دراسات وبحوث

الفقه والاخلاق.. مديات الاتصال والانفصال

مدخل: يمكن افتراض أن المعرفة الفقهية تتحرك في نطاق بنى منهجية محددة متمثلة في علوم المنطق واللغة وأصول الفقه.. بمعنى أنها تخصصية إلى الحد الذي تنأى معه عن تناول المفاهيم المفتوحة على الثقافات والتصورات البشرية التي تتدفق بشكل مستمر وفق متغيرات الواقع، فالفقه غير معني بالنقد الثقافي أو بحوار الحضارات بل له مهمة محددة باستنباط الاحكام الشرعية، مع أن تلك الأحكام تؤدي فيما بعد إلى خلق نسق ثقافي اجتماعي، والنسق الاجتماعي كنتيجة حتمية لمنتجات المعرفة الفقهية هو ما يشكل الانعطاف العسير للمعرفة الفقهية، فالفقيه وهو يتحرى حكما شرعيا عبر قراءات متعددة ومكثفة للنص التشريعي ليس من شأنه –وفق السياقات المعرفية للاجتهاد- أن يقدم منظومة متكاملة، بل يقتصر على دلالات محددة يتم تعميمها على السلوك الفردي والاجتماعي بالنحو الذي يفضي إلى انتاج نسق غير متكامل، فحجم المجهود الذي يبذل في الفقه – معرفيا – أكبر منه في الذي يبذل في انتاج منظومة الأخلاق والقيم، مما يشير إلى انقطاع في المجال الذي يتصل فيه الفقه - كممارسة معرفية – بالأخلاق والقيم التي تكمل دور الفقه وتفعله في الحياة الإنسانية.

لذا فإن مبررات النقد حول الفقه تنشأ عبر ذلك الانقطاع وفي المقابل لا يمتلك الفقه حصانة ذاتية للدفاع عن نفسه، فأدواته اجتهادية ذات طابع بشري تقبل النقد بطبيعتها، ومسوغات اللجوء إلى غير الفقه في الدفاع عن الفقه باتت حتمية، فيبدو الفقه عملية منفصلة عن منظومة الاعتقاد والعقائد، من ناحية الممارسة المعرفية، فمجال الفقه لا كمجال العقائد من حيث النشاط الذهني والمعرفي لكليهما، لكن الفقه في آخر المطاف ينتج نسقا ثقافيا يواجه الكثير من الاشكاليات والعقبات، لذا فعندما يوجه النقد للمخرجات الفقهية بعد أن تصبح نسقا ثقافيا واجتماعيا فإن استعدادات الإجابة تنطلق من المجال العقائدي، بمعنى أن ما يواجهه الفقه من شبهات يتم الرد عليها من خلال منظومة العقائد، ومعنى ذلك أن الدفاع عن الفقه يكون من خارج علم الفقه لأن علم الفقه ذا منحى تخصصي تأويلي خاص يُعنى بتفسير النص التشريعي، وليس أمام الفقيه سوى اللجوء إلى المضادات التي يقدمها علم العقائد والكلام، وهذا ربما يكون اجراء مناسبا وطبيعيا وفق طبيعة البنية المنهجية لكل من مجال الفقه والكلام، لكن ذلك لن يكون حاسما طالما يتم إغفال الأخلاق وعدم الاكتراث إلى مديات الاتصال فيما بينها والفقه.

امكانية المفارقة بين الفقه والأخلاق

من الناحية المنهجية قد يطرح التساؤل: هل الفقه معني بتحقيق القيم (من الناحية المنهجية)؟، ولتوضيح التساؤل يمكن تقرير أن سير التفكير الفقهي منضبط بمعايير علم الفقه، وهو مقتضى التخصص في العلوم، ومن الواضح أن علم الفقه غير علم الأخلاق، ولكل منهما منهجه ومسائله ومعاييره على الرغم من وجود العلاقة بينهما من ناحية حاكمية القيم على الفقه.. ويمكن تعزيز فرضية الاختلاف بما يقدمه القانون الوضعي من فروق بين القانون والأخلاق فالهدف من القاعدة القانونية هو استقرار النظام في المجتمع وتحقيق العدل والمساواة، وغايتها نفعية: أي نفع المجتمع وحفظه، أما الأخلاق فغايتها، أكثر من ذلك، مثالية تنزع بالفرد نحو الكمال، فهي تأمر بالخير وتنهي عن الشر، تحض على الفضائل وتوحي بالابتعاد عن الرذائل، وبالتالي فهي ترسم نموذجا للشخص الكامل على أساس ما يجب أن يكون، لا على أساس ما هو كائن بالفعل، لذلك فالأخلاق توجه أوامرها إلى ضمير الإنسان وتهدف تحقيق الأمن والسلام الداخلي، أما القانون فيراهن، أكثر ما يراهن، على تنظيم علاقة الأشخاص فيما بينهم، ويهدف إلى تحقيق الأمن والسلام الخارجي بما يشتمل عليه من أحكام تمنع الاعتداء على الغير، وكذا الحال بالنسبة للفقه فهو ينظم العلاقات فحسب ولا شأن له بالقيم..

وربما يتبلور التساؤل السابق إلى إشكال نقضي للفرضية التي تؤسس للمفارقة بين الفقه والقيم كذلك يؤدي إلى نقض الاشكاليات التي تشكك في توافق الفقه مع القيم، لكن اختلاف المنهج لا يمنع من رقابة أحدهما على الآخر، وكما هو واضح ومتفق عليه من ضرورة انسجام الفقه الاسلامي مع القيم الأخلاقية، وحاكمية القيم على الفقه، فالاختلاف في المنهج لا يؤدي إلى الاختلاف في النتائج، بمعنى أن اختلاف علم القيم /الأخلاق لا يخلق مبررا لاختلاف نتائج الأحكام الفقهية عن الاحكام الأخلاقية، وهو ما يتم التركيز عليه في البحث، فالحاكمية التي يتفق عليها الكثير كيف لها أن تتحقق؟

يبدي الأصوليون والفقهاء موقفهم النهائي من التساؤل الأخير بصدد حاكمية القيم على الفقه عبر عالم الثبوت بمعنى أن المشرع قد ضمن تحقق القيم من مرحلة الجعل (جعل الحكم) فلا داع لافتراض المفارقة بين القيم والفقه حتى على مستوى نتائج كل منهما، وذلك صحيح على صعيد النص الديني المؤسس للأحكام الشرعية، لكننا بصدد الفقه الذي هو عبارة عن ممارسة فهم للنص التشريعي تهدف إلى استنباط أحكام شرعية لم يصرح بها النص بشكل مباشر، كذلك تحدد تلك الممارسة الكثير من موضوعات الفقه التي تكون محل تفسير النص التشريعي، وبعبارة موجزة: النص التشريعي (الشريعة) غير الفقه (الفهم البشري) القائم على آليات الاجتهاد التي تعد آليات ظنية في الأغلب.

ومع ملاحظة الفرق بين الشريعة والفقه لا يكفي انسجام الحكم الشرعي مع الحكم الأخلاقي في عالم الثبوت و(جعل الحكم)، بل تبدو ضرورة رصد الحاكمية في عالم الاثبات واستنباط الحكم من أدلته ومدى اعتبار تحقق القيم في نتائج الاستنباط.

إن اختلاف مجال الفقه عن مجال القيم والأخلاق لا يبرر غياب الاعتبارات الأخلاقية من عمق العملية الاجتهادية في الفقه، فكما لم يغب علم المنطق وعلم اللغة من آليات الاستنباط الفقهي كذلك ينبغي حضور القيم الأخلاقية في تفاصيل عملية الاجتهاد الفقهي، والسبب هو أن الشبهات المطروحة حول الفقه لا علاقة لها بآليات الاجتهاد وكيفية استنباط الحكم من أدلته، بل لها علاقة بالنتائج والمخرجات، فلا ينبغي إغفال النسق الثقافي والاجتماعي الذي ينتجه الفقه، ذلك النسق الذي يتشكل عبر مجموعة أفعال وسلوكيات منتظمة تحت شريعة ناظمة وحاكمة ويصبح هوية ثقافية، فالحجاب مثلا يعد عنصر من عناصر تلك الهوية أو ذلك النسق، يشكل أيقونة بارزة له، والشبهة التي تطرح ليس من شأنها أدلة الحجاب بقدر ما تحاجج الغاية منه، متسلحة بمفاهيم جديدة وملحة ومفروضة على الواقع بشكل صادم.

إذن أزمة القيم المفترضة مرصودة في نتائج علم الفقه أي في مجموعة الأحكام التي ينتهي إليها الفقهاء، تلك الأحكام التي تبني كيانا اجتماعيا له خصائصه وفوارقه التي تميزه عن غيره، وهذا ملحظ هام في إطار الكشف عن جدلية الفقه والقيم، وبوسعي القول أن الجهد الذي يتم بذله في استنباط الأحكام الشرعية يستدعي جهدا آخر يعمل على تبرير تلك الأحكام وهي تمثل واقعا اجتماعيا ونسقا ثقافيا يواجه كما هائلا من النقد، والتبرير ليس منقصة وإنما يكون في إطار الحوار العلمي الموضوعي الذي يكشف عن عقلانية الفقه عبر استثمار الخزين الثقافي ضمن مفاهيم فلسفة التشريع التي بذل المفكرون المعتدلون جهدا كبيرا في إبرازها ونشرها.

مدى حضور الاخلاق في المعرفة الفقهية

من الواضح ان المعرفة الفقهية تنطلق من نصوص دينية مؤسسة، تتضمن مضامين أخلاقية، بالنحو الذي يكرس أولوية الأخلاق في عموم الخطاب الديني، ولم يعنى القرآن الكريم وهو -النص المؤسس الاول- بالأحكام والتشريعات كما هو الحال في عنايته بالقيم والاخلاق التي تحتل مساحة كبيرة في مدلول النص للقرآن الكريم، بعد وضوح أن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية، وفي ذلك مدلولان:

الأول: أن التشريعات والأحكام على وفق المعيار الكمي لم تكن لها الأولوية في الرؤية القرآنية في حين يتضح الحضور اللافت إلى القيم المستوحاة من القصص القرآني، وهو ما يحيل إلى مراجعة ضمور التشريع في النص الكلي (القرآن) وحضوره في النص التفصيلي الجزئي (السنة) ومن ثم محاولة الاجابة عن مدى إمكانية حسم الموقف من مسألة المطلق والزمني في التشريعات والأحكام، ومناقشة فرضية تغير الشرائع من ناحية صحة الفرضية وعدمها.

الثاني: أن القرآن الكريم بما يتضمنه من قيم ومبادئ كلية يمكن أن يمثل مرجعية مطلقة لقراءة السنة ضمن عملية استنباط الأحكام الشرعية عن الأحاديث.. وحتى الأحاديث بدورها أسست لجانب كبير من القيم والأخلاق بالشكل الذي يغلب أو يساوي ما ورد من أحاديث الأحكام.

ومع وضوح الغلبة والأكثرية للمدلول القيمي على المدلول التشريعي، تثار عدة تساؤلات هامة حول ضعف حضور القيم الأخلاقية في ماكنة التفكير الفقهي، من جهة، ومن جهة أخرى تحيل تلك الأكثرية إلى تساؤل هام حول إمكانية البحث في المحدودية الزمانية للشرائع في مقابل الاطلاقية الزمانية للقيم، بمعنى افتراض كون النصوص ذات المدلول القيمي مع أكثريها وغلبتها تكون هي المساحة الثابتة على خلاف النصوص ذات المدلول التشريعي مع قلتها تكون نسبية وزمنية ومتغيرة، وهو افتراض يقارب نظرية نسخ الشرائع بعضها لبعض، ويفارقها في كون الشريعة الإسلامية شريعة خاتمة، ويتجاوز خاتميتها واطلاقها الزماني إلى تقويضها اقتلاعها من الزمن الحاضر.. وهذا التساؤل عالق بين حساسية إبرازه وتعسر الإجابة عليه، فربما جاز البحث والتساؤل عن الثابت والمتغير داخل منظومة الاحكام وأمكن البحث في وجود أحكام ثابتة مطلقة وأخرى زمنية متغيرة حسب موضوعاتها، لن التساؤل والبحث عن إمكانية اعتبار كل التشريع ظرفا زمنيا ناقلا إلى مرحلة أخرى يكون للعقل صلاحيته المطلقة في التشريع.

إن هذا التساؤل الخطير لا تتم الإجابة عليه من داخل الفقه، ولا من داخل الكلام، إنما يتم تناوله خارج أطر التفكير الديني وهو ما يُعنى به مجال فلسفة الدين، عبر تناول مدى خلود الشرائع في الأديان السماوية، وحدود مرجعية العقل في المعرفة التشريعية.

لكن بالعودة إلى موضوع القيم الأخلاقية والالتزام بحدود البحث في التساؤل الأول حول إمكانية تفعيل مرجعية النصوص ذات المدلول القيمي على النصوص ذات المدلول التشريعي وهو مما توافرت له بعض القراءات المعاصرة التي تدعو إلى تحكيم مرجعية القرآن الكريم على السنة وإنقاذ المعرفة الدينية وبالأخص الفقهية من سلطة الحديث إلى حاكمية القرآن الكريم.

يذكر الرفاعي أن: (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي)، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط.

إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية.

ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة..

هذا مثال بسيط عن الشكلانية التي طغت على التفكير الفقهي، وربما لم تكن تؤدي إلى نتائج خاطئة على الدوام لكنها في الوقت نفسه تنافي الواقع في الكثير من الأحيان.

إذا ما أردنا طرح السؤال أعلاه على مخرجات الفقه الاسلامي، كيف ستكون الاجابة؟ ولكي يتضح بادئا السؤال، يمكن القول ان إثبات وجود قيم أخلاقية في الفقه الاسلامي، لابد أن يعتمد على وحدة قياس، ولابد من وجود معايير تحدد طبيعة الحكم الشرعي على مستوى انسجامه مع القيم، لذا يمكن افتراض مشروعية هذا التساؤل بالبحث عن تلك المعايير، فإذا كان الفقه ينتج أحكاما تعد مثارا لجدل من حيث تعسفها بحق بعض الفئات الاجتماعية مثلا (فقه المرأة مثلا).. كيف يمكن علاج تلك الاشكاليات؟ على أن الطعن في مشروعية تلك الاشكاليات غير كاف في حلها وهي مسألة مهمة على الصعيد العام، فغالبا ما يتم التشكيك في مشروعية الشبهة ومصدرها وهذا التشكيك غير كاف في إيقاف تأثير الشبهة في الأفق الثقافي والاجتماعي.

جدل التعبد والواقع في الممارسة الفقهية

في المعرفة الفقهية يستعمل لفظ التعبد بمعنى التكليف مثل قول بعضهم: نحن متعبدون بالنصوص، أي مكلفون بالأخذ منها، أو: نحن متعبدون بشرع من قبلنا أي مكلفون به، ويرد اللفظ ايضا بمعنى ما لا يعرف الا من قبل الشارع، اي ما يساوق التوقيفي، فالحكم غير المعلل الذي لم تتضح الغاية منه يكون تعبديا، والمعنى الذي يمكن ان نلاحظه هنا هو مدى الالتزام بالنص امام العقل، فالتعبد في أحد ابعاده يمثل الالتزام والحبس للدلالة في أثناء قراءة النص، مما ينتج قراءة تعبدية تتمثل بمركزية صارمة للنص من دون وعي ظروفه الزمانية، فالكثير من النصوص مطبوعة بطابع عصرها، لكن اشكالية العقل والنقل ساعدت على تنامي الموقف الذي يتحسس من عقلانية القراءة للنقل.

لذا تمثل مفردة التعبد ايقونة بارزة وهامة وفاعلة في الحراك الديني، فهي تقضي بالأخذ عن المقدس والتسليم له على مستوى النظر والعمل، وهو ما يصطدم بشكل تلقائي مع ما يصبو إليه الحراك العقلي في طلبه للمعرفة، فالتعبد قيمة راسخة في العمق الوجودي للدين، وهو ما يخلق تابوهات تحدد من حرية التساؤل أمام الكثير من المبادئ الدينية، فهناك منطقة يمكن وصفها بالمحرمة لا يمكن تجاوزها من قبل العقل الانساني، مما تؤدي الى ظهور مركب يحمل في طيه عقلانية تدعو إلى رجوع الجاهل الى العالم تتمثل في مقولة التقليد من جهة ومن جهة أخرى يشكل المركب أيقونة تعبدية لا تسمح للمقلِّد من تجاوز المقلَّد في المعرفة والعمل على حد سواء، هذا المركب يستبطن ظاهرة تتجلى فيها جدلية العقل والتعبد، فالمكلف وفق العقل الفقهي يأخذ مساحة عقلانية تحت إطار الرجوع الى التخصص وذوي الخبرة كما هو مفاد مقولة التقليد، ويتقيد في الوقت نفسه بقدسية الرأي الاجتهادي الذي ينتمي اليه بتقليده بحيث لا يمكنه مشاركة الفقيه في استنباطه للنص التشريعي..

من تلك الثنائية التي تحمل مفارقاتها معها برزت ازدواجية في الذهنية المثقفة تتردد بين مطرقة التعقل وسندان التعبد، وهنا تبرز مشكلة في عدم وضوح الحدود التي ينبغي الالتزام بها في حركة الفكر بين ما هو عقلاني وما هو تعبدي، على اننا لا ننكر الاشتراك بينهما من حيث البنية، فليس كل ما هو تعبدي مناف للعقلانية، لكن على مستوى الممارسة إما أن يكون الحراك عقلانيا أو تعبديا، وهنا مشكلة النمطية الحاكمة على الحراك الذهني بين الالتزام بالمخرج الاجتهادي على انه غير خاضع للعقل بشكل تام، والالتزام بما تدعو اليه العقلانية من محاكمة كل ما يصدر عن المنظومة الفقهية تجاه قيم متغيرة وثقافات متعددة..

ثم يبدو أن ما هو عقلي يختلف من الإلهي إلى الانساني بحيث تختلف الرؤية الدينية عما تدعو الرؤية الفلسفية في العقلانية لتنتج ثنائية جديدة مفادها عقل ديني وعقل فلسفي يكتسب الأول أفكاره من الوحي فيما ينحو الثاني إلى أخذ أفكاره من الواقع بمعنى آخر تظهر مشكلة المطلق والنسبي، وهو ما يؤجج الجدل بين العقل والتعبد مرة أخرى، لعدم ثبات المشترك بين العقلانية والتعبد تبعا لاختلاف المصدر..

يشير التعبد إلى الالتزام بحرفية النص، حفظا للقداسة التي تحوم حوله، من دون محاولة النظر فيه أو تأويله، مما ينتج حالة من الجمود على النص ومغادرة روح النص التي تختزل الكثير من المعاني، وما يثيره مفهوم المقاصد من حساسية على مستوى الفقه المدرسي تجعل التفكير المقاصدي في منأى عن الممارسة الفقهية، إلا أن ذلك لا يدعو إلى مغادرة التفكير بروح التشريع وما ينطوي عليه من اعتبار قيمة الانسان في انتاج الاحكام، لأن نمط التفكير الفقهي قد يبتعد كثيرا عن ملاحظة التساؤلات الملحة بشأن مكانة الإنسان في التشريع، والبنى المنهجية تكاد تخلو من أي اعتبارات للقيمة الانسانية بل ركزت على تفاصيل قواعد الفهم للخطابات الشرعية، في محاولة إلى استظهار المرادات والدلالات التي ينتجها فهم النص، بحيث أصبح الشغل الشاغل هو فهم النص التشريعي بقد عال من الاحتياط في انتاج دلالة تستوفي الشرائط الابستمولوجية كما يقررها اصول الفقه، بعيدا عن شرائط العامل القيمي، فيؤول الأمر إلى الاقتصار على استخراج نتائج ظنية معتبرة عبر آليات الاستنباط التي غايتها الكشف عن مراد النص التشريعي، في حدود ظهور الحكم، من دون ملاحظة ما تستتبعه تلك المرادات من نتائج على أرض الواقع، مما يؤدي إلى انتاج منظومة غير مكتملة من حيث توفر معالم قيمية تنسجم مع روح النص التشريعي.

اذا كانت المقاصد تثير اشكالية التعليل في الاستنباط الفقهي، فان التعليل ربما يكون ضروريا في مرحلة التأسيس إلى معنى التشريع وغاياته، بمعنى أن الموقف الفقهي من التعليل إذا كان يتجنب التعليل في مرحلة استنباط الحكم فلا ينبغي أن يتجنبه في مرحلة التبرير واظهار فلسفة تشريع الحكم، فهذه الأخيرة هامة للغاية، لأنها تشرعن إلى تسويق الممارسة الاجتهادية، فبعد أن يقوم الاجتهاد على اسس استدلالية بعيدة عن الاعتماد على التعليل، فلا يعني ذلك عدم الحاجة إلى التعليل البعدي، فالتعليل القبلي الذي يتخلل الممارسة الاستنباطية ترفضه أغلب مسالك الاستدلال في حين يمكن تفعيله في مرحلة لاحقه ليكون تعليلا بعديا، أي بعد انتاج المعرفة الفقهية، مما يفضي إلى معالجات جادة في اظهار واستجلاء الجانب القيمي من مجمل الاحكام التي تم الانتهاء اليها اثناء عملية الاستنباط الفقهي.

إذن نحن أمام دعوة جادة إلى العودة إلى المعنى الكلي، ذلك المعنى الذي تتجاوزه مرحلة التفسير الأولية التي يمارسها العقل الفقهي وهو يتعامل مع النص التشريعي، فالتفسير والفهم والاستدلال الذي يمارسه العقل الفقهي على نحو تفصيلي جزئي ينبغي أن ينتهي إلى إعادة النظر على النحو الكلي عبر الاحاطة بالمنتج الكلي للاستنباط في محاولة الى استجلاء المعنى الكلي للتشريع الذي يراعي قيمة الانسان وحضوره في انتاج المعرفة الفقهية.

ان اعتبار مآلات الاحكام وما تنتجه من انساق حياتية لشيء هام وقد تنبه الشاطبي في حديثه عن المآلات بما نصه: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة)، والواضح من نص الشاطبي أنه يركز على المصلحة والمفسدة وهو معيار لا يكفي من دون انضاج وتطوير لفكرة ملاحظة ما تؤول اليه الاجتهادات من انساق حياتية، عبر مراعاة الواقع والتباساته في المعرفة الفقهية، ويمكن القول أن اخراج ملاحظة المآلات من حيز المقاصد الى حيز آخر أكثر عمقا عبر رؤية واسعة تستغرق المتغيرات الطارئة لأن حيز المقاصد الشرعية يمثل مساحة جامدة نسبيا ومقيدة بالفهم الكلي لما يريده الشرع، وبعبارة أخرى تعد المقاصد ضمن أفق النص ولا يمكن اندماجها مع سياقات اعتبار الواقع ومتغيراته.

وللواقع اثره البالغ في تحديد وجهة التفكير في المعرفة الفقهية والمقصود بالواقع هو كل ما يرتبط بحياة الانسان في تفاصيلها المتكثرة والتي تخضع لمتغيرات وغالبا ما تشكل وسائل ضغط على الانسان في حياته الدينية، وهو ما يدعو إلى تجاوز عقدة التعبد ومراعاة ملابسات الواقع الضاغط على مخرجات المعرفة الفقهية بما ينسجم مع مقتضيات حاكمية الاخلاق على الفقه وضرورة بناء المنظومة الفقهية على اساس قيمي أخلاقي يستوعب المتغيرات المعاصرة التي تحيط الفكر الديني بنحو عام.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

في المثقف اليوم