دراسات وبحوث

عالم الأساطير في كتابات الدكتور خزعل الماجدي ومزاعم التناص في قصة الطوفان (2-3)

اياد الزهيريكما توضح من الجزء الأول من المقال أن قصة طوفان نوح هي حقيقة تاريخية، وقد ذكرنا الكثير من الشواهد والأقول لكثير من العلماء والباحثين الذين أكدوا حقيقتها التاريخية، وأود هنا أن أذكر الباحث الكبير الأستاذ فراس السواح في تعليقه على أس الأسطورة، وتأكيده على وجودها الحقيقي قائلاً (ليست الأسطورة وفق هذا الأتجاه (ويعني النظرية التاريخية في تفسير الأسطورة) نتاج الخيال المجرد، بل ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جارية عبرها أنتقلت ألينا تجارب الأولين وخبراتهم المباشرة، وهي تعود في أصولها الى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب) (مغامرة العقل الأولى ص24). فالأسطورة في الواقع هي حقيقة، سواء كانت بسيطة أو مركبه، ولكنها تحولت بفعل خيال الشعراء الى أسطورة تتسم بالطلسمة والألغاز، وتحولت بفعل مدونيها ذوي الخيال الجامح من عقلية الى خيالية، ومن اللوغس الى ميثلوجيا. وعلى سبيل المثال فأن اليهود من الأقوام الذين نسجوا على هذه الحقيقة التاريخية في منوالهم التخيلي، وهم من ضمن مايشتهرون به، هو الخيال الشعري، وهنا نستشهد بقول الباحث الفرنسي غوستاف لوبون، حيث يقول فيهم (لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة، ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليهود لم يأتوا قط بأي مساعدة مهما صغرت في أشادة المعارف البشرية، كما أنهم لم يجاوزوا أحط الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ) ولكنه من ناحية أخرى أشاد بقدرتهم الشعرية، وهذا ما جعلهم يبدعون في كتابة التوراة والتلمود.

يذكر المؤرخون أن تدوين ملحمة جلجامش والتي تحوي ضمناً أسطورة الطوفان البابلية بصيغتها الأقدم والتي تعود الى العصر البابلي القديم (2000-1600 ق.م) ولكن النص قد مر عبر فترة طويلة من التناقل الشفوي تقدر بالف عام أو أكثر، ومن الملاحظ أن ولادة نوح تسبق هذا التاريخ بكثير، فالنبي أبراهيم ولِد كما يذكر الأستاذ فراس السواح في عام 1800 ق.م (الأسطورة والمعنى ص329) في حين تذكر الوكيبيديا بين (2324 1850 ق.م) وأن النبي نوح سبق النبي أبراهيم بكثير، ولو نظرنا الى تاريخ تدوين ملحمة جلجامش التي تتضمن قصة الطوفان والتي يُقدر تاريخ كتابتها في 1700 م.ق، وهنا نرى الفارق كبير في الزمن بين النبي نوح وتارخ كتابة ملحمة كلكامش وفق المعطيات الموجودة لحد الآن، وهذا يؤكد أن حادثة الطوفان سبقت الزمن الذي دونت فيه ملحمة كلكامش 1700 ق.م، ويبدو أن الأقوام المختلفة من سومرية وبابلية وهندية وزرادشتية ويونانية وغيرها الكثير ممن كتب عن الطوفان، ونذكرهنا دراسة لأحد الباحثين المدعو (فان شوارز) الذي أحصر63 أسطورة من أساطير الطوفان في العالم (قصة الطوفان بين الحقيقة والأسطورة ص35)، ولكن هذا التناقل الشفوي الطويل بين البشر، وما طُبعت به من مطابع الخيال خلال هذا الزمن الطويل بين الحدث وتدوينه، وما ألبسوها من معتقدات وثقافة المجتمعات المحلية التي لا تمت بأي صلة للمعتقد أو الحادث الأصلي بأي صلة، فمثلاً الهنود كان لهم رواية للطوفان والتي جاءت في كتبهم المسمات (ساتاباثا براهما 700-300 ق.م) وهي قصة في مجملها قريبة من قصة فيضان نوح، والأختلاف كان في الشخصيات والأماكن، فالرجلين نوح ومانو كانا رجلين فاضلين، وكلاهما بنى سفينة، وكل واحداً منهم له ثلاث أولاد، فنوح مثلاً له (سام، حام، يافث) في حين كان لمانو قبل الطوفان أيضاً ثلاث أولاد هم (تشارما،شيرما، يابيتي\يافيتي)، كما كليهما رست سفينتهما على قمة جبل، والأمر كذلك في الرواية الزرادشتيه واليونانية مع فروقات شخصية ومكانية، وهذا يدل على ترسخ هذه الحادثة في ذاكرة وعقائد الشعوب المختلفة .

الذي يهمنا بالأمر هو ما يسوقه الدكتور الماجدي من تعسف واضح بالدفع الى أسطورية الحدث و تجريده من حقيقته الناصعة، وأن يضعه في حقل الأوهام، وهي واحدة من شطحات الدكتور خزعل الماجدي الكثيرة، وأسوق مثل واحد له، والذي يذكر في كتابه (أنبياء سومريون ص219 أن مدينة أريدو سكنها أدم وحواء والملك ألوم، في حين في ص 148 يقول أن أول ملك في أريد هو ألوم (أدم)) وياليت شعري ما الصحيح، هل آدم هو ألوم في صفحة ص148، أم أن آدم هو الشخص الثلث مع حواء وألوم؟ . كما من شطحات الدكتور خزعل الماجدي هو أدعائه بأن نوح ولد في حددود 2900 ق.م، وذلك في جدول التصريف الموجود في ص 371، في حين يرجح أن الطوفان حصل في 2900 ق.م في صفحة 383 في كتابه (أنبياء سومريون)، وهنا المفارقه، فهل يمكن لأنسان أن يبني سفينه وينجز هذه المهمة الصعبة، وهو قد يكون في هذه السنه في بطن أمه، أو عمره بضعة أشهر، وهذه أحد غرائب أستنتاجات الماجدي!. لم تتوقف مزاعم الماجدي وتناقضاته عند هذا الحد، حيث نراه يذكر في ص390 في كتابه المذكور أعلاه بأن الطوفان كان خاصاً، وكان مكانه الجغرافي هو منطقة شروباك (وهذه مدينة واقعة قرب الديوانية في وسط العراق)، ولكن بعد ذلك يقول بنفس الصفحة (ثم حين ينتهي الطوفان يظهر جبل... وتستقر السفينه على جبل نصير، الذي يرى بعض الباحثين أنه جبل (بيره مكرون)، طبعاً وليعلم القاريء أن هذا الجبل يقع في شمال العراق وتحديداً في منطقة السليمانية، والمسافة بعيدة بينهما، أذن فكيف يقول ان الطوفان بذات موقع محدود ويحصره في منطقة شروباك والمناطق المحيطة بها، ومرةً يقول ان السفينة رست على جبل بيرة مكرون. أن تتبعنا لشطحات وخربشات الماجدي سنجدها كثيرة، ومنها أنه يرجح بأن التوراة قد حددت زمن الطوفان من رواية برعوشا الذي كتبها المؤرخ (بيروسوس)، في حين أن هذا المؤرخ عاش في القرن الثالث ق.م، وأن التوراة كُتبت في القرن السادس ق.م، والسؤال : هل السابق يأخذ من اللاحق، أم اللاحق يأخذ من السابق!، وقذ ذكر ذلك في كتابه (أنبياء سومريون ص392) أن (التوراة قد حددت هذا الزمن من هذه الروايه).

فلو تتبعنا أستنتاجات الدكتور الماجدي لعرفنا مدى ضعفها وتهافتها، فهو يزعم أن أسطورة الطوفان التي تذكرها التوراة مستوحات من الأسطورة البابلية وذلك بحكم تواجد اليهود في بابل بسبب الأسر البابلي لهم . وبالمناسبة ليس الماجدي وحده من يدعي ذلك بل هناك الكثير من عرب وأجانب. أذن ينبغي أن تكون الروايتين متشابهتين بحكم التناص الحاصل بينهم، وان اليهود قد أستوحوا ذلك من البابلين، ولكن ما نجده في الملحمه البابلية التي هي بالأصل سومرية الأصل، تذكر أن الاله انليل منزعج من كثرة وضجيج البشر، في حين تذكر التوراة أن الله أنذر البشر عدة مرات بسبب طغيانهم، وأنذرهم بالعذاب أن أصروا في عنادهم وكفرهم وفسادهم، (كلم الرب متوشلح ونوح من جديد قائلا: "مرة أخرى أدعيا البشرية الى التوبة. كررا النداء قبل أن يحل عقابي بالناس، غير أن الناس لم يصغوا، بل تجاهلوا كلمات الأنذار) (أنبياء سومريون ص398)، وهنا فارق بين الروايتين في سبب الطوفان، أذن كيف الزعم بتناص غير منسجم، ومختلف مع بعضه في الهدف والغاية وكثير من التفاصيل . هنا أرجح أن الأثنين وأعني السومريون وكتبة التوراة قد أستسقوا معلوماتهم من التاريخ الشفوي الذي سبق الأثنين معاً، وهذا لا يعني أن أدعي بأن اليهود لم يتناصوا تماماً مع البابليون الذين تساكنوا معهم في بلاد بابل، لأني أومن بأن الأسفار التي يدعيها اليهود هي أسفار لا تمثل كتاب موسى ع وأنها من نتاجات حاخاماتهم، ومن متبنيات أفكار رجالاتهم، ولا علاقة لموسى بها.، وهناك الكثير من الأدلة على ذلك والتي يمكن الأطلاع عليها في كتب كثيرة تناولت هذا الموضوع، ثم من الملاحظ أن أتراحاسيس البابلي وهو نفس (أوتانابشتم) والذي يقابل نوح في التوراة والقرآن يكون وقد أكتسب الخلود، حيث يذكر الماجدي في كتابه (أنبياء سومريون ص389) عن أوتانابشتم (بأنه أتى بفعل عظيم وأنقذ البشرية من الطوفان فمنحته الخلود في دلمون. في حين أن نوح لم تذكره التوراة ولا القرآن بأنه من الخالدين،فأين التناص في ذلك ؟!. نذهب الى أمور أااخرى في كلا الروايتين البابليه-السومرية والتوراتية، حيث نجد كذلك هناك أختلاف في وصف السفينة، فمثلا يذكر لوح الطوفان الصغير الذي يعود للعصر البابلي القديم، والذي يصف سفينة الطوفان بأنها دائرية الشكل، ومصنوعة من الالياف النباتية (أنبيا سومريون ص388)، حيث جاء باللوح (هدم بيتك وأبن مركباً، اترك ماتملك، وخلص حياتك، ادفع المركب الدائري (القفة) الذي بنيته، وليكن طوله مساوياً لعرضه). في حين جا في التوراة وصف آخر مخالف تماماً، حيث تذكر التوراة المواصفات التي يبينها النص التوراتي (وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاه) (أنبياء سومريون ص 395)، وليس هذا فقط، ففي الأسطورة البابلية تكون مادة صنع السفينه من القصب أو الحشيش، في حين مادتها في التوراة من الخشب (اصنع لنفسك فلكاً من خشب جُفر...) (انبيا سومريون –التوراة الفصل السادس ص395). كما نستطيع أن نسوق عامل أخر للأختلاف بين الروايتين السومرية – البابلية ونص التوراة، الا وهو زمن الطوفان، حيث يذكر الفصل السابع من التوراة (لأني بعد سبعة أيام أيضاً امطر على الأرض أربعين يوماً وأربيعين ليله...) أنبيا سومريون ص 400) في حين أن مدة الطوفان في الأسطورة الرافدينية تكون مدة الطوفان سبعة أيام من جدول مقارنة لمضمون قصة الطوفان (أنبيا سومريون ص410)، وكما جا أيضاً في ملحمة زيوسيدرا السومرية (وبعد ذلك، غمر الماء(الكوفان) الأرض واستدام ذلك سبعة أيام وسبع ليال...) (أنبيا سومريون ص 385)، وهكذا نكتشف الأختلافات الكثيرة بين الروايتين التي تدل دلاله واضحة على أن مصدر قصة الطوفان ترجع الى أصل قديم سبق الملحمة البابلية وما كتبه مدوني التوراة، ولكن كل صاغها بطريقته وأضفى عليها عناصره الثقافية الخاصة به، وهكذا قلنا في البداية أن الأسطورة تبدأ حقيقة، ولكن مع مرور الزمن تنسج الأقوام عليها من مخيلاتهم ويلبسوها ثوبهم الثقافي ويتبلوها بتوابلهم ليعطوها طعماً خاصاً بهم . لم تقف الأختلافات في الروايتين عند هذا الحد بل شمل حتى أسماء نوح وآباءه، فمثلاً نوح يقابله زيوسيدرا في الرواية السومرية وأتروحاسيس في النسخة البابلية وحتى أوتانابشتم، كما أن أب أتروحاسيس هو شروباك في الملحمة البابلية، في حين تذكر التوراة أن أبو نوح هو لامك، وقد جاء في التوراة سفر التكوين الفصل الخامس (وعاش لامك مئة واثنين وثمانين سنةً وولد أبناً ودعا أسمه نوحاً...) (أنبياء سومريون ص388). قد يقول قائل أنك ذكرت في البداية أن كل روايات الطوفان لها نفس السيناريو ولكن بأسماء وأماكن مختلفة، وهذا ما ينطبق على الروايتين البابلية – السومرية و التوراتية. هنا الأمر مختلف لأن الأختلاف بالأسماء ممكن وطبيعي عندما تكون الملاحم والروايات تنشأ في مناطق بعيدة، كملحمة طوفان مانو، وملحمة طوفان الأغريق، والرواية الزرادشتية، ولكن اليهود أمرهم مختلف لأنهم عاشوا بنفس بيئة البابليين وتشربوا بثقافتهم، خاصة وأن الماجدي يذكر بأن اليهود عاشوا بين ظهراني البابليون (لقد عاش اليهود بين البابليين أيام السبي، وتأثروا بدينهم تأثراً عميقاً..أنبياء سومريون ص408)، فلماذا أذن أختلفوا في الكثير من تفاصيل سردياتهم، وهذا ما ينفي الأعتقاد بحصول التناص بينهم في هذا الشأن تحديداً .

أن ما أنوي الوصول أليه من كل ماذكرته في هذين الجزئين وفي مقالات سابقة هو أن النص الأصلي هو أصل ديني سماوي، وهو المنتج الحقيقي له، وهو من سبق كل هذه النصوص سواء كانت توراتية أو سومرية وبابلية، وأغريقية وهندية، ونصوص أخرى من أنحاء العالم، وأن هذه النصوص اللاحقة هي تمثيل، وسلخ للنص الأصلي السابق، الذي تواجد في أزمان سحيقة، وهو الأب الشرعي لها، ولكن ينبغي التنبيه الى أن المعتقدات الغير سماوية، والتي ذكرت الطوفان هي كتابات تناصية، في حين أن الأديان السماوية هي نصوص أكدها الوحي، ولا يمكن أن نوصفها بالتناص لأنها نبعت من مصر واحد، لأن التناص يحدث بين طرفين مختلفين، الأول منتج والأخر منتحل ومستنسخ للأصل، ومعيد لأنتاجه. كما أن من الأهمية بمكان أن أُشير الى أني لم أتطرق للمقارنة بين هذه النصوص والقرآن الكريم، والسبب أن القرآن يختلف كثيراً في معرض تعرضه لقصة الطوفان، فهو لم يتطرق للتفاصيل التي تطرقت لها كل قصص الطوفان لأن القران فلسفته التذكره والعظه وليس التفاصيل التاريخية، كما أن الأختلاف أيضاً يأتي من نصه كُتب مباشرة حين نزوله مما أبعد عنه شبهة التحريف، وخير دليل على تفرد القرآن الكريم هو أن أبن نوح الذي عصى نصيحة أبيه لم توجد بكل ما كُتب بالسرديات السابقة سماوية الأدعاء أم بشرية . فالقرآن لم يدخل في عملية ترحيل النصوص، ولم يستدعيها من نصوص سابقة، أو يكون صدى لفكرة سابقة ولكن للأسف أُستخدم مفهوم التناص كسلاح عند البعض يبغي فيه زرع الشكوك في العقائد السماوية بدوافع قبلياتهم الأيديولوجية، أو خدمة لمؤسسات تندبهم لذلك كأداة من أدوات الحرب الناعمة على الأديان، أو قد يكون وهم في أذهان هؤلاء الباحثين، أو رجاء بالشهرة دفعت بهم الى هذه المزاعم التي يعتريها الكثير من الحلقات المفقودة، والربط المشوش، والذي يزيد من هذا الأعتقاد هو أعتراف الكثير من الباحثين بأن هناك الكثير من الألواح والآثار المفقودة، والتي تحمل الكثير من الدلائل والمعارف والتي قد تقلب الكثير من القناعات الموجودة في وقتنا هذا، وأخيراً أذكر كلام لعبد القاهر الجرجاني اللغوي المعروف، حيث يقول (مجرد التشابه في الفكرة أو المعنى العام أو حتى الصورة البيانية أو المخترع المبتدع من الأستعارة لا يكفي في الأدانة بالسرقة) قضايا النقد الأدبي القديم والحديث – محمد زكي العشماوي ص398). كما من الضروري للقاريء أن أُكد له بأنني لست ضد تنقية ونقد التراث، ولكني ضد تزيفة والتجني علية وتحريف معانيه ومقاصده .

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم