دراسات وبحوث

الله والإنسان.. إشكالية العلاقة الوجودية وإستحالة الإدراك

سليم جواد الفهدنفتتح القول بتعريف الإشكالية وبيان اشتقاقها، فالإشكالية لغة مشتقة من الفعل (أشكل)، تقول (أشكل عليه الأمر) أي اختلط والتبس، و(الإشكال) هو الالتباس، الذي يعني عدم الحسم في موضع الاشتباه لعدم توفر دليل قاطع. و(الإشكالية) هي: صفة لقضية من القضايا التي لا يظهر فيها وجه الحق، ويمكن أن تكون صادقة إلا انه لا يقطع بصدقها، وهذا معناه إن الحكم فيها ليس ضرورياً وإنما هو حكم احتمالي يحتمل السلب والإيجاب أما الإشكالية اصطلاحاً فنتفق مع تعريف الجابري بأنها "منظومة العلاقات التي ننسجها، داخل فكر معين، مشاكل عدة مترابطة لا تتوافر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل من -الناحية النظرية- إلا في إطار حل يشملها جميعاً. وبعبارة أخرى إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري"(1).

وعدم الاستقرار هذا هو الذي يحكم استعمال المفاهيم وتحديد الرؤى والوصول إلى استنتاجات، وحين نقوم بدراسة الإشكالية وذلك بسبب تعقيداتها وتشابكها بالمقدس والديني، مما يجعلها في الكثير من الأحيان من المحرمات أو (التابو)، وبخاصة لو حاول الباحث أن يوجّه نقداً. وعلى الرغم من أن الإشكالية عنوان الورقة، في جوهرها (فلسفة) صرفة، إلا أن تحليلها ونقدها يفسر عند الكثيرين بأنه نقدٌ للدين نفسه، لذا يكون الباحث في أحوال عدة مجبر على القبول بالحكمة التي تقول "ما كل ما يعرف يقال".

تاريخ العلاقة:

عرفت تجليات المقدس وأشكال التدين عبر التاريخ تنويعات عدة تدل عليها الحفريات والاكتشافات الأثرية المتوالية وتدل عليها معتقدات الشعوب البدائية، من الاحتفالات الطقوسية بالدورة السنوية المنظمة في جل المجتمعات الزراعية في أول المواسم الإنتاجية ونهايتها، مروراً بالطقوس المتعلقة بالموت والأحداث الهامة في الحياة مثل الولادة والزواج والمرض إلى تقديس الأشجار والظواهر الطبيعية كالشمس والقمر وبعض الكواكب إلى عبادة الأوثان وتأليه الملوك. وقد تعبد الإنسان بالدين حسياً في البدء، فكان يعبد كل مصدرٍ للخير حتى يستزيد منه، وكل مصدر للشر حتى يسترضيه ويتقي شره، ولكن ما يعنينا من هذا التاريخ هو خاصية المراحل الكبرى التي مرَّ بها الإنسان وهو يبحث عن معنىً لوجوده على وجه هذه البسيطة، ويسعى إلى معرفة مبدأه ومصيره وينتج نظاماً للأشياء ينقذه من فوضى الكائنات الظاهر. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا في عالمٍ منظم، ولذلك لابدَّ له من أن يدخل عقلياً نوعاً من الانسجام على الظواهر الطبيعية والبشرية في الآن نفسه ومن أن يجد لها مبررات كافية تجعلها في منأى عن الاعتباطية. وهو إذ ينتج عناصر هذا النظام إنما يبدع ما يميزه عن الحيوان، انه يبدع الثقافة والثقافة بهذا المعنى تشمل المنجزات المادية والمعنوية معاً، إلا أن هذه القيم التي يبتكرها تكتسب بمرور الزمن استقلالية عن منشأها فتصير مُسلَّمةً من المسلمات، فيتبناها الإنسان ويخضع لها ناسياً انه هو الذي أنتجها (وهكذا باستمرار تكون منجزات الإنسان منطلقاً لمنجزات جديدة تكتسب بدورها صيغة موضوعية تجعلها قائمة بذاتها فتدخل بصفتها تلك في جدلية وتفاعل مستمرين وهذا يجعل الإنسان في العصور القديمة غارقا في الاستلاب غير الواعي لمغزى أعماله وسلوكه الحقيقي سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي)(2).

وعلى سبيل المثال، فالإنسان يضع القواعد والضوابط للعلاقات الجنسية وهي ضوابط موجودة في كل الثقافات، مع اختلاف كبير أحياناً فيما بينها ليحدد ما هو جائز ومشروع وما هو محرم أو ممنوع، ثم تصبح هذه الضوابط من مكونات ثقافته وجزء من بناء شخصيته عن طريق التنشئة الاجتماعية المستمرة والمتدرجة، لتصبح قواعد أخلاقية بالبداهة لا يخرقها الفرد ولو فكر مجرد تفكير في خرقها فانه سيشعر بالذنب وتوبيخ الضمير، وقس على ذلك سائر علاقاته الاجتماعية فالالتزام بالقوانين والقواعد الأخلاقية السائد في المجتمع الذي ينتمي إليه التزاماً تاماً، يؤدي به إلى القبول بالأمر الواقع، من غير أن تخامره فكرة معارضته والخروج عليه، بل قد يصل به الأمر أحياناً إلى التضحية بالنفس عن طيب خاطر في سبيل احترامها، وقد أدى الدين تاريخياً دوراً أساسياً في عملية التبرير هذه، فهو يمنح المؤسسات الاجتماعية صلاحيات تتجاوز واقعها، إذ يضعها في إطار مرجعي يتسم في الآن نفسه بالقداسة والعمومية، أي إنها من هذا المنظور تشكل انعكاساً وتجلياً لشكل علاقة الله بالإنسان وإرادته، فالله لا يريد أن يضع قواعد وقوانين لا تتناسب مع ما يريده الإنسان. هكذا كان يظن المتدين البدائي وهو يتلمس طيف المطلق ويرسم شكل علاقته به طيلة الفترات التي سبقت التاريخ بمعناه المعهود وبالخصوص قبل اكتشاف الإنسان للكتابة، ونشأت المنظومات الدينية التاريخية المتطورة والمعقدة.

تلك العلاقة إذن كانت محكومة بإطار الجهل زائداً الخوف، فالخضوع.

ديانات التوحيد:

أولاً: التوراة

الجدير بالملاحظة أن رواسب الديانات البدائية الهندية والآسيوية عموماً، قد بقيت في المنظومات التوحيدية وما زالت آثارها واضحة في الكتاب المقدس لدى اليهود أو المسيحيين، من ذلك مثلاً الإقرار بالصيغة السحرية لمفعول الكلمة التي يتفوه بها الإنسان في ظرف ما، والاحتفاظ بإحدى خصائص الانطولوجيا القديمة المتمثلة في انه لا وجود حقيقي للنبات والحيوات إلا عندما تطلق عليها الأسماء، والاحتفاظ كذلك بفكرة خلق الإنسان من طين المعروفة في المعتقدات السومرية ومن بين العناصر المبثوثة في قصة الخلق التوراتية، ويمكن أن نشير إلى أن خصائص الجنة فيها تذكر بمتخيل بلاد ما بين النهرين وأنها تحتوي على عناصر بابلية واضحة كما أن أكل (آدم) من الشجرة الدال على فشل الإنسان في الحصول على الخلود يذكرّ بفشل كلكامش في تحقيق هذا الهدف، أما الهدى الذي تتحدث عنه التوراة فينتمي إلى منظومة التقرب الكنعانية حيث تعتبر القرابين طعام الآلهة، وكانت الحجارة المنصوبة رمزاً للحضور الإلهي معروفة قبل التوراة لدى عرب الجزيرة وأمامها تذبح القرابين... إلى غير ذلك من الرموز الدينية والطقوس التي كانت معروفة في المنطقة واحتفظت بها التوراة ولكنها أسندت إليها دلالات جديدة.

وإذا كان الإيمان بإلهٍ واحد يمثل المعطى الجديد في اليهودية، فإن التوراة لا تنفي وجود الآلهة فقد كان (بعل) اله الكنعانيين ثم اختلط الإيمان به عند اليهود بالإيمان بـ(ايل) وبـ(يهوة) وصار إلهاً واحداً، والصورة التي تقدمها التوراة لـ(يهوة) تشبه الإنسان في خصاله فهو يحب ويكره ويفرح ويحزن ويعفو وينتقم. ولكي نفهم إشكالية التوحيد في التوراة علينا أن نضع ابتداء الفرق بين مفهومين دينيين يجري الخلط بينهما في معظم الأحيان وهما: 1-مفهوم التوحيد. 2-مفهوم وحدانية العبادة. فالتوحيد هو الاهتداء إلى فكرة الله، والله ليس إلهاً أعلى شأناً من بقية الآلهة المتحكمة في مظاهر الطبيعة وما وراء الطبيعة فقط، بل هو الإلوهة الوحيدة الخافية المتبدية في كل مظاهر الكون والطبيعة، انه العلة الأولى والمآل الأخير. أما وحدانية العبادة فهي شكل من أشكال التعددية (الشرك - الوثنية) تتميز بعبادة اله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة التي لا يُنكر وجودها، وإنما تستبعد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعهود)(3).

اعتماد على هذا التمييز بين المفهومين يمكننا القول بان المعتقد التوراتي كان معتقداً لوحدانية العبادة، لا معتقد توحيد بالمعنى الدقيق للمصطلح، وأن الانتقال من المفهوم الأول إلى الثاني لم يتحقق تماماً في أسفار الأنبياء التي وصلت إلى عقبة التوحيد دون أن تتخلص من الإرث والايديولوجيا التقليدية.

نشأت وحدة العبادة في التوراة عندما قام (يهوة) بإبرام عقد بينه وبين إبراهيم الجد المفترض لبني إسرائيل ولو أن الدراسات الحديثة أثبتت بشكل غير مشكوك فيه عدم صلة وعلاقة إبراهيم باليهود- راجع بذلك بحثاً ممتازاً للدكتور (سيد القمني) بعنوان ((النبي إبراهيم والتاريخ المجهول))- ومضمون هذا العقد (الذي سمي عهداً) هو أن يعبد إبراهيم وذريته من بعده الإله (يهوة) من دون بقية الآلهة مقابل تقديمه الحماية والعون لهم وإعطائهم أرض كنعان (فلسطين) ملكاً لهم بعد انتزاعها من أهلها، إذ نقرأ في سفر التكوين عن أول صيغة لهذا العقد بين (يهوة) وإبراهيم:

(وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبدياً، لأكون اله لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسل من بعد أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً، وأكون إلههم) 17: 7-8.

ثم يجدد (يهوة) عقده هذا مع إسحاق وابنه يعقوب، وبعد ذلك بأكثر من أربعمئة سنة يعود إلى تجديد العهد مع موسى وشعبه لقاء إخراجهم من مصر وتحريرهم من العبودية، نقرأ في سفر الخروج وعلى لسان (يهوة): "قد سمعت أنين بني إسرائيل وتذكرت عهدي لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين واتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وأعطيكم إياها ميراثا" 6:6-8(4).

وعلاقة (يهوة) بعباده علاقة مباشرة، فهو لا يتصل بهم عن طريق الوحي بل يزورهم بشحمه ولحمه ففي سفر التكوين نجده يقوم بزيارة إبراهيم ومعه اثنان من أتباعه، نقرأ في إصحاح 18: "وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة في حر النهار فرفع عينيه وإذا بثلاثة رجال واقفون لديه فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل الماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة فاخذ كسرة خبز فتسندون ثم تجتازون فقالوا هكذا نفعل" 18:1-5.

التشبيه واضح في هذا النص فـ(يهوة) في هذا النص رجل وله أرجل، ويأكل كسرة خبز، فهو إنسان بكل صفاته غير منزه عن صفات البشر، وان كان التنزيه ملازماً لمفهوم الله الواحد المتعالي عن الوصف، فإن التشبيه ملازم لمفهوم التعددية. بعد ذلك يظهر (يهوة) ليعقوب حفيد إبراهيم في الليل ويصارعه، إذ نقرأ في سفر التكوين32: "فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر ولما رأى انه لا يقدر عليه، ضرب حُق فخذهِ، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك، فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: اخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي وباركه هناك" 32:22-30.

والنص أعلاه يصف (يهوة) صراحة بأنه إنسان لكنه للأسف لا يجيد فن المصارعة لذلك تغلب عليه يعقوب وصرعه واخذ البركة منه رغم انفه. لا أريد أن أطيل من الاقتباسات عليكم فالتوراة مليئة بهذه الترهات والخرافات والمهم هو أن نستنتج شكل العلاقة وهي كما تبدو من هذه النصوص:

1. علاقة مباشرة بلا واسطة (وحي).

2. علاقة تشبيه وليس علاقة تنزيه، فالله في التوراة إنسان، أي أنها لم تصل إلى التوحيد الخالص.

3. علاقة استحواذية فـ(يهوة) يريد أن يستحوذ على بني إسرائيل ليعبدوه هو فقط من دون بقية الآلهة مقابل استحواذهم على أرض فلسطين.

4. إنها علاقة تبدأ في الأرض وتنتهي في الأرض فالتوراة لم تعرف البعث والحياة الآخرة في مراحلها الأولى.

5. إن (يهوة) إله قومي خاص بشعب معين هم بني إسرائيل وليس إله كوني.

ثانياً: الإنجيل

عندما ظهر (عيسى) في فلسطين لم يكن معاصروه ينظرون إليه إلا من خلال متصور النبوة المتاح يومئذ في الأوساط اليهودية، يضاف إليه انتظار (المسيح) المخلص لشعبه، والعلامة على قرب انتهاء الدنيا وحلول الزمن السعيد الذي يرعى فيه الذئب مع الخروف فلا يضرّه، أما العلاقة المفارقة بينه وبين الله هو فكرة التجسد الإلهي في شخصه وصلة ذلك بمفهوم الكلمة أما مفهوم الفداء فكان من إنتاج الأجيال الأولى من المسيحيين بعد أن انفصلت الكنيسة عن البيئة اليهودية تحت تأثير بولس بالخصوص.

لم يبشر يسوع بإلهٍ جديد، بل كان ظاهر تعاليمه تشير على الدوام إلى إله العهد القديم، ومع ذلك فقد أحدث انقلاباً داخل المؤسسة الدينية اليهودية أعظم أثراً من كل ما فعله الفكر المنحول والفكر الغنوصي اليهودي على حد سواء. لقد أسس لعهد جديد بين الله وجميع بني الإنسان بين الأب السماوي وجميع أبنائه من البشر وألغى العهد القديم عهد (يهوة) مع بني إسرائيل فإله يسوع هو الإلوهة السرمدية فيما وراء الزمن وهو خالق العالم وصانع التاريخ المتعالي ولكنه مرتبط مع العالم والإنسان برابطة الحب وملتزم بخلاص العالم والإنسان منذ اللحظة التي داخل البشر نسيج العالم الحسن والطيب والحق والعدل والخير ومنبع الخير واحد ولا ثاني له.

وهو فوق كل شيء إله أخلاق يأمر بها ويكافيء عليها ولا يطلب من الإنسان سوى الإيمان والعمل الطيب وهما المرتكزان الرئيسيان للعقيدة المسيحية)(5).

ظهرت المسيحية كثورة لمواجهة وضعين هما: *الوضع اليهودي.

*الوضع الروماني.

أما عن الوضع اليهودي فقد أعلن يسوع انه جاء لإكمال الناموس، والمقصود بالناموس (شريعة موسى)، على إن قوله يجب أن يؤخذ كمسعى توفيقي يخفي حقيقة الانشقاق على التعاليم اليهودية، إذ الصحيح انه جاء لتعديل الناموس لا لإكماله، ويدخل هذا في باب النسخ، نسخ الشرائع، والنسخ على كل حال ليس إلغاء وإنما تعديل.

نسخ المسيح من ناموس موسى الأمور التالية:

1. العقوبات المفروضة على المخالفات الأخلاقية كالزنا وهي شنيعة في اليهودية.

2. الطقوس وهذه جعلها تابعة للفرائض الاجتماعية وأعطاها المرتبة الثانية من الاهتمام ودعا إلى تخفيف الصلاة والأدعية والاقتصار فيها على عبارات قليلة.

3. ألغى شعائر السبت وأجاز العمل فيه على انه لم يضع يوم عطلة بديل أما عطلة الأحد فليس من تشريعاته.

4. تحريم الطلاق وقد اعتبر العائلة وحدة مقدسة لا يجوز تفكيكها بالطلاق.

أما عن الوضع الروماني: فثورة المسيح كانت ردا على قوانين ونمط حياة العبودية الرومانية. نقرا في إنجيل لوقا:

"روح الرب عَلي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي المأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، وأرسل المُنسحقين الحرية" لوقا 4:18 (6).

معروف إن المسيح ترك (مالقيصر لقيصر) ودعا أتباعه إلى دفع الجزية المفروضة عليهم من قبل الرومان ونحن نفترض انه لم يكن موافق على هذا الابتزاز فهل قرر ذلك عن تكتيك اعني تقبله من موقع ضعف وهو في بدايات تحركه كما تفعل أي قيادة جديدة في تعاملها مع القوى السائدة في محيطها.

ففي انجيل متى نقرأ هذا التوجيه: "تعلمون إن رؤساء الأمم يسود فهم العظماء يتسلطون عليهم فلا يكون هكذا فيكم بل من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم، فليكن لكم عبداً" 2:25-28(7).

إن من يترك (مالقيصر لقيصر)، لا يتحرش به على هذا النحو المذكور فهو لاشك يدين التسلط الذي تفرضه الدول على رعاياها، حيث تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة عبودية بين مالك ومملوك، ثم يقدم البديل الإنساني لهذه العلاقة فيجعل عظماء المؤمنين خدماً لهم، ويشترط على من يريد الصدارة، أن يكون عبداً لمن يتصدر لهم، وان لا يقبلوه هم إلا بهذا الشرط.

كذلك رفض السيد المسيح ابوة الدولة الرومانية ونهى أتباعه أن يخاطبوهم بكلمة سيد، وهو يقول أن ثمة أب واحد، وسيد واحد هو الذي في السماوات... هكذا فهو لم يكن ينوي تأسيس دولة.

ويمكن الاستنتاج من ثم انه فكر في إقامة مجتمع داخل مجتمع الدولة تحكمه الأصول المشاعية: توزع الأموال بين أفراده حسب حاجاتهم وتجمع بينهم علاقات متكافئة غير تلك السائدة في الدولة أي انه مجتمع لا يتألف من حكام ومحكومين وعبيد وأسياد ومالكين ومحرومين. استمرت ثورة المسيح بعده بقيادة الحواريين. والرسول بولس هو مؤسس الديانة المسيحية الرسمية وهو مُنشيء الكنيسة بصورتها التي تطورت اى اليوم.

إضافات بولس على المسيحية:

1. جعل الكنيسة محور النشاط الديني أي مأسسة المسيحية.

2. إنشأ عقيدة الثالوث المقدس وجذورها موجودة في الأناجيل لكن بصورة مغايرة، إذ ميزت الأناجيل الله والرب: جعلت الله هو الإله الواحد والرب هو يسوع ابنه الروحي.

3. اعتراف بالأغنياء لكونهم قابلين للإيمان إذا كانوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع.

4. ثبت رابطة العبودية ودعى العبيد إلى الخضوع لساداتهم وإرضائهم في كل شيء.

5. ثبت رعوية المؤمنين للدولة وحرم العصيان وقال: من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. الإقرار بالعائلة الأبوية الصارمة التي تخضع فيها المرأة والأولاد إلى سلطة الرجل(8).

ليس في الأناجيل شيء مما في رسائل بولس وكان معروفاً للكتاب المسلمين أن بولس بدلّ دين المسيح إلا أنهم استمروا في الطعن بالأناجيل والقول أنها محرفة تبعاً للمأثور الإسلامي، إذ قد فاتهم أن يتبينوا الفروق الكبيرة بين مضمون الأناجيل ومضمون رسائل بولس فالأناجيل حقيقية فيها صورة المسيح الحقيقي.

أما رسائل بولس فهي وحدها المحرفة بالقياس إلى الأناجيل، وهذا طبيعي أن العقيدة الدينية لا تنشأ في فراغ ثقافي تام، فلابد للعقيدة الجديدة في أن تستوعب الفكر السائد في الثقافة التي تنشأ فيها، فتستفيد منه، ومن المفاهيم والصور والنماذج الراسخة في الضمير الشعبي تصب أفكارها الجديدة فيها وتعطيها معاني وأبعاد جديدة ثم تتجاوزها نحو تركيب مغاير كل المغايرة، فعلاقة الله بالإنسان في المسيحية هي تجاوز وتركيب مغاير لما في التوراة وهي مرسومة بالشكل التالي:

1. الله خالق الإنسان والعالم وصانع التاريخ والإنسان مخلوق لله.

2. الله سرمدي متعالي فوق الزمان والإنسان فان زائل.

3. الله هو الأب ويرتبط مع الإنسان برابطة الحب.

4. الله هو العدل والخير ومنبع الخير والإنسان ظالم وشرير ومنبع الشر.

5. الله هو المخلص من الخطيئة وعلى الإنسان أن يعترف بالخطيئة لكي ينجو من الخطيئة والآثام، وهذا مقارنة بالتوراة أساس لعقيدة أصيلة ذات تتابع كوني إنساني بعيدة عن التعصب والقول الشوفيني، وهي في ذلك الزمن البعيد تعتبر ثورة حقيقية في سبيل خلاص الإنسان.

ثالثاً: القرآن

لم تكن شبه الجزيرة العربية عموما ومنطقة الحجاز على وجه الخصوص معزولة عن التيارات الدينية والثقافية الموجودة في الشرق الأدنى كله سواء في بلاد الشام وفلسطين أو في مصر أو في بلاد الرافدين وبلاد فارس المجاورة فلم تكن هنالك حدود جغرافية سياسية بالمفهوم الحديث فالحدود فاصلة بين مختلف الأمصار وعازلة لبعضها عن بعض وكانت التجارة وما ينشأ عنها من تعارف متبادل وتأثر وتأثير مستمرين قائمة بين السكان. وقد كان الحج من جهة والأسواق من جهة أخرى مناسبات لامتزاج العديد من المعتقدات والأديان وتلاقحها "وهو ما يحتم النظر إلى ظهور الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي على أساس انه امتداد طبيعي للظاهرة الدينية التوحيدية التي عرفتها المنطقة مع اليهودية والمسيحية فحسب بل كذلك وفي الآن نفسه على انه تواصل للظاهرة الدينية عموماً عبر التاريخ البشري، ذلك من دون إهمال العوامل البيئية الظرفية الخاصة بمكة وما جاورها"(9).

"فقد بدأت مقومات الاجتماع القبلي تضعف بحكم صعود مكة إلى مرتبة من القوة والنفوذ والتنظيم جعلتها مركز إشعاع ديني واقتصادي على كامل الجزيرة وكان للحروب الدائرة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وضعف اليمن دور أساسي في تحويل طرق التجارة العالمية يومئذ في آسيا وأوربا وأفريقيا واستئثار قريش بها لا سيما أن تجار قريش نجحوا عن طريق (نظام الإيلاف في تأمين القوافل المحملة بالبضائع وإشراك القبائل التي تمر هذه القوافل عبر مناطق نفوذها في فوائد هذه التجارة"(10).

إن هذه التغيرات التي طرأت منذ القرن السادس الميلادي على أنظمة شبه الجزيرة العربية ستكون ذات تأثير عميق في مستوى الحياة الدينية، فقد هيأت عدداً من الأفراد للبحث في صيغ دينية أكثر ملائمة للوضع الجديد وبعبارة أخرى كانت الفترة التي ظهر فيها الإسلام فترة تحول على مختلف الأصعدة، فترة شبيهة بالفترات التي تستدعي في طبيعتها الأفراد الذين يحملون أملاً رحباً ويفتحون الآفاق المسدودة، فكان النبي (محمد) هو الذي قام بهذه المهمة، وكتاب النبي محمد هو (القرآن)، ومع (القرآن) نصل إلى تصور جديد للتوحيد هو: نفي الشيئية، فـ(الله) "ليس كمثله شيء"(11).

ونقرأ في سورة الإخلاص {قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.. ولم يكن له كفواً أحد}.

كما خالف القرآن التصور الذهني السابق لله في عقل الإنسان الذي على أساسه كان يقيم علاقته مع الأصنام، "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"(12)

وبذلك ألغى القرآن أي واسطة بين الله والإنسان، لتكون العلاقة المباشرة والعبادة خالصة لله وحده. نقرأ في سورة الروم {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}(13).

كانت العرب تعتقد أن لله شركاء في مُلكِه، والنفي القرآني لهذا الاعتقاد يأتي في صيغة تخاطب هؤلاء القوم ومنطق يعتمد البرهنة على فساد هذا الاعتقاد فضرب لهم مثلاً من أنفسهم قوامه عرض واقعهم مع عبيدهم وهم معهم سواء في الإنسانية فيتوجه إليهم بالسؤال في ما إذا كانوا يشاركونهم الرزق، ويبين القرآن أن الأسياد هؤلاء يرفضون الشراكة مع العبيد في رزق يأتيهم جميعاً من عند الله، فكيف لله أن يكون له شركاء من عبيده وهو خالقهم وأسيادهم.

إن تصوير هذا المشهد من الواقع الاجتماعي يسهل على الإنسان البسيط تصور حتمية الوحدانية الإلهية بعد إقرار الواحدية لله. ويقدم القرآن الله في اعتبار ذاته تجمع الأضداد إذ نقرأ في سورة الحديد {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}(14).

أما تأويله فالأول هو الذي لم يسبقه في الوجود شيء وهو مبدأ كل شيء، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية وهما معاً يدلان على السرمدية، أما الظاهر والباطن فهما يحققان الكمال فالظاهر هو الجلي في الوجود والباطن هو الخفي في الوجود نفسه، فالظاهر يمكن بلوغه بمعاينة مظاهر وجوده البادية للعيان والحواس، والباطن هو الذي لا يمكن بلوغه إلا بقدرات خاصة لتوفر امكانات التعمق في بواطن الأشياء، وهما معاً ثنائية دالة على الشمول.

وبعد إقرار أن الله سرمدي وشامل يقدم القران علاقته بالموجودات، إذ نقرأ في سورة الحديد {له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شيء قدير}(15).

فالملكية  الحقيقية في الإسلام هي لله، أما ملكية الإنسان فهي ملكية اعتبارية جعلية زائلة، فهو مستخلف على الأرض وليس مالكاً حقيقياً، فالإنسان لا يستطيع أن يهب نفسه أو غيره الحياة، وهو أيضاً لا يستطيع أن يمنع عن نفسه أو غيره الموت، وحتى في الأمور الأدنى من ذلك فهو محدود القدرة، لا يقدر على كل شيء.

ويقدم القرآن عدة أسماءٍ لله في سياقات مختلفة باعتبار علاقته بمخلوقاته، نقرأ في سور الحشر {هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}(16).

يجب التنبيه على أن هذه الأسماء لا تحيط علماً بذات الله تماماً، بل تعني دلالاتها ما أراد الله أن يوصلها إلى الإنسان المعني بالخطاب القرآني، وذات الله في الإسلام أعظم من أن تحيط بها لغة أو يدركها عقل إنسان. والدعوة في القرآن إلى توحيد الله تقتضي تغيير قناعات الإنسان، بلفت النظر والانتباه إلى آفاق الإنسان والأرض والسماء في إطار الناموس الطبيعي، ليكتشف الإنسان وحدانية الله، وليكتشف علاقة الله بمخلوقاته. وهذه العلاقة هي مايعنينا من الذات الإلهية، أي الجانب المرتبط بالإنسانية عموماً واهتماماتها، وهذه الاهتمامات هي عناصر تكوينية لبنية المجتمع الثقافية.

إشكالية العلاقة:

يقول وايتهد "إن الدين عيان لشيء يقوم فيما وراء المجرى العابر للأشياء المباشرة، أو خلف هذا المجرى أو في باطنه شيء حقيقي ولكنه مع ذلك لا يزال ينتظر التحقق شيء هو بمثابة إمكانية بعيدة، لكنه في الوقت نفسه أعظم الحقائق الراهنة شيء يخلع معنى على كل ما من شأنه أن ينقضي ويزول ولكنه مع ذلك يند عن كل فهم شيء يعد امتلاكه بمثابة الخير الأقصى ولكنه في الآن نفسه عصي بعيد المنال، شيء هو المثل الأعلى النهائي ولكنه في الوقت نفسه مطلب لا رجاء فيه"(17).

إن كلمات وايتهد هذه هي جوهر الإشكالية، فالدين ينشد اللامتناهي. واللامتناهي هذا بحكم تعريفه مستحيل أو بعيد المنال، فهو إذن بحكم تعريفه ما لا سبيل إلى بلوغه أبداً، فالحقيقة الإلهية لا يناسبها عقلنا ولا منطقنا، وإذا ما أخضعناها لمنطقنا فلابد من احد موقفين:

الأول: أن نخرج عليها كما حدث للمعتزلة والفلاسفة وذلك إذا ما التزمنا مباديء عقلنا.

الثاني: أن نخرج على مباديء عقلنا ومنطقنا وننسجم مع هذه الحقيقة كما حدث للأشاعرة الذين نفوا مبدأ العلية.

أما إيمان الفلاسفة بالعقل الإنساني وقدرته على امتلاك الحقيقة فواضح خصوصا عند ابن رشد الذي يردد أن اليقين من نصيب الفلسفة وان الإنسان يستطيع الاستغناء بالعقل عن الروح وان الوجود لا بد من أن يصير معقولا في عقل الإنسان كعقل أرسطو بل إن قصة (حي بن يقضان) لابن طفيل لدليل قوي على ذلك فهي قصة الإنسان الذي اكتشف الحقيقة دون معونة الوعي الإلهي.

فكأننا هنا أمام طريقين في المعرفة لا ثالث لهما:

* عقل يكتشف الحقيقة الفلسفية بنفسه.

* ذوق يقبل الحقيقة الدينية من الله.

هناك أيضاً إشكالية وتقابل ثاني يجب المرور به لتكتمل الصورة هو:

*تقابل الله والعالم، فهما مفهومان لابد من أن يطغى أحدهما على الآخر، فنحن إذا أكدنا النظام والضرورة نكون قد أكدنا العالم، لأنه يصبح ضرورياً بدلاً من أن يكون ممكناً، وإذا أكدنا التنزيه والكمال لله نكون قد أكدنا الله وجعلنا العالم ممكناً وتابعاً له.

ومن البديهي- من وجهة النظر الدينية- أن يكون مفهوم الله هو الغالب وان تستغرق صفة (التنزيه عن النقص) بقية الصفات، فالله هو القوي القدير الذي لا تحده ضرورة خلق العالم من العدم، ويستطيع أن يعدمه متى شاء خلقه على هيئة معينة، بل كان يستطيع أن يجعله على هيئة أخرى، أليس هو يخلق في كل آن كما قالت الأشاعرة ؟ أليس هو الفاعل الأوحد لكل ما في العالم من حوادث وأفعال ؟ هكذا ينفي الأشاعرة عن العالم صفة القيام بالذات، ويرجعونه مظهراً ليس إلا. إذا ما مضينا بهذا الموقف إلى حده الأقصى وصلنا إلى أن العالم مظهر لله متقوم به كما يتقوم العرض بجوهره وهذه هي النافذة التي قفز منها المتصوفة إلى الحلول فوحدة الوجود.

إذ ما دام الله هو الفاعل الأوحد لأفعال الإنسان، فاللاهوت هو حال في الناسوت، وإذا ما كان الله هو الفاعل الأوحد لجميع حوادث العالم ويجدد خلقه في كل آن، فالعالم مظهر لله وعرض قائم به ولا هو إلا هو.

هذا الفهم يخلق عدة تقابلات:

التقابل الأول:

مادام العالم ممكناً، ومادامت حوادثه غير ضرورية، وما دام الانقطاع يسود آناته، ومادامت فاعلية الله لا يسودها النظام فالمعرفة مستحيلة، أو هي على الأقل غير موثقة، لان المعرفة الحقة هي معرفة الكلي والضروري وهي التي تتيح التنبؤ ومعرفة المستقبل. وخلاصة الأمر، أن المعرفة اليقينية لا ضمان لها.

فالعقل بما هو نظام يفهم ويدرك العالم باعتباره ضروريا ذا نظام: وهو ضروري الوجود وهو ضروري الهيئة وضروري الحوادث وهو أخيراً ضروري الأفعال لأن الأفعال هي ظواهر الماهية والماهية هي طبيعة الشيء المعقولة وأي تحقق فعلي لها في الوجود هو تحقق عن طريق نظام الوجود. فالنظام ما هو إلا بيان للحالة التي هي عليها الوجود، وما دمنا قلنا وجوداً فقد قلنا هذا الوجود وفقا لنظامه فليس النظام فوق الوجود بل هو قانون الوجود بما هو عليه كيفما كانت حالته.

من هنا لا يمكن تصور أو إدراك وجود خالي من الحركة ومن النظام وبإدراك أن الوجود مادة وحركة وبالتالي نظام مكتفي وجودا ودواما عن غيره عندها ينكشف إن (المطلق) وهم لا معنى لوجوده ولاضرورة.

التقابل الثاني:

هذا النظام والحركة الدائمة تلف الطبيعة والإنسان في إطار وحدة العالم الضرورية ولاتنفك أبدا فلا داعي لأي إضافة غريبة تزيد الأمور تعقيدا وغموضا.

التقابل الثالث:

هو تقابل الجواز والضرورة، فقد أتضح مما سبق أن الفلسفة تقيم العالم ضرورياً ذا نظام وليس لقوة مهما كانت أن تغير منه.

أما الدين فيقيم الطبيعة بمثابة الجائز والممكن لله في الجملة والتفاصيل. إن هذا التقابل هو الأصل في التقابل السابق فإقامة النظام والضرورة هو إقامة العالم وجعله مكتفيا بذاته، والإسلاميون الذين اخذوا بالمفهوم اليوناني لم يكن غرضهم أن يؤكدوا العالم ضد الله، فقد حاولوا كثيرا أن يحافظوا على التنزيه ولكنهم أكدوا النظام والضرورة ضد الجواز والامكان، فإذا بهم يؤكدون العالم ويفقرون بالتالي مفهوم الله.

والأشاعرة أقاموا الجواز مغالاة في تنزيه الله، فأفقروا العالم، فكأنه لم يكن بدٌّ من أن يطغى احد المتقابلين على الآخر تبعاً لنوع الاختيار.

التقابل الرابع:

هو تقابل الجزئي والكلي أو تقابل الشخصي والعام وهو أهم التقابلات ويبدو لنا انه كان نقطة البداية لكل من المفهومين الديني والفلسفي.

أولا يجب أن نعرف أن الاتجاه (الماهوي) ـ أي فلسفة الماهية ـ هو الذي هيمن على الفلسفة اليونانية في مرحلة ازدهارها في مرحلة سقراط وأفلاطون وأرسطو وهذه المرحلة هي التي تسربت إلى العالم الإسلامي وكونت الفلاسفة خصوصاً أبن رشد، فالوجود الحق في نظرهم هو الماهية أو الحقيقة النوعية، وأما الشخصي أو الفرد فقوامه الأعراض التي مردّها إلى المادة، ومهمة الفرد الأخلاقية هي تجاوز الأعراض التي هي منشأ تفرده والانسجام مع الماهية فكان الشخصي أو الجزئي وجود كاذب لا بد من تجاوزه كي نصل إلى الوجود الحق وهو الماهية.

هذا موقف يحذف الشخصية لحساب النوع ويضحي بها من اجل المعرفة فما دامت المعرفة هي معرفة الوجود الحق وما دامت المعرفة هي معرفة الكلي فالوجود الحق هو الكلي.

هكذا أرجعت فلسفة الماهية مجموعة ماهيات أو صور جوهرية تفصلها عن المادة وتجعلها مفارقة في عالم خالد حيناً، أو تحايث بينها في مركب المادة والصورة كما فعل أرسطو، وفي هذا الموقف الأخير يظل موضوع العقل هو الصورة وموضوع الحس هو المركب من اثنين والعقل عندهم أشرف من الحس، فالصورة أشرف من المادة، أو من الوجود في مادة. و(الله) لا يخرج عن كونه صورة مفارقة للمادة، وهو عند ابن رشد لا يختلف عن العقول الأخرى المفارقة فهو متوحد معها بالماهية. إن هذه العقول معلولة له والمعلول يشبه العلة، وإذا أضفنا إلى ذلك أن التعقل عند ابن رشد هو اتحاد الأدنى بالأعلى أدركنا أن هذه العقول جميعاً ذات حقيقة نوعية واحدة أو ماهية واحدة لا تميز بينها وبين (الله). ماهية هذه العقول بما فيها (الله) أنها عقل، فالإرادة شيء غريب عنها وخارج عن نطاق ماهيتها، ومهما أوغل الفلاسفة في التنزيه فلن يستطيعوا الخروج بـ(الله) عن هذه الماهية النوعية، وأقصى جهدهم أن يقولوا انه يعرف الموجودات دون أن يغير فيها، والمعرفة هي معرفة الكلي والكلي هو الحقيقة والحقيقة واحدة في جميع العقول، و(الله) لا يختلف عن أي عقل آخر هكذا نصل إلى سلب (الله) الشخصية كما سلبناها من الإنسان، فالوجود مجموعة ماهيات أو أنواع أفراد والأفراد حقائق كاذبة أو أعراض مردّها إلى المادة، والمادة من جهة الوجود هي العدم من جهة الأخلاق هي الشر، فالموجود الحق هو الكلي والمعرفة هي معرفة الكلي ونستطيع أن نقول لان المعرفة هي معرفة الكلي فالموجود الحق هو الكلي والمفهوم الديني يقف على النقيض من ذلك فالجزئي أو الشخصي هو الحقيقة الأولى وليس الكلي سوى مفهوم ذهني جردناه، وقد لا يكون سوى اسم سميناه. ما فعله الدين هو أنه منح (الله) جميع صفات الإنسان الايجابية مع رفع كل صفة منها إلى حد الكمال فـ(الله) ليس عقلاً فحسب بل هو عقل وإرادة وقدرة وحرية، وبكلمة موجزة: هو الكامل الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة والذي يعرف مخلوقاته فرداً فرداً، يرعانا ما دمنا نحبه ونسعى إلى التشبه به، انه شديد الانتقام فلنخش بطشه ولكنه غفور رحيم فلنأمل رحمته... هكذا يطرح الدين العلاقة بين الإنسان و(الله)، فهو يراقبنا دوماً ويرى جميع خلجاتنا الداخلية، وما دُمنا نعرف انه على هذا القرب منّـا فلنحاول إرضائه بالانسجام مع إرادته، ولكنه يغفر للخروج على إرادته ومشيئته فهو كريم رحيم يمنحنا كمالنا، ويأخذ بأيدينا خلال دروب الحياة الشائكة، ومَنْ كان كريماً إلى هذا الحد فهو يستحق أن نحبه من كل قلوبنا، ولكن علاقة المحبة تقتضي المشاهدة والمكاشفة فنحن نريد أن نراه ونصبح وإياه شيئاً واحداً... هكذا تدرجت علاقة (الله) بالإنسان من الخوف إلى المحبة إلى المشاهدة... فالوحدة وتاريخ التصوف الإسلامي حافل بالأمثلة على ذلك كعشق ابن الفارض وتهويمات الحلاج، وهذه العلاقة بين الإنسان والله هي أقوى تعبير عن العناية، فـ(الله) يرعى مصيرنا لا عن طريق الضرورة والنظام ولكن عن طريق المحبة.

مثل هذه العلاقة لا توجد في الفلسفة، فـ(الله) عند الفلاسفة ليس شخصاً بل هو قوة تحرك العالم وتعرفه معرفة كلية والإنسان ليس فرداً متميزاً، بل هو ماهية نوعية والفلسفة بدأت بالطبيعة والثبات، وفهمت الإنسان من خلالها، وأقامت (الله) على غرارها، مع منحه كمالها (الله). في الفلسفة ليس حقيقة موضوعية بل هو مجرد اعتبار ذهني يمكن إثباته وإنكاره معاً، أي إن الأدلة العقلية كما تستطيع إثباته كذلك تستطيع نفيه أيضاً وحتى الأدلة المثبتة لوجوده لا تؤدي إلى يقين كما يقول الفلاسفة أنفسهم.

و(الله) في الوجدان الصوفي يمثل تجربة فردية يعيشها الفرد لذاته ولكنه لا يستطيع إثباتها إلى الآخرين، لأنها ببساطة نزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً نحو ذلك النور الأعظم، كما يعبرون. ولكنها رحلة لراكبٍ واحدٍ فقط يذهب ويعود لوحده وإذا ما سألناه عن رحلته وما رأى فيها لا يستطيع الإجابة!؟

ترى هل يتاح للإنسانية يوماً ما الخلاص من هذه الإشكالية، وان تجمع بين هذين المفهومين-الله، الإنسان- دون أن يطغى أحدهما على الآخر؟ أم انه كتب عليها أن تختار بينهما وان تضحي في كل اختيار بنصف ذاتها؟!.

***

سليم جواد الفهد

.....................

المراجع:

1. محمد عابد الجابري: نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي ط4 الدار البيضاء المركز الثقافي العربي 1985 ص 27.

2. عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ (دار الطليعة بيروت 2001 ص19.

3. فراس السواح الرحمن والشيطان ط3 2004 دار علاء الدين ص 103- 104.

4. نقلا عن السواح المصدر السابق (5) السواح ص 239.

6. هادي العلوي محطات في التاريخ والتراث دار الطليعة الجديدة 1997 ص 44 - 45.

7. المصدر نفسه.

8. هادي العلوي المصدر نفسه ص 53.

9. الشرفي المصدر السابق ص 26.

10. فيكتور سحاب ايلاف قريش بيروت 1992.

11. مقطع من الآية 11 من سورة الشورى، والآية بالكامل (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).

12. مقطع من الآية 3 من سورة الزمر، والآية بالكامل (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ).

13. سورة الروم، الآية 28.

14. سورة الحديد، الآية 3.

15. سورة الحديد، الآية 2.

16. سورة الحشر، الآية 23.

17. ولتر ستيس الزمان والأزل مقال في فلسفة الدين ترجمة د زكريا إبراهيم بيروت 1967 ص 37.

  

في المثقف اليوم