دراسات وبحوث

توظيف الذاكرة التاريخية في تكون الوعي الشيعي

عبد الامير كاظم زاهد

قراءة سوسيولوجية في رسالة الخـــوارزمي لأهل نيسابور

المدخل:

يبدي كثير من الباحثين اهتماما خاصا بالتجربة الاجتماعية والسياسية للشيعة في القرون الهجرية الاربعة الاولى، ويزداد تساؤلهم كيف قاوم الوجود الشيعي سياسات الاضطهاد والقمع الممنهج والمستمر والمتعاقب بسبب موقفهم من شرعية السلطة لاعتقادي ان نقطة البدء في التأسيس السياسي الشيعي هو الاختلاف على نمط رئاسة الدولة وسمات (الامام) أو رئيس الدولة ومواصفاته، ثم تحول الموقف السياسي من التطلع الى حكم رشيد الى هرم نظري وعقائدي تميز عن نمط الثقافة التي تبنتها السلطات المتعاقبة ثم الى جدلية تاريخية بين أنموذج الشيعة الذي يبدأ من حديث الغدير، والأنموذج النظري لغيرهم الذي يبدأ من انموذج السقيفة.

وعلى انموذج الغدير يقدم الحاكم الذي نص الله والنبي عليه بوصفه الافضل والاكمل، وعلى انموذج السقيفة يقدم الاقوى قبائليا تسويقا انه تطبيق لحق الامة في اختيار الحاكم لها بعد النبي الاكرم (ص)، وهكذا يتطور الاطار النظري لهذين الانموذجين الى نظريتين سياسيتين صارت تدعمهما عشرات النصوص الدينية والتأويلات والتفسيرات المتبناة للنصوص القرآنية، وتدعمها آراء سياسية ومدعيات تاريخية وجدل كلامي و صار لكل أنموذج تراكم ضخم من الاسس الدينية التي شكلت لكل منهما رؤية ومذهب ومنهج وأصول فكرية ومبادئ أساسية (1).

والذي حصل في الواقع التاريخي غلبه أنموذج السقيفة على القبض على السلطة التي مكنتهم من الهيمنة والمال، و الاستعانة بقوة الدولة، والواقع هو الذي صيّر الأنموذج الآخر الغدير معارضاً تمسك بمعارضته وسار معها على مراحلها وأنماطها لكنها كانت في البدء معارضة ايجابية متعاونة مع السلطة في زمن الخلفاء الثلاثة الأوائل رغم اعتراضه على شرعيتهم فتعاون معهم وقدم لهم النصح والمشورة وصحح لهم اعمالهم ولم يتبن اسقاط تجربتهم لا نظريا ولا عمليا، ثم ادار انموذج الغدير شؤون الدولة لأربع سنوات ونيف كان يريد ان يطبق مشروعه للحكم الرشيد الا انه اصطدم بالمصالح والمكتسبات التي تحولت الى حقوق شبه مكتسبة رغم انها لم تسند بالادلة الشرعية فواجهت مجموعة من الانشقاقات. فاضطر ان يتعامل معها لكنها تطوردت الى تمردات مسلحة ونزعات مسلحة قاومته بصورة عنيفة ودموية على عكس طريقته السلمية والايجابية في معارضتة للخلفاء الثلاثة الاول.وبعد اجبار الامام الحسن ع على التخلي عن السلطة عاد الشيعة للمعارضة في طورها الثالث تلك المعارضة التي تتعامل مع نظام متغلب قسري لا يمتلك ادنى مقومات الشرعية لكنه في زمن الأمام الحسن (ع) كان يتمسك بحقن الدماء املا في ان تصحو الامة فتصحح فكتب الامام الحسن ع بيانا يركز على الشرعية والمشروعية معا ودعا الى تنظيم وثيقة دستورية مكتوبة نقضها حكام بين امية ونكثوا عهدهم وعاملوا ال البيت بالقسر والقوة والتعسف البالغ حتى ال الامر الى ما حصل في مأساة كربلاء في محرم سنة 61 هـ، الذي نقل المعارضة الشيعية من الصلح الى طور المواجهة الحادة فكانت كربلاء اللحظة التاريخية الفاصلة بين رؤيتين

عند ذاك تطورت وسائل الاضطهاد الرسمي للدولة ضد الشيعة قادة واتباع تمثلت بتبني سياسات استئصالية قامت بها سلطة الخلفاء من بني امية و جرائم الابادة للوجود والفكر والعقيدة والتدوين الشيعي، ومنذ زمن الامام الباقر تبنت القيادة الشيعية ضرورة اعادة تنظيم ذاتها على وفق قواعد الحفاظ على الوجود الشيعي إزاء ما استقر عليه الحال في زمن الخلفاء من بني مروان لكن لم يكن هذا قرار كل الشيعة اذ ان هناك فترات اضطر فيها قادة تجمعات شيعية الى اعلان المقاومة المسلحة إزاء حملات سلطة الدولة الاستئصالية للدفاع عن الذات واحيانا كانت الظروف العامة الساخطة تهييء الاجواء لانتفاضات مثل حركة المختار عام 64 هج و ثورة التوابين اللتين أنتهتا بالانكسار والملاحقة والقتل والتشريد، وتطور حال العلاقة بين سلطة الدولة الأموية والجماعات الشيعية الى أن افضت سياسات الاضطهاد الى وضع الجماعات الشيعية بين خيارين كلاهما يفضي الى انهاء الوجود المادي والاعتباري حتى ان الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب اليه من أن يقال له أنت من شيعة علي (ع) كما ورد عن الامام الباقر (1) وهذا يبين مدى القهر والجور فاضطر اؤلئك القادة الى اعلان المقاومة ثورة زيد بن علي بن الحسين 123 هج، واولاده في حركاتهم المطالبة بتعامل عادل مع اتباع آل البيت (ع) كبقية رعيه دولة الخلافة فلم يتوصل الطرفان الى صيغة تعايش وازداد عنف السلطات مما ادى الى تعاظم الشعور العام لصالح الشيعة والتعاطف مع آل البيت وأتباعهم مما مهد الارضية لإسقاط الحكم الأموي عام 132 هـ.

لقد أستغل الدعاة العباسيون مظلومية الشيعة وتعاطف الناس معهم، والتوجيه القرآني بالمودة لآل البيت (ع) لفصل الناس عن نصرة بني أمية فأنتشر التشيع في بلدان العالم الاسلامي واستثمرت الظلامات فكانت سر قوة العباسيين بحيث اقاموا حكومتهم على الدموع التي ذرفت حزناً على يحيى بن زيد (2) ويتابع المؤرخون أن الشيعة صمدوا أمام ذلك القهر بكل صلابة مما دل على قوتهم (وكان الشيعة يأملون عندما ينتصر العباسيون على بني أمية أن يرفع عنهم الضغط الا أنهم وجدوا أن كل ما أختبأ وراءه العباسيون من الولاء لآل البيت كان أيهاماً للوصول إلى السلطة) وقد كانت البداية بقتل معاوية بن عبد الله بن جعفر الذي فر من الكوفة في 127هـ إلى خراسان فقتله هناك أبو مسلم الخراساني داعية الخلافة العباسية. * وقد سلط خوارج سجستان على أتباع علي (ع) () وعاملوهم بالقتل والتشريد عند ذاك ظهرت نزعة جديدة عند الشيعة وهي أن لا تنحصر مقاومتهم في الدفاع عن أنفسهم، أنما تبنوا الدفاع عن كل المظلومين () لذلك أجتذبوا الموالى الذين كانوا يعاملون معاملة سيئة ويتحملون ظلماً مضاعفاً وتوثيقاً لذلك يمكن مراجعة خطاب الأمام زيد الذي يذكر فيه سبب انتفاضتة بأنه يدافع عن المظلومين والمحرومين وتقسيم الفيء بالسواء (1) وتجد ذلك في خطابات المختار، وسليمان بن صرد الخزاعي وغيره من قادة الممانعة الشيعية فيما بعد. وظل الوضع هكذا حتى نهاية القرن الثالث الهجري

وفي مطلع القرن الرابع الهجري كان العالم الاسلامي عبارة عن عدة دويلات فقد كانت طبرستان قد تحولت الى اماره علوية شيعية زيدية، وقد وصف هذا القرن ادم متز بان فيه أمتد التشيع من الكوفة الى البصرة، ثم ظهر في طبرية ونابلس وعمان وقد وجد ناصر خسرو أن أهل طرابلس كانوا شيعة بل كل الجزيرة كانت شيعية ما عدا مكة وتهامه وصنعاء لكنهم يتواجدون بكثرة في هجر وصعدة والأهواز وسواحل الخليج.وكان الفاطميون قد أقاموا دولتهم في شمال افريقية واعلنوا كيانهم الشيعي () ومنهم المعز لدين الله () الذي عرف عنه اهتمامه بالعلم وبناء الدولة.

وهنا: نجد أن أغلب قادة الإمارات الشيعية كانوا على المذهب الزيدي، لأن الشيعة الأمامية لم يجوزوا العمل للوصول الى السلطة () وتقدم آل بويه من أيران لاحتلال بغداد وإعلان الدولة البويهية () وعلى الرغم من ان الحمدانيين في الموصل وحلب كانوا من الشيعة الا أن حروباً دارت بين البويهيين والحمدانيين ()

وعموماً فأن أربع أمارات شيعية كانت في القرن الرابع هي الدولة الفاطمية في مصر والبويهية في العراق وإيران وفيهم خلاف بين الباحثين حول زيدية البويهيون أو كونهم شيعة امامية () والحمدانية في الشام والزيدية في اليمن، لكن الملاحظ أن اهتمام هؤلاء الحكام بالشأن السياسي لإماراتهم اهم من التفاصيل الدينية والعقائدية فلم يسلم البويهيون الخلافة للعلويين بعد أن عزلوا الخليفة العباسي.

يرى باحثون أن الزيديين يقرون بخلافة الشيخين (بناء على نظرية المفضول، ويتمسكون بفقه أبي حنيفة، ولم يذكروا باللعن الا معاوية وقتله الحسين وهم اكثر انفتاحا على المدارس الفقهية الاخرى

لقد اصبحت بغداد في القرن الرابع تقام بها مراسيم الشيعة في محرم، ومراسيم الغدير في ذي الحجة وأن معزا الدولة كان يأخذ الفتوى من أبن الجنيد الفقيه الشيعي المتوفى (381هـ).

ويقال أن القرن الرابع هو القرن الذي نظّم الشيعة فيه عقائدهم فكان كتاب اعتقادات الشيعة للصدوق وفيه جمعوا روايات الائمة بعد أن أنقطع الاتصال بالمعصوم الحاضر عام 260 هج وبالمعصوم الغائب عام 329 في ظل الدولة البويهية التي دامت (113 سنة) كتب الكليني اهم كتب الحديث والرواية عند الشيعة وكذلك أبن بابويه القمي و وظهر ابرز فقيهين لهم وهما أبن الجنيد الاسكافي وأبن أبي عقيل العماني ويعد هؤلاء اباء التشيع في القرن الرابع الهجري

يقول جعفريان: لم يكن الشيعة في تلك الفترة يعني ما قبل القرن الرابع مظلومين سياسياً فحسب إنما كانوا مجهولين من الوجهة العقيدية، وقد نسبت اليهم كثيراً من العقائد والتهم التي هم منها براء، بسبب كونهم في ترقب وخوف فلم تكن عقائدهم واضحة وعلنية بل كانت غامضه وسرية حتى على كثير من الشيعة، وهذا العامل هو الذي أقحم الغلاة على مدوناتهم ()

وهذا الذي دعا الصدوق ومن جاء بعده يهتم بالكتب العقائدية بل أن القرن الرابع كان قرناً مهد للشيعة رسم المبادئ العامة للتشيع على أساس عقلي فلم يطرح التشيع قبل القرن الرابع خارج علم الحديث وطرح كمنظومة عقلانية في عصر المفيد (413هـ) ولعل هذا ما دعا آدم متز أن يقول ليس للشيعة مذهب كلامي خاص بهم، ولم يظهر لهم مذهب الا عند الفاطميين ().

رسالة أبي بكر الخوارزمي:

في مثل هذا الجو كتب أبو بكر الخ وارزمي رسالة الى الشيعة في نيسابور، تضمنت آراء ومفاهيم ووظفت الذاكرة التاريخية لمحن الشيعة للصبر والمطاولة لاسيما وقد كتبها لهم بعد أن تولى أمارة نيسابور محمد بن ابراهيم.

لقد قضى الخوارزمي شطراً في ظل الدولة السامانية ولم يكن منسجماً معهم بسبب الخلاف المذهبي وتداخل مع أمراء البويهيين ومدحهم وتنقل بين مدن الشام فذهب الى الحمدانيين في حلب قبل عام 346 أي في عهد سيف الدولة وقد منحته البيئات الثقافية ثراء معرفياً ظهر في نثره وشعره بيد أن تأثير البويهيين عليه كان ظاهر فضلاً عن تأثير الصاحب بن عباد في نتاجه الشعري لكن ومن خلال شعره ورسائله لم يتضح مذهبه هل هو زيدي أم أثني عشري أو فاطمي اسماعيلي وهو يسمي نفسه رافضي (أي أمامي).

في شعره:

بآمل مولدي وبنو جريرِ فأخوالي ويحكي المرء خاله

فها أنا رافضي عن تراث وغيري رافضي عن كلاله

لذلك يقول حامد صدقي: أننا لا نملك دليلاً على شيعية الخوارزمي على طريقة الاثنا عشريه ولسنا نعرف هل كان زيدياً أو أسماعيلياً()

ترجمه الخوارزمي: هو محمد بن العباس المكنى بأبي بكر الخوارزمي ولد في حوا رزم وهي من المدن التاريخية التي كانت تتبع خراسان الكبرى في غرب اوزبكستان وقد فتحت عام (88هـ) وهي مدينة كانت تضم أمماً شتى وكانت ثقافات تلك الأمم تتجاور () وفيها مكتبه نوح بن نضر الساماني، وقد ولد في 323 هـ () أي أنه سيعيش في عصر الغيبة الكبرى التي بدأت عند الشيعة 329هـ، تعلم في سجستان وأنتقل في عدة بلدان منها بغداد حيث تتلمذ على أسماعيل بن محمد الصفار () ثم رحل الى الشام وأقام في حلب وعاد الى نيسابور فأتصل بالصاحب بن عباد، وبقي في نيسابور حتى وفاته التي أختلف فيها الباحثون لكن الأرجح هي 393 هـ.

وكان الخوارزمي شاعراً وناثراً، ومتضلعاً باللغة، كثير الحفظ يمتاز نثره بأن له بلاغة خاصة ضمنت له التفرد () وقد أمتدح عضد الدولة البويهي بشعره فلما عاد الى نيسابور قبض عليه الوالي محمد بن إبراهيم بن سيمجور واودعه السجن مدة طويله، غير أنه في 371 هـ كان طليقاً،

ويعتقد د. الأعرجي أن رسالته هذه كتبها في السجن () وفي نيسابور جرت مناظرات بينه وبين بديع الزمان جرت عليه أذىً بالغاً، فقد كان يعاني من شظف العيش وضيقه فتقلب بين الوزراء والرؤساء يمدحهم تكسباً وأمتهن تعليم قوم بسط الله لهم الرزق ().ونفسياً: فأنه كان متبرماً من معاصريه وقلقاً من طباعهم فكان يهاجم دائماً من أقرانه حتى وقع في روعه أنه مغلوب ().

مات في نيسابور عام 393 بعد أن ترك عدداً من الرسائل جمعت في كتاب رسائل الخوارزمي وكتاب الأمثال وديوان شعر قالوا عنه أن ولاءه السياسي قلق، وهو زيدي متأثر بالشيعة الأمامية.

رسالة الخوارزمي للشيعة في نيسابور: تتضمن الرسالة عده محاور

1- ذم الولاة وخلفاء الجور.

2- أعتبار الموالين لآل البيت مشروعاً للقهر والاضطهاد.

3- التاريخ الشيعي هو تاريخ الظلم والمحن على آل البيت وأتباعهم.

4- تعاقب الدولتين على ظلم الشيعة.

5- حجب العطاء عن الموالين وحرمانهم من حقوقهم.

6- طمس مدوناتهم ودواوين شعرهم.

7- خصائص الممانعة الشيعية وإصرارهم على معتقداتهم.

8- النزعة القومية في الخطاب.

9- الخلاصة النهائية للرسالة.

تحليل المحاور:

1- ذم الولاة وخلفاء الجور:

يفتتح الخوارزمي رسالته بما جرى عليه المسار الشيعي من عدم الاعتراف بشرعية الدول والحكومات المتعاقبة، ووجوب تجنب الانضمام إليها والتعاون معها وممارسة نقد الظلم والتعسف الذي يصدر عنها بوسائل تنسجم مع طبيعة الظروف، فالموقف من الدولة ظهر في نقد الإمام علي (ع) لحكومة عثمان، لكنه ع لم يوافق على تطور الاحتجاجات الى قتله لان في قتله اهانة لمقام خلافة النبي.

وقد انتقد الحسين (ع) دولة بني أمية نقدا دينيا وسياسيا أستمر حتى لحظة استشهاده وكانت وسيلة الإمام زين العابدين الدعاء والمناجاة وإظهار الحزن والمظلومية وهكذا نلحظ أن القرن الثاني الهجري كان قرن الابتعاد عن سلطات الظلم، كما ورد في الروايات الشيعية، ويستطيع المتتبع أن يقرر أن الرؤية الشيعية بناءً على ما تقدم ترنو الى دولة عادلة وحكيمة وتتمتع بكامل الشرعية وترعى الجميع، ويظهر في رسالة الخوارزمي حينما يصف السلطان بأنه لا يتحامل الا على العدل، ونلحظ هنا مفردة (التجامل) والحصر بالعدل ولا يميل الا على الفضل فانه يجيد وصف طبيعة السلطة الغاشمة، وبذلك ينزع عنها مروءة السياسة وينزع عنها التدين الصادق عندما يقول أن الخليفة او الوالي لا يبالي أن يمزق دينه إذا زاحم دنياه.

أذن كانت مهمة الرسالة اولا نقد السلطة التاريخية وبيان عيوبها ومآخذها وظلمها لاسيما وقد كان ذلك في مطلع الرسالة، وبهذا يكون الخوارزمي منسجماً مع تأسيسات التفكير الشيعي الذي يبتعد عن الشأن السياسي لانه يقطع بان الانموذج مجانب للعدل والفضل والدين والرحمة، ويرى وجوب نقد الحكومات متى تيسر له ذلك، فهم معارضة لا تسعى إلى السلطة ولكنها لاتسكت عن جرائمها، وربما يعتذر لهم عزوفهم عن تولي السلطة أنهم بصدد بناء مجتمع فاضل يقيم سلطة شرعية وهذا في ظني بعيد المنال بل لا يتحقق بسبب طبيعة وعي الرعية الخاضعة للاستبداد.

2- القدرية التاريخية:

يتبنى الخوارزمي فكره القدرية التاريخية وينسبها الى الله فهو يرى (أنه ومن يخاطب من الشيعة) جماعة لم يرضى الله لهم الدنيا وأنه تعالى ذخرهم للأخرة، وأوكلهم الى ثواب الآجل، وهذه القدريه التي ربما نراها في ثنايا الوعظ الشيعي الذي يستخدم لتعظيم صبرهم على المحن والبلايا إذ يحيلهم إلى نعيم الآخرة، فيهون لديهم حرمانهم حق الحياة الذي سلبهم أياه خصومهم الحكوميين، ناهيك عن حقوق الأنسان الأخرى، لذلك يقول ان الله تعالى قسمهم قسمين إما شهداء أو مشردين، وأن أحباءهم يحسدون موتاهم ويعزز هذه القدريه بأن ينسب للأمام علي (ع) قوله (المحن الى شيعتنا اسرع من الماء الى الحدور) ().وبالتتبع وجدت من ينقل هذا النص ينقله عن الخوارزمي فقط فليس له راو اخر وبهذا يؤكد الخوارزمي طبيعة الاستسلام الشيعي إزاء الاضطهاد دون الإشارة الى التقية التي لا يرها المذهب الزيدي، وعندي ان ثقافة الخوارزمي خليط من الفكر الشيعي الأمامي والفكر الشيعي الزيدي بيد أن الذي يثير التأمل أن الخوارزمي يسند مفهوم القدريه التاريخية إلى الله تعالى اجتهاداً منه ولا يسند ها لادبيات الشيعة او لرواتهم بإحالة توثيقيه*.

ويشير نص الخوارزمي أن رجال الشيعة أما شهداء أو مشردون، لان طبيعة السلطة لم تكن تمنح الناس فرصة للتعبير عن الرأي ولا تفتح نوافذ الحوار الفكري والعقائدي تماشياً مع سياسات الاستبداد المتأصل بالتجربة السياسية بعد عصر النبوة باستثناء عصر الأمام على الذي فتح الحوار مع الخوارج في موضوع التحكيم وراسل المتمردين اصحاب معاوية بعدة رسائل وناظر جماعة الجمل، مما لم نجده فيمن سبقه ومن تأخر عنه، ويعبر الخوارزمي عن هذا الانسداد السياسي، واستحالة الاندماج بين أصحاب الرأي المختلف تعبيراً صريحاً.بيد أن النص يركز الشعور بالإحباط الاجتماعي الشيعي ويؤكدها الخوارزمي بأن هذه محنة شعب أو جماعة لها مسلكها وقراءتها للدين ()

اللافت: أن الخوارزمي يطرح مفهوماً أكثر أثارة للاستغراب فهو يقول (أذا كنا شيعة لأئمتنا أي متبعين لهم في الفرائض والسنن فعلينا أن نتبعهم في المحن) وهذا التفكير لم يقل به أحد، فعادة يتحمل القادة ما لا يتحمله الاتباع، وليس هناك حكم فقهي أو حتى أخلاقي يسوغ للخوارزمي هذا القول، الا على معنى المواساة التي ظهرت نتائجها في ممارسات عاشوراء من ضرب الرؤوس.

3- تاريخ الاضطهاد السياسي للشيعة:

وهنا يوظف الخوارزمي الذاكرة التاريخية لتكوين وعي مذهبي بأن مسار الزمن والحدث التاريخي هو مسار الظلم والعدوان على آل البيت، ويبدأ بغصب السيدة الزهراء ميراث أبيها يوم السقيفة، لكنه لم يتعرض إلى الشيخين، ووينص على مصطلح تأخير علي (ع) عن الخلافة دون ان يشير إلى نص الغدير، ويذكر سم الحسن (سراً) وقتل اخيه الحسين ويعقب بعد اسمه بعبارة (كرم الله وجهه)، وهنا نلفت النظر إلى مفاهيم (تأخير علي ع) وكأن الخوارزمي يعتقد فقط بالأفضلية دون النص عليه كما نلفت أنه كتب (كرم الله وهه) للحسين وهي عبارة غير معتادة في أدبيات الشيعة ولم يستخدم (بشاعة عدوان بني أمية في كربلاء والاساءة إلى أسرة النبي) لاثارة الشجون التاريخية مما يدل على أن تفاصيل فاجعة كربلاء لم تكن متداولة في التوظيف التاريخي للذاكرة الا بعد عصر أبن طاووس، ولعل سبب ذلك منع السلطات من أذاعة ونشر تفاصيل ما حصل في كربلاء حتى زمن أبن طاووس حيث سقطت الخلافة ووقع العالم الإسلامي تحت سلطة المغول فارتفع الحظر عن رواية ما حصل بكربلاء عام 61 ولعل هذا ما يفسر تاخر تدوين المقاتل وسرديات الطف، ثم ينتقل إلى صلب زيد وقتل ابنائه وموت الإمام الكاظم في السجن ولم يشر الى دس السم له، بينما يصرح بأن المأمون دس السم للأمام الرضا، و يذكر هزيمة ادريس من (فخ) وهروبه الى الاندلس، كما يذكر أن يحيى أبن عبد الله المحض قتل بعد إعطائه الأمان من الرشيد بخطة واستقدمه إلى بغداد وسجنه حتى مات في سجنه () ويستمر الخوارزمي في رسالته يعدد الضحايا الشيعة لا سيما من السادة الزيديين ليقرر خلاصة اساسية فيقول (ليست في بيضة الاسلام بلده الا وفيها لقتيل طالبي ترة تشارك في قتلهم الاموي والعباسي ثم يصف ائمة الشيعة من دون النص على الاثنا عشر المعصومين بل يرى كل ثوار الزيدية وضحايا التشيع هم ائمة فيقول (أن حميتهم قادتهم إلى المنية، وكرهوا عيش الذلة فاتوا موت العزة ووثقوا بما وعدهم الله في الدار الباقية) ()

وينتقل انتقالة لافتة فيقول (ولم يشربوا كأساً من الموت الا شربها شيعتهم وأولياؤهم) ويضرب لذلك محن عمار بن ياسر مثلاً وأبو ذر وعامر بن عبد قيس والأشتر النخعي وعدي بن حاتم وكميل بن زياد ويقول (أن بني أمية أتبعوا ما فعله الخلفاء الذين قبلهم بلا تصريح باسمائهم بآل النبي ويعدد صفات بني امية بانهم:

1- يقتلون من يخالفهم.

2- يغدرون يمن يسالمهم.

3- هدم الكعبة واستعباد الصحابة.

4- مآساة كربلاء وقد ذكر بعض أسماء شهداء الطف ووصف التوابين بأنهم (طائفة) أراد الله أن يخرجهم من عهدة ما صنعوا ويغسل عنهم ما اجترحوا ولعله يقصد عدم نصرة الحسين بكربلاء ثم قال فصمدوا، وقتلهم عدداً زادتهم إقداماً وسخاءً بالأنفس ثم وصف ما حصل من أبن الزبير، من قتل المختار، وأشار الى انه حبس محمد بن الحنفية وأراد احراقه، ونفى عبد الله بن عباس.

يقول: ثم أتصل البلاء مده ملك المروانية الى الايام العباسية الذين ازالوا ملكهم بظلمهم وكانه يلجأ لتفسير التاريخ ويضع له فلسفة للحدث ومن وجهة نظر الخوارزمي أن قتل بني امية للشهيد زيد كان سبباً في زول ملكهم لأن الله غضب عليهم

5- ذم الدولة العباسية، واصفاً أبا مسلم بأنه وجد صلابة عند العلويين وليناً عند العباسيين وكأنه يريد القول أنه كان يخطط لكي يجعل من نفسه صانع الملوك وذكر أنه سلط خوارج سجستان على آل أبي طالب.

6- وصف (سياسة) المنصور الذي سماه الدوانيقي بأنه سجان لأهل بيت الرسالة وقاتل عبد الله المحض ويستمر في تعداد تضحيات العلويين.ويجري الخوارزمي مقايسة فيقول للشيعة في نيسابور (أنكم أعظم نصيباً في الدين من الأعمش () الذي شتموه، ومن شريك الذي عزلوه ()، وهشام بن الحكم الذي ضايقوه () ويستعرض أسماء المقتولين لحبهم آل البيت ويقول (وما فيهم الا من خر على وجهه قتيلاً أو عاش في بيته ذليلا يسمع شتيمة الوصي فلا ينكر وينتقل للجانب المالي والاجتماعي في زمن بني عباس ليقول يجبى فيء آل محمد ويفرق على الديلمي والتركي ويحمل الى المغربي والفرغاني، ويموت أمام من أئمة الهدى وسيد من سادات بيت المصطفى فلا تتبع جنازاته ولا تجصص مقبرته ولعله بقصد هنا الإمام جعفر الصادق المتوفي 148.

أما الجانب العلمي فيصفه الخوارزمي ويقول ويسلم فيهم من يعرفونه دهرياً أو سوفسطائياً ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً ومانوياً () ولكنهم يقتلون من عرفوه شيعياً ويسفكون من سمّي أبنه علياً.

وفي مجال الشعر فأنه يُشخص أنهم أحبوا الشعر الجاهلي الذي فيه هجاء لأمير المؤمنين ويرويها الواقدي في حين من يذكر مناقب الوصي من شعراء الشيعة فيقطع لسانه ويمزق ديوانه كما فعلوا بعبد الله بن عمار البرقي () وكما أريد بالكميت () وما حصل لأبن الزبرقان ()

ومقابل هؤلاء يعدد الخوارزمي الشعراء الذين وظفهم العباسيون لمدحهم وهجاء آل البيت وما اغدقوه عليهم من أموال.

ويخلص: الى نتيجة مهمة فيقول (ونحن - أرشدكم الله - قد تمسكنا بالعروة الوثقى وآثرنا الدين على الدنيا، وليس يزيدنا يصيره زيادة من زاد فينا، ولن يحل لنا عقد نقصان من نقص منا).

ثم يستشهد بمقولة عمار (لو ضربونا حتى نبلغ سعقات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل) ويزدرى كثرة مخالفيه وقلة موافقيه فيقول (ولو لا محنة المؤمنين وقلتهم ودوله الكافرين وكثرتهم لما امتلأت جهنم حتى تقول هل من مزيد).

ثم يتداخل كلامياً: لو لا المحن لما تبين الجزوع من الصبور ولا عرف الشكور من الكفور ولما أستحق المطيع الأجر ولا أحتقب العاصي الوزر ويرتب على ذلك (بأنه إذا إصابتهم نكبه فذلك ما اعتادوا عليه وأن رجعت لهم دولة فذلك ما ينتظرون).

وهنا يتبين أن الدول الشيعية التي ظهرت في القرن الرابع لم ترفع الأذى على الشيعة وان الخوارزمي لم يكن ممن يؤمن بحرمه تولى أمر الدولة كما هو معروف من موقف أسلاف الشيعة الأوائل.

ويتبين من مقاله الخوارزمي الاساس الاجتماعي بقوله وعندنا لكل حالة آلة ولكل مقامة مقاله فعند المحن الصبر وعند النعم الشكر.ويعود لاستعراض محن الشيعة التي لم تزلزل لهم عقيدة.

يقول الخوارزمي: (على الرغم من أن بني أمية أجهدوا أنفسهم في طمس فضائل علي (ع)، الأ أنهم لم يقدروا أن يدفنوا حديثاً من أحاديث الرسول ولا تحريف ايه ولقد كان ينادي على رؤوسهم بفضائل العترة.

ويستشهد بأبيات مدح ورثاء آل البيت كانت قد قيلت في اكثر أيام القهر والظلم قسوة ويعود ليعدد مثالب بني العباس لأنهم أستنصروا الغرباء على اهلهم ومنعوا آل أبي طالب ميراثهم وتصرف الى أبن مريم المديني () وإبراهيم الموصلي () وأبن جامع السهمي ().

يقول الخوارزمي (ان القوم الذي أحل الله لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة وفرضت لهم الكرامة والمحبة يتفككون ضراً ويهلكون فقراً... ليس له ذنب الا أن جده النبي وأبوه الوصي وأمه فاطمة.

ثم راح الخوارزمي يذكر مثالب الامويين والعباسيين ثم يقول (وأن تحامل علينا وزير أو أمير فأننا نتوكل على الامير الذي لا يعزل... ونسأله الا يكلنا الى أنفسنا).

ويعزنا من رعونة الحشويه، ولحاح الحروريه وشك الواقفية، وأرجاء الحنفية وتخالف أقوال الشافعية ومكابرة البكرية ونصب المكالية وإجبار الجهمية والنجاريه وكسل الراوندية وروايات الكيسانية وجحد العثمانية وتشبيه الحنبلية وكذب الغلاة الخطابية وبهذا يقدم الخوارزمي خارطة للأفكار والاتجاهات والمذاهب الموجودة في عصره ويؤشر لكل منها ما لا يراه صحيحاً.

الخلاصة وخاتمة البحث:

1- ظهر من رسالة الخوارزمي أنها ليست على درجة عالية من النثر الفني وأن أفكارها ومضامينها تتكرر بشكل يمكن أن يعزى الى الانفعال والاحتقان التاريخي بسبب عنف الدولة المسلط على جزء من المسلمين لدواعٍ مذهبية.

2- ظهر بلا تردد أن الرجل يعتنق التشيع ولكنه عائم بين التشيع الزيدي والتشيع الامامي، وبين أفكار لها صلة بالتشيع.

3- كشف الخوارزمي عن كونه داعيه للصبر والتحمل والثبات وأنه قد ذكر اخوانه بتاريخ طويل من القهر لم يقلل من عزيمتهم وتمسكهم.

4- وصف زكي مبارك رسالة الخوارزمي بأنها كالصاعقة على رؤوس الرؤساء.

5- استفاض الخوارزمي بتعداد آثام الخلفاء من بني أمية وبني العباس وأكد ما يتداوله الناس من أن قسوة العباسيين كانت شديدة.

6- كشف الخوارزمي سراً خطيراً وهو تجميع بني العباس أشعاراً وضعت بعد الاسلام ولكن على السنة شعراء جاهليين تهاجم علياً (ع) وآل بيته وقد رواها الواقدي ووهب بن منبه، وكشف إسماء الشعراء الذين ناصبوا آل البيت العداء مثل عبد الله بن مصعب ووهب البختري، ومروان الاموي وعبد الله بن قريب الاصمعي وبكار الزبيري وأبي السمط الاموي، مظهر أن السلطات شجعت أتجاهاً أدبياً يوظف ضد العلويين.

7- يستسيغ أن ينتمي للروافض مع ان الشيعة الامامية يرون هذا المصطلح قد أطلقه عليهم اعداؤهم وهم في الأصل من ترك بيعة زيد، بينما يبدو الرجل من اتباع زيد ومحبيه.

8- لم يذكر المهدي المنتظر الذي كان بإمكانه أن يمني الشيعة بظهوره وخلاصهم من عنت السلطة لعل عموم الزيدية لا يرونه كما يراه الامامية.

9- أستعمل تأخير علي بالخلافة، بينما السرديات الشيعية تستعمل غصب الخلافة.

10- ظهرت الرسالة موجة التشيع التي تنامت على مظلومية آل البيت أقامت دويلات شيعية لكنها لا تهتم بالعقيدة بقدر اهتمامها بمصالحها السياسية.

11- نقل أن معز الدولة ت (352هـ) أول من رعى أحياء طقوس الشيعة في محرم وعيد الغدير وتحسس غير الشيعة من هذه الطقوس فقامت نزاعات ومعارك بسببها في بغداد بحيث زادت في الشرخ الاجتماعي لسكان بغداد.

12- اشار الى اقتران المذهبية بالعنصر فكان البويهيون ديلم وهم شيعه، وكان العباسيون عرب وهم من السنة كما اشار الى أن البويهيون اعطوا للمذاهب الفقهية والمدارس الكلامية حريه التعبير فكان في زمنهم الباقلاني ت 403،والماوردي 450، والبغدادي 429.

13- لم يشر الى الامام زين العابدين والباقر ودورهم في رفع معنويات اتباعهما بوسائل نفسية كان يمكن أن تؤدي له الغرض وبجداره، مما يظهر أنه لا يملك معلومات عن الروايات عنهما في عصره أي أن المجاميع الروائية ظهرت في النصف الثاني من القرن الرابع كذلك الحال لم نجد ذكراً للجواد والهادي والعسكري والامام المهدي في رسالته.

***

ا. متمرس د. عبد الامير كاظم زاهد

 

في المثقف اليوم