوّن ثقافته حول النص فدّون الفقه والكلام في صورته التي تخلو من ايديولوجيات (غير بناءة) وبذلك صنع مرحلة التأسيس المرجعي.

1/4/: إشكالية المكون الحضاري في القرن الرابع (بمعرفياته):

لكن الذي حصل بعد مرحلة إتمام التأسيس ان النص واجه (الموجة الحضارية الأولى) موجة ترجمة المعرفة الوافدة مواجهة علمية نقدية ونجح في التعاطي مع المعرفة المنقولة له بالترجمة من اليونان فتلقى علوم الأمم الأخرى فدرسها وفهم مراميها وحللها وفكك مقولاتها ونقدها، وعمد الى تهذيبها وإعادة انتاجها على وفق معاييره البرهانية، وخرج من تداعيات الصدمة الأولى قوياً له أفقه، ومقتدراً في سعيه لاستمرار رؤيته الحضارية .

1/5/: قد يقال ان الصدمة الأولى الممثلة (بالمعرفة الوافدة)، كانت وراء ظهور النزعة العقلية بشقيها (الفلاسفة، والمتكلمين) وظهور تيارات الاعتزال والاشعرية والماتريدية ... الخ، وهذه التيارات ليست نتاج النص انما نتاج تفاعل النص مع المعرفة الوافدة فلم يدم التماسك طويلا فقد تنامى الى جانبه (تيار نصوصي سلفي ماضوي) تغّلب على المشهد الفكري في القرن الثالث، لكن هذا القول اهمل تتبع الواقع التاريخي الذي يفضي الى ان هيمنة النزعة النصوصية: كانت على مستوى سلطة الحكام، اما عامة أهل العلم فقد كانت تنمو في أروقتهم عقلانية متجذرة في مقولات الاجتهاد، من ذلك نعلم ان ثقافتين تعايشتا هي ثقافة العقل وهي خيار المثقفين، وثقافة النص وهي ثقافة السلطة.

فصارت في تشكلات المعرفة الفكرية مساحتان، مساحة لثقافة السلطة (تمثلت بالجبرية، والاستبداد، والسلف والسلفية والفرقة الناجية)، ومساحة المفكرين من خارج السلطة الذين مارسوا البحث الحر لاستئناف المسار الحضاري الذي يؤكد على العقلانية والحرية والشورى والنزعة التأويلية والنقدية والايمان بالمعرفة النسبية، واستمر هذا التوازي بين الاتجاهين حتى عصر ابن خلدون .

لكني اظن: ان ابن رشد قد ختم المعرفة الفلسفية في نهايات القرن السادس(1) وان الشاطبي قد ختم المعرفة المنهجية (2) وابن خلدون قد ختم الفكر الاجتماعي والعمراني (3) .

وفي ظني: ان بداية القرن الثامن كانت (بداية التراجع الحضاري) فلم تعد المعرفة في ذلك الوسط صانعة وخلّاقة وقابلة ان تتحول الى متون عظيمة، انما تحولت الى ثقافة الحواشي أي الشروحات والتفاصيل على متون فترة القرون الخمسة الهجرية الأولى، ثم ظهر أسلوب المختصرات التي تتخذ أحيانا شكل الارجوزة التي ينظم فيها العلم، ثم احتاجت تلك المختصرات والارجوزات الى شروح وشرح الشروح فاضحت حركة الفكر حركة موضعية (4)، وبذلك تّنحت الثقافة الحقيقية والفكر الخلّاق عن واقعه ومستجدات ذلك الواقع .

وصادف مع هذا التراجع، قبول المجتمع بفتوى غلق الاجتهاد، واجبار الناس على اتباع فقه الائمة الأربعة الذين مات اخرهم في منتصف القرن الثالث، فاضيف للتراجع عامل اخر وهو توقف الفقه عن توصيف الوقائع والتصرفات القانونية، وتضافر مع هذا العامل – عامل اخر – وهو تحريم السلطة الدينية للتداول الفلسفي، واعتبار الفلسفة نصاً كافراً يفسد عقائد الناس، ورافقه الهجوم على المنطق الارسطي وتوصيفه انه نتاج الوثنية من دون ان يكتشف النصوصيون منطقاً بديلاً وكان يمكن التنظير لمنطق الاستقراء الذي عرفه الغرب بعد ثلاثة قرون من هذه الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، الى جانب كل ما تقدم يلاحظ المتتبعون تعاظم المنهج الخلافي في الفقه والأصول والرجال والدراية والتفسير والمطارحات العقائدية (علم الكلام)، ومضمونه عندهم ان نجاح أي نظرية يتوقف على اثبات بطلان الأخرى، بحيث افضى ذلك الى تركيز الجهود عن تهافت الاخر باي شكل بموضوعية او بغيرها، فساد نمط من أنماط التراشق بدل البحث عن ضوابط الترجيح والمقارنة المتزنة العلمية والنزعة الدليلية، وكنموذج على هذا ما نراه من معارك تسقيطية بين فقه الحنفية وفقه الشافعية، وما نراه من هجوم غير علمي لمؤلفين استعانت بهم السلطة للهجوم على التيارات التي خارج السلطة وتشويه عقائدها وفكرها وتكفيرها وتبديعها.

واخترعت هذه المرحلة (مراتب للمجتهدين) سعياً منها تبرير انتهاء الممارسة الاجتهادية، فابتدعت(مجتهدي التخريج داخل المذهب لكي تعطي وصف المجتهد (لرجل الفتوى) الذي ينقل اقوال الاقدمين 1) الى الحاضر باهمال تام للزمن وتداعياته.

لقد كاد المسلمون في عصورهم المزدهرة حتى القرن الخامس الهجري ان يبدعوا نظرية علمية في المنهج، ولعل الشاطبي احدى قبساتها، وكانوا على حافات إبداع منطق جديد بدل منطق ارسطو الا ان عوامل التراجع كانت اقوى من عوامل التقدم، بعد القرن الخامس الهجري.وما تقدم عرضه من عوامل الانتكاس يعيدنا الى سؤالنا المركزي:

هل كانت عوامل الانتكاس نتاج النص او ان جوهر الازمة يكمن في طبيعة فهم النص ومسالك فهم الواقع ؟ وهل لغياب المنهج العلمي والرؤية الموضوعية (نقل المعرفة) دور في تكريس الانسداد؟ .والسؤال يعيدنا الى الاعتقاد (ان المسلمين – حتى في اكثر الازمات ترديا – لم يستبدلوا مرجعيتهم الحضارية] القرآن الكريم [بمرجعية أخرى وهذا يقيني حتى القرن الثالث عشر الهجري أي بعد مرور خمسة قرون من بدء زمن التراجع لكنهم لم يكتشفوا الطريق لتفكيك الانغلاق والانسداد والخلاص من مرحلة التخلف واستئناف الفعل الحضاري الذي مارسه الأجداد حتى القرن الخامس الهجري .

 

2/1/ الصدمة الحضارية الثانية:

بدأت الصدمة الحضارية الثانية (باحتلال الدول الغربية لبعض البلدان في العالم الإسلامي (بريطانيا للقارة الهندية، إيطاليا لليبيا، بريطانيا لمصر ... الخ) فصار لقاءً قسريا لحضارتين احداهما نهضت توا ونجحت في امتلاك الطبيعة وتحويل المعرفة الى تطبيقات وتطلعت للإفادة القصوى من القوة في ضم مناطق الثروة وتسويق السلع، وانشاء قواعد عسكرية متقدمة حتى تجري الحروب خارج بلدان الغرب.

اثار هذا اللقاء الحضاري في الذهن الإسلامي الفوارق في المعرفة والمنهج والتطبيقات والتقنية، وتطور المفاهيم العامة، وادخل العقل الإسلامي آنذاك في سجاليه جديدة تدور لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون ؟ فكان القلق على التقدم بوابة للفكر الجديد الباحث عن ظواهر التراجع الحضاري واسبابة كمقدمة للتفكير بالحلول .

وادت الصدمة الحضارية الى ظهور اتجاه يفكر بالحداثة والتحديث ولكن خارج إطار الشريعة مقتفيا تجربة البلدان الاوربية وتعالت أصوات هذا الاتجاه لا سيما ممن اكمل تعليمه خارج بلدان العالم الإسلامي وتعاونت دول الغرب مع هذا الاتجاه فسلمت إدارة بلدان العالم الإسلامي الى هذا الفريق فكانت اكثر حكومات الدولة الوطنية بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية حكومات (غير دينية) بل تعتبر الدين تراثاً للامة وتاريخا لها، ولكن تجارب هذه الدول السياسية التي بدأت في الربع الأول من القرن العشرين لم تكمل في شوطها نصف قرن حتى انكشف وهنها وفشلها في عدة مجالات منها: مجال بناء الانسان، ومنها استنباط مشروع النهضة من مرجعية البشرية والعقل والإفادة من التجارب الإنسانية وتجارب الدولة المدنية، والابتعاد عن الاستبداد والقهر والاستلاب وتحريك القوى الناشطة لتطوير الموارد وإنتاج المعرفة عسكرياً وامنياً، لقد فشلت الدولة الوطنية في اول مواجهة في حزيران 1967 فخسرت الحرب امام اسرائيل.

2/2/ مظاهر الازمة الحضارية:

ومن جراء تجربة الدولة غير الملتزمة بالاطار الإسلامي انعكست على واقعنا المعاصر ظواهر برزت بصورة مجموعة مشكلات يمكن بيانها فيما يأتي:

1- فشل التنمية الإنسانية الشاملة: لما كان الانسان في كل التجارب والمذاهب الاجتماعية والنظريات الفلسفية الفئة المستهدفة للسياسات الاجتماعية، فهل تحققت في واقعنا عملية بناء الانسان في القرن الماضي بناءً متكاملاً ؟

فمن جهة الفكر الواقع يشهد ضمور الابداع الفلسفي والعلمي المعتمد في خطط بناء الانسان المعاصر، ويشهد ضمور المنجزات الفكرية في نطاق الحقوق الإنسانية والإنجازات التقنية وسبل الكفاية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي، فلماذا لم تحقق الاطروحات النهضوية العلمانية عملية تأهيل الانسان لكي يتعامل مع الثقافة او الأشياء (الكون المادي) تعاملا موضوعياً علمياً ؟ بل لماذا نشهد انحداراً في القيم العالية كالمواطنة والالتزامات الشخصية والعامة في هذه التجارب؟ رغم انها ناشطة في الموطن الغربي الذي اخذوا منه أفكارهم .

ان الواقع يشهد ان الانسان يعاني من فشل في تأهيله العقلي كالذكاء والمهارات، والقوى المزاجية كالتوازن في الانفعالات او الخلقية كاضطرابات اتجاهاته وقيمه، او الحركية كعجزه عن المثابرة وسبب ذلك يكمن في تخلف مشروع التأهيل للملكات والغرائز والعادات والاستعدادات .

2/3/ العجز عن تحقيق التنمية الاقتصادية للموارد المتاحة (الثروات والعمل) اذا كانت التنمية هي محصلة (المخرجات)، والمؤشر الحقيقي لفاعلية أي نظام اقتصادي، فان توزيع الثروة والدخل وانماط الإنتاج ونظم التوزيع والتبادل وانماط الاستهلاك في التجربة الوطنية عانت من تخلخلات كبيرة ومشكلات ضخمة ويلاحظ ذلك في مؤشر الدخل الفردي لان انخفاضه يعني ضمنيا تغييرا في مؤشرات أخرى، واذا تم تطبيق قائمة (لنشاين) على المجتمع العربي فاننا لا نجد مناصاً من القول انه وقع من الناحية الاقتصادية في معضلة التخلف الاقتصادي بأبشع صوره، فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الواقع، هل ان مشاريعه التنموية كانت غير ملائمة لتكوينه الفكري، اوان التكوين الفكري التراثي هو نفسه عائق من ان تعطي (النماذج التنموية العلمانية) لمعطياتها ؟

وواضح ان فشل النماذج التنموية لاي سبب كان ستنعكس تاثيراته على حضارة المجتمع وسلوكياته وقدرته على الابداع العلمي وتقبله لبرامج التاهيل وبالتالي: عجزه عن مواجهة التحديات ودخوله في حلقة التخلف المفرغة.

2/4/ ازمة البرنامج التأهيلي العلمي:وتظهر الازمة واضحة اذا تحرينا جوابا على هذه التساؤلات ومنها: هل الجامعات العربية والمؤسسات الاكاديمية استطاعت ان تجتاز أبرز عقبتين للنهظة ؟ وهما:

أ‌- تطويع التراث لخدمة الانسان والمستقبل كما حصل في اليابان وماليزيا.

ب‌- هل استطاعت الجامعات تشكيل النظرية المعاصرة للمنهج العلمي لمواجهة الوافد الفكري و الفلسفي والتقني من خارج الدائرة الحضارية التراثية او لتحليله واعتماد ما ينسجم منه مع صيرورة العقل الإسلامي.

ت‌- هل تملك المؤسسات العلمية الاكاديمية او دونها فهما فلسفياً معاصراً للوجود والحياة والزمن، وتصوراً لحاجات الانسان المعاصر، وتصورٌ للنظم الحقوقية الناهضة، بحيث يظهر هذا الفهم جليا في تعاملها مع العلوم الإنسانية السائدة وتوظيفها لخدمة الانسان (حاضره ومستقبله) ولكن في ضوء علاقة سليمة مع المعرفة التراثية.

ث‌- هل استطاعت هذه المؤسسات ان تعالج (الفجوة الحضارية) والانقطاع عن زمن الابداع الثقافي العربي حتى وصل الحال الى زمن (اليقظة) وهل تم تخفيف اثار القطيعة؟ لاسيما وهي جلية وقائمة ومؤثرة، بحيث لا نجد رؤية دقيقة لمنهجية القراءة المعاصرة للنص، وثقافة النص، ولهذا العجز المؤشر والواضح في شلل القدرة الجامعية مجموعة معطيات سالبة ابرزها:

1- لم تتبلور على صعيد التنظير والراي العام حاجة الى وعي بضرورة النهضة ومشروعها، قد تم اغفال وإهمال الأثر السلبي لهذا التلكؤ وغياب الوعي، او تغييبه .

2- عدم الانتباه لمشكلة فقدان المنهج العلمي للتعامل مع التراث الفكري للامة والوافد الفكري من الحضارات المعاصرة لواقعنا المعاصر .

3- وبسببها تم تكريس التخلف الشامل، واليأس والهزيمة الداخلية والنفسية في صراع الامة ودفاعها عن وجودها إزاء عدوانية الغرب ذي الاذرع المتعددة ثقافيا واقتصاديا وتقنيا وعسكريا، ولم تقف وقفة جادة امام التعصب والأصولية .

4- وبسببها أيضا ظهر الانقسام غير المجدي بين مفكري الامة في اطروحتهم النهضوية بين سلفية لا تعنى الا بالماضي، ومعاصرة تنقل العقل المعاصر الى منظومة فكرية ليس لها جذر تاريخي إسلامي وتحول الخلاف من اختلاف تنوع الى اختلاف التضاد، وتتوسل في العلاقة مع غيرها بأساليب التصفية وإلغاء الاخر، بدل التعاون والتكامل، وتعطي التقديس للأشخاص والاتجاهات بدل ان تعطي للغاية والهدف بحيث تسعى كل الوسائل والجهود نحوه، فكان التكفير هو السلاح السلفي ضد العصرنة والعلمنة والعقلنة،واضحى التغريب التهمة ضد النظر العقلي الحر وسار المشروعان بخطين متوازيين لا يلتقيان لا في اول الطريق ولا في آخره

5- وبسبب ذلك كله بقيت الامة في خضم مشكلاتها التي تتضاعف آثارها المهدرة للجهود والطاقات والزمن الذي يبعدنا عن اهدافنا وعن اللحاق لامتلاك بعض عناصر القوة في صراع الوجود مع عدوانية الغرب .

وهكذا: تم لنا تشخيص ازمتنا الحضارية المعاصرة، واشكالها وصورها ومظاهرها الخارجية ونتائجها على صعيد الحاضر، اما على صعيد المستقبل اذا حسبنا الامر وفقا لمعطيات الحاضر فصورته المتخيلة اكثر سوداوية وقتامة، فما الأسباب المتعلقة بهذا الناتج الواقع فعلا، وهل له أسباب كامنة في تاريخنا وهل تشكلنا العقلي تاريخيا قد انجب ذلك، ام ان العيب في واقعنا وفقداننا لمنهج عقلي معاصر للخروج من هذه الازمة، ام كلا السببين يكمنان وراء الظاهرة .

لقد وضعت مدرسة السيد جمال الدين الافغاني حجر الاساس لمشروع اسلامي توحيدي تنويري عقلاني ورسمت له اصوله وقضاياه واهدافه، ولقد تطورهذا المشروع باتجاهين اتجاه عقلاني تمثل في مدرسة محمد عبده، وآخر نصي تبناه محمد رشيد رضا في أواخر نشاطاته في الثلاثينات بحيث انتج التيار السلفي المتمثل بجماعة انصار السنه التي تزعمها محمد حامد الفقي وتأسست حركة الاخوان المسلمون عام 1928،ونما بعد التأسيس تيار اسلامي وجدت في اروقته اتجاهات متعددة مما سمّي فيما بعد جماعات اليسار الاسلامي واليمين والاتجاه القطبي ، وجماعة التحرير ثم الجهاديين الاوائل الذين ظهروا في أواخر السبعينات وما انتهى اليه الحال باختزال الاسلام السياسي باصوليات العنف تحت مسمى الجهاد. وقد لاحظ المتتبعون ان المشروع الحضاري الذي يرفعه الاسلام السياسي المعاصر مشروع تكتنفه نزعه تدميرية عبثية بعيدة عن الواقع الإنساني، ويحتاج ضرورة الى اليات لكي ينخرط ميدانياً انخراطاً سلمياً في الواقع المعاصر، وعليه ان يجد ادواته للتجديد والاجتهاد واعتماد طريق العلم والعقلانيه والنزعه النقدية ، ووضع البرامج الفاعله لحل الازمة المعاصرة للهوية الحضارية ، ولمواجهة التخلف المجتمعي العام ولمواجهة غياب او تغييب الرؤى الاستراتيجية للمستقبل واخيراً كيف يتعامل الاسلاميون مع ظاهرة التعصب والانغلاق التي ظهرت كخلاصة لقرن من الممارسة السياسية وهي الظاهرة الاكثر بروزاً في رواقهم التي حولت الاسلام من (مشروع حضاري عالمي) الى ايدلوجيا سياسية مذهبية تعمل على اجهاض النهضة لان مؤشراتها معاكسة لحركة الانبعاث.

ان الحرب العقائدية التي تشنها المجموعات الاصولية على مجموعات من المسلمين تعد حرباً على الاسلام الحضاري، والخطير ان هذه الحرب اندلعت من داخل المجتمع الاسلامي أي من المساجد الكبرى التاريخية ومن مدارس تعليم السنه والحديث ومعاهد تلقين الاجيال افكار غير قابله للمناقشة ، ومن جامعات تكتب على مداخلها انها جامعات اسلامية، وقد تحولت هذه الموجه(التحريفية) للاسلام من نشاط فكري الى تنظيمات عسكرية معلنه وخفيه، ظاهرة وباطنة فهي بعد ان اتمت احداث التغيير التحريفي في الفكر والفهم والنظر ، ونحجت في ضرب فعالية العقل دفعت الناس لتبني الخرافة وصّورتها على انها الحقيقه وهي العلم المقدس واشغلت الانسان في معارك وهميه خارج الزمان ان هذه الحرب مثلما تزيف التاريخ فهي تتوجه الى تجريد المجتمع من احساسه بضرورة صياغة مشروعة الحضاري، وتضع التدين مكان الدين وتفصل بين العقيدة والحضارة ، للدفع بالعقيدة الى الفراغ التاريخي لذلك وضع الجهله الشعائريات غير المؤصلة والمذهبيات والطقوس العرفية بدل الرؤية الحضارية لمليء ذاك الفراغ.

3- خلل المنهج

يراد بالمنهج القواعد الضابطه للوصول الى المعرفة، والحقيقة ان الخلل المنهجي بدأ مبكراً في مسلسل التفكير البشري ففي بواكير التعامل مع النص القرآني اللانهائي في ابعاده والمفتوح على التأويل والمعجز في مضمونه واسلوبه، لقد كان هناك فريق آثر الوقوف عند الفاظه- كما يفهمها- في وضعها الزماني- وحارب الراي والاجتهاد، ورفض اعمال العقل والتدبر، ورجح الاعتماد على الخبر والاثر فتكونت عنده ثقافة الذاكرة – مقابل ثقافة العقل، ورووا بذلك حديثاً مفاده (من قال بالقرآن برايه واصاب فقد اخطأ) وتطور هذا المسلك فادعّي ان فهم الجيل الاول كان فهماً كاملاً شمولياً، وذهبوا الى اعتباره الفهم المعياري لصحة او بطلان مايفهم من النص للازمان اللاحقه، فصار للصحابي وضعاً مرجعياً رغم ان كثيراً من اصحاب هذا الاتجاه يعترفون ان الصحابي انسان يصيب ويخطئ ومن رحم هذه البداية تكاثرت مدارس التفسير النصوصية ودعمتها السلطات كثيراً فساد التفسير بالماثور على مافيه من اصناف الضعف المعرفي ومن هنا يتضح الجذر الاول للخلل المنهجي الذي ادى الى ظهور الاتجاهات السلفيه في القرن الثالث وتطورات مسالك القراءة الحرفيه للنص ومجابهه العقلانية،

ولعلنا نلاحظ اليوم مجموعة من مظاهر الأزمة او الخلل المنهجي كاختزال التراث في بعض مصادره وترك المصادر الاخرى.

خاتمة البحث:

1- لاجل اكتشاف مشروعنا الحضاري لابد من تفكيك الفجوة المعرفية من زمن غلق الاجتهاد حتى زمن اليقظة مطلع القرن العشرين

2- لابد من بناء منهج علمي وموضوعي لتحليل التراث وإعادة انتاج النظرية النهضوية منه.

3- لابد من بناء منهج علمي وموضوعي للافادة من المنجز الإنساني وتطويره والمساهمة فيه.

4- لابد من الخروج من الحلقة الحضارية المفرغة (المثقف الديني- طريقنا للمشروع الديني، والمشروع الديني بيئة لصناعة المثقف الديني)

5- لابد من صياغة قواعد منهجية للتعامل مع مركب (الواقع- النص). و(الماضي- المستقبل).(الانسان/الله)

6- لابد من الفصل بين التراث الفكري للسلطة وتراث التنوير العلمي (خارج السلطة).

***

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد 

 

في المثقف اليوم