دراسات وبحوث

تعزيز المواطنة طريق.. الاستقرار السياسي العميق (2)

المواطنة والثقافة الوطنية:

ثمة علاقة في المضمون بين مفهومي المواطن والمواطنة. حيث إننا لا يمكن أن نحقق مواطنة بمعنى المشاركة وتحمل المسؤولية النوعية في الشؤون العامة، بدون مواطن يشعر بعمق بحقوقه وواجباته في الفضاء الاجتماعي والوطني. فلا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن إلا بمشاركة حقيقية في شؤون الوطن على مختلف المستويات. لذلك فإن بوابة انجاز حقيقة المواطنة في المجالين العربي والإسلامي، هي العمل على إنجاز مفهوم المواطن الذي يحررنا على المستويين الثقافي والاجتماعي من حالة السديم البشري الذي لا شأن له في أمور حياته الكبرى، ولا يتدخل في بناء حاضره وصياغة مستقبله.

وبدون الدخول في جدل لغوي أو سجالات أيدلوجية وسياسية حول مصطلح (المواطن) ومدى توافره في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي، فإننا نعتقد أن المضمون السياسي والحقوقي الذي يحتضنه هذا المفهوم، هو ذات المضامين التي يقرها الإسلام للأفراد وآحاد المسلمين. فالإنسان المسلم في التجربة السياسية الإسلامية بحقوقه ومكاسبه وواجباته ومسؤولياته هو ما نصطلح عليه اليوم مفهوم المواطن. فالمضمون والحقائق الكبرى واحدة بين هذين المفهومين.

لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تؤكد على حقوق الإنسان المسلم وضرورة صيانة حقوقه واحترام خصوصياته، وأنه على علاقة عضوية بين جميع أفراد المجتمع.

فقد جاء في الحديث الشريف: (يا أيها الناس إن أباكم واحد وأمكم واحدة، كلكم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).. وأن (المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم).. فهذه الحقوق التي تؤكد عليها النصوص الإسلامية، هي ذاتها الحقوق التي يتضمنها مفهوم المواطنة المعاصر.

وبمقدار ما ينتقص من هذه يبرز الخلل السياسي والاجتماعي. فحينما يتطابق المثال والواقع على هذا الصعيد، يكون الاستقرار السياسي الحقيقي، وتنتهي كل موجبات الاهتزاز والانحراف. أما حينما يتفارق الواقع مع المثال وتتسع الفجوة بينهما، فإنه بمقدار هذه الفجوة، تبرز المشكلات وتتضخم التوترات والمآزق. من هنا فإن الاستقرار السياسي والأمن الشامل، لا يتحققان على الصعيد الواقعي، إلا بحصول المواطن على كل حقوقه، وبإمكانه الفعلي في ممارسة دوره الكامل في الحياة العامة. فحيثما كانت هناك ديمقراطية حقيقية ومشاركة سياسية نوعية، كان هناك الأمن والاستقرار. وبغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية، تغيب الكثير من العوامل التي تساهم بشكل مباشر في الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.. وعليه فإن الإصلاح السياسي المتواصل، الذي يطرد معوقات التقدم ويزيل كوابح التطور ويحفز جميع شرائح المجتمع للمشاركة الفعالة، هو الضمان الحقيقي للأمن والاستقرار.

واستقرار المجتمعات المتعددة الأيدلوجيات والثقافات، لا يتحقق إلا من خلال مواطنة متساوية، تسمح للجميع وبدون استثناء المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية والعامة. لذلك فإن مفهوم المواطنة لا يخص أو لا يتوجه فقط إلى الأقلية في مقابل الأكثرية، بل هو يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية في نطاق مفهوم المواطنة الجامعة.

وذلك لأن المواطنة في أحد تجلياتها تعني: المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن المعطيات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية. فكل مواطن له كامل الحقوق وعليه كل الواجبات.

وعلى ضوء هذا بإمكاننا القول: إن المواطنة بقيمها وحقوقها، وواجباتها ومسؤولياتها، هي الحجر الأساس لتطوير النظام السياسي وصيانة حقوق الإنسان وتجديد الحياة السياسية والثقافية وتنمية مقومات السلم الاجتماعي وعوامله وتعزيز الوحدة الداخلية.

والمواطنة وفق هذا المنظور لا تبنى إلا في بيئة سياسية ديمقراطية - قانونية، تتجاوز كل أشكال الاستفراد بالسلطة والقرار أو الاستهتار بقدرات المواطنين وإمكاناتهم العقلية والعملية.

والقاعدة العريضة التي تحتضن مفهوم المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي، هي قاعدة العدالة والمساواة. فكلما التزم المجتمع بهذه القيم ومتطلباتها، أدى ذلك على المستوى العملي إلى بروز حقائق إيجابية في طبيعة العلاقة التي تربط بين مكونات الوطن الواحد وتعبيراته.

فمقتضى العدالة الاعتراف بوجود التعددية في الفضاء الاجتماعي والسياسي وتنظيم العلاقة بين هذه التعدديات على أسس المواطنة المتساوية.

فالمواطنة الحقيقية لا تتعالى على حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق حقائقه الثابتة، وتعمل على فتح المجال للحرية والانفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. فالأمن والاستقرار والتحديث، كل ذلك مرهون إلى حد بعيد إلى وجود مواطنة متساوية مصانة بنظام وقانون يحول دون التعدي على مقتضيات المواطنة الواحدة المتساوية ومتطلباتها.

والثقافة الوطنية تتشكل في خطوطها الرئيسة وآفاقها واولوياتها من الثوابت وطبيعة التفاعل والمثاقفة التي تكون بين مجموع التعدديات المتوافرة في الفضاء الوطني. وعلى هذا فإن الثقافة الوطنية هي التي تكون تعبيراً عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن. فليست ثقافة فئة أو مجموعة، وإنما هي ثقافة الوطن بكل تنوعاته وأطيافه وتعبيراته. وبكون دور الدولة ومؤسساتها في هذا الإطار هو توفير المناخ القانوني والاجتماعي وبناء الأطر والمؤسسات القادرة على احتضان جميع التعبيرات لكي تشارك في صياغة مفهوم الثقافة الوطنية وإثراء مضامينها بقيم المجتمع والعصر.

"فالمعنى البدهي لتعبير الثقافة الوطنية يأتي من كونه تعبيراً عن حقيقة واقعة بالفعل، أي عن حقيقة اجتماعية - تاريخية قائمة وشاهدة.. بمعنى أنه ما من مجتمع له خصائص المجتمع التاريخية إلا وهو ينتج ثقافته الوطنية، اي ثقافته المرتبطة والمتأثرة بمجمل خصائصه التاريخية تلك. فهذه مسألة قد لا يكون فيها خلاف لفرط وضوحها. أما الإشكاليات التي يتوقف على حلها تحديد المفهوم العلمي للثقافة الوطنية. فهي آتية من التشابك والتداخل بين جملة من العلاقات الموضوعية التي يتضمنها هذا التعبير في ما يتضمنه من الدلالات.

إن هذه العلاقات تؤلف مركباً متشابكاً معقداً، ومتنامياً أيضاً بقدر تنامي الروابط في عصرنا، بين الثقافة وسائر مجالات النشاط البشري الاجتماعي دون استثناء. وذلك بناء على أن الثقافة ليست هي بذاتها تتحرك وتنمو وتتطور، بل بما هي نشاط اجتماعي، أي بما هي مرتبطة عضوياً وديناميكياً بكل قوى الحياة التي تنتج تاريخ نمو المجتمع وتطوره المادي والروحي. (قضايا وشهادات، 4، خريف 1991م - ص 40).

وهذا الارتباط والتفاعل الحيوي بين الثقافة والحياة، يتواصل مع الحراك الاجتماعي والثقافي والعلمي والسياسي المتوافر خارج نطاق الوطن. إذ إننا اليوم وفي ظل ثورة وتقنيات الإعلام والتواصل، لا يمكن أن ننفصل عن نشاط المجتمعات والأمم المنتجة لتاريخ التطور والتقدم المعاصر. لذلك فإن التفاعل الدينامي بين الثقافة والحياة، يتجاوز حدود المجتمع الخاص ويتفاعل ويتواصل من نتاج الآخرين وابداعاتهم في عالم النشاط الإنساني - الاجتماعي.

وتصاب بالتصحر والضمور تلك الثقافة الوطنية التي تقبل بخيار العزلة، وتمنع عن نفسها نهر التواصل الإنساني والحضاري.

فالتفاعل والحيوية اللذان تبديهما اليوم بعض الثقافات الوطنية تجاه الثقافات الإنسانية الأخرى، هما اللذان يساهمان في حمل عناصر الحيوية والخصوبة من تجارب تلك الثقافات والمجتمعات إلى ثقافاتنا ومجتمعاتنا.

فالثقافة الوطنية المطلوبة اليوم، هي التي لا تؤسس للعزلة والخروج من حركة التاريخ، بل هي التي تؤسس للتواصل والإبداع والإنتاج. فالمطلوب هو تلك الثقافة الحية المتواصلة بحيوية مع كل التجارب والإبداعات الإنسانية.

وهذا لا يتأتى على الصعيد العملي إلا بمواطنة متساوية، تتجاوز كل عقد الانفتاح والتواصل مع المختلف والمغاير في الدائرة الواحدة.

فالمواطنة بما تشكل من قيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، هي التي توفر المناخ والبيئة المناسبين لانطلاق المجتمع الخاص بكل مكوناته للانفتاح والتواصل الفعال والرشيد مع إبداعات الحضارة ومكاسب العصر.

ومن هنا تتضح طبيعة العلاقة بين مفهومي المواطنة والثقافة الوطنية. فثراء الثقافة الوطنية مرهون إلى حد بعيد على توافر حقائق المواطنة في الفضاء الاجتماعي.

فالثقافة الوطنية تستمد حيويتها وفعاليتها الداخلية من حقائق المواطنة.

كما أن الثقافة الوطنية، هي التي تمنح المواطنة المدى الحيوي الذي تتحرك فيه على المستويات كافة.

فإذا أردنا ثقافة وطنية وحدوية ومتواصلة مع العصر والحضارة، فعلينا تأسيس مفهوم المواطنة في واقعنا الاجتماعي والوطني.

فالعلاقة جد عميقة بين هذين المفهومين، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال التخلي عن حقائقهما ومتطلباتهما. وذلك لأن التحام مفهوم المواطنة بحقائق الثقافة الوطنية المستوعبة لكل العناصر والتعبيرات، هو الذي يمنح المجتمع القدرة على التميز ومواجهة تحديات اللحظة التاريخية..

فالعلاقة بين مفهوم المواطنة ومفهوم الثقافة الوطنية، هي علاقة مشاركة إبداعية في خلق فضاء وطني جديد متجدد، يتجنب العزلة والانكفاء، ويحارب التعصب والشوفينية، ويؤسس للاندماج والوحدة على قاعدة الديمقراطية واحترام التعدد وصيانة حقوق الإنسان.

المواطنة والفضاء السياسي:

ان المواطنة لا تنجز إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي - تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفر ضرورات العيش الكريم

ثمة علاقة عميقة وجوهرية، بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. وذلك لأن الكثير من مضامين المواطنة على الصعيدين الذاتي والموضوعي، هو بحاجة إلى فضاء سياسي جديد، يأخذ على عاتقه تحريك الساحة بقواها ومكوناتها المتعددة باتجاه القبض على المفردات والعناصر الضرورية لهذا المفهوم.

فالمواطنة كمبدأ ومرجعية دستورية وسياسية، لا تلغي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي، تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه، والساعية بوسائل قانونية وسلمية للإفادة من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية. بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفيا لخصوصياتهم، وإنما مجال للتعبير عنها بوسائل منسجمة وناموس الاختلاف وآفاق العصر ومكتسبات الحضارة. ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بنشوء دولة الإنسان. تلك الدولة المدنية التي تمارس الحياد الايجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيدلوجيات مواطنيها. بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. كما أنها لا تمنح الحظوة لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثل في المحصلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين.

لذلك فإن مفهوم المواطنة لا ينجز في ظل أنظمة شمولية - استبدادية، لأن هذه الأنظمة ببنيتها الضيقة والخاصة، تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة خاصة، تمارس الإقصاء والتهميش، كما تمنح الامتيازات بمبررات دون مفهوم الوطن والمواطنية.

فالدولة المدنية التي تحترم الإنسان وتصون كرامته، وتمنحه حرياته الأساسية، هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة، التي تبلور مفهوم المواطنة، وتخرجه من إطاره النظري المجرد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة. فدولة الاكراه والاستبداد وممارسة القمع والتعسف، تجهض مفهوم المواطنة وتخرجه من مضامينه السياسية المتجهة صوب الموازنة الفذة بين ضرورات النظام والسلطة ومتطلبات الكرامة والديمقراطية. وكل الشعارات والمشروعات ذات الطابع التقدمي التي تحملها بعض السلط والدول، تبقى مجردة وفي دائرة الاستهلاك الاعلامي والسياسي بدون المواطنة التي تمارس حقوقها غير منقوصة وتلتزم بواجباتها دون مواربة. وعليه فإن مراعاة مصالح المواطنين والعمل على ضمان حقوقهم واحترام حرياتهم وصيانة كراماتهم، هو الذي يضمن الاستقرار السياسي، ويطور مستوى التفاهم والانسجام بين السلطة والمجتمع وتتبلور الإرادة الوطنية صوب القضايا الكبرى للوطن والأمة.

لذلك فإن المواطنة وفق هذا المنظور، هي قوام الحياة السياسية الفاعلة والسليمة. وحينما تجرد الحياة السياسية من مقتضيات ومتطلبات المواطنة، تتحول إلى حياة مليئة بالنزاعات والانقسامات وتكريس مضامين التخلف والانحطاط المجتمعي.

وذلك لأن المنابر الاعلامية ووسائط الثقافة في المجتمع، تشترك في عملية تفتيت مضمون المواطنة، عن طريق نشر ثقافة الكراهية والدعوة إلى المفاصلة والقطيعة مع بعض شرائح المجتمع. فينتشر التمزيق، وتتعاظم مظاهر التهميش وأشكال التمييز، وتهدد الوحدة الوطنية في أهم مقوماتها ومرتكزاتها ألا وهي المواطن. حيث ان تسميم المناخ الوطني العام، بثقافة التمييز والكراهية، ودعوات المفاصلة والتحريض الطائفي والقومي، تقلص امكانية الاستقرار، وتحول دون توفر متطلبات الوحدة الوطنية. فالدولة التسلطية بصرف النظر عن أيدلوجيتها والشعارات التي ترفعها، هي التي تجوف مفهوم المواطنة وتفرغه من مضامينه السياسية والمجتمعية. لذلك هناك علاقة وطيدة بين مفهومي الدولة المدنية والمواطنة. إذ لا دولة مدنية بدون مواطنة كاملة تمارس كل حقوقها وتقدم بكل واجباتها الوطنية. كما أنه لا مواطنة مستديمة بدون دولة مدنية تسن القوانين التي تحمي قانون المواطنة ومتطلباته، وترفده بالمزيد من الآفاق وأدوات الفعالية المجتمعية. فلا يمكن أن تتحقق مواطنة في ظل دولة تسلطية - استبدادية، لأن هذه الدولة ببنيتها القمعية، تلغي دور المواطن في عملية البناء وتسيير أمور الوطن. كما أنه لا يمكن أن ينجز مفهوم الدولة المدنية في مجالنا الإسلامي، بدون احترام مفهوم المواطنة وتوفير كل مستلزماته الذاتية والموضوعية.

فالعلاقة جد وطيدة بين مفهومي المواطنة والدولة المدنية، إذ كل مفهوم يستند على الآخر لاستمراره وتحذره في المحيط الاجتماعي. وهذا بطبيعة الحال يتطلب «تسريع الاتجاه نحو الديمقراطية الحقيقية والتعددية الفعلية والتنمية الشاملة في الدولة وبالدولة إن أمكن، جنباً إلى جنب، محو الأميات المتكثرة، وتحرير الأبنية الثقافية السائدة من عقد الأتباع والتقليد، وتثوير الوعي الاجتماعي. بما يؤكد معاني الحراك والمغايرة وحق الاختلاف، وتدعيم أسس المجتمع المدني بما يؤكد مفهوم المواطنة بكل لوازمه الحديثة وشروطه الإنسانية التي لا تفارق حرية الرأي والاجتهاد وحق الخطأ في الوقت نفسه «(راجع كتاب جابر عصفور - ضد التعصب، ص 242، المركز الثقافي العربي) وبالتالي هناك منظومة متكاملة من القيم والمبادئ، التي تكرس مفهوم المواطنة في الواقع الاجتماعي. ومن هذه المنظومة الديمقراطية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان وحرية التعبير والانتماء. فكلها قيم ضرورية لإرساء مضامين المواطنة. أي أن توفر هذه القيم، هو الذي يؤدي إلى انجاز مفهوم المواطنة. وبمقدار غياب هذه القيم أو بعضها، بذات المقدار يتم انتهاك مفهوم المواطنة.

وهذا يدفعنا إلى القول: ان المواطنة لا تنجز إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي - تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفر ضرورات العيش الكريم.

وعليه فإن الاستقرار السياسي والمجتمعي في المجالين العربي والإسلامي بحاجة إلى توفر العناصر التالية:

1- المواطنة التي تمارس دورها في الشأن العام بدون خوف أو تردد.

2- مؤسسات المجتمع المدني، التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وتبلور كفاءاته وقدراته، وتساهم في معالجة المشكلات التي يمر بها المجتمع.

3- الدولة المدنية التي تجسد إرادة المواطنين جميعا، ولا تميز بين المواطنين لدواعي ومبررات ليست قانونية وإنسانية. فهي دولة جامعة وحاضنة لكل المواطنين وتدافع عنهم، وتعمل على توفير ضرورات معيشتهم وحياتهم.

فالأوضاع العربية والإسلامية، بدون هذه العناصر، تعيش القهقري والمزيد من التراجع والانهيار على الصعد كافة.

لذلك فإن الجهود العربية والإسلامية اليوم، ينبغي أن تتجه إلى توفير كل مستلزمات تجسيد هذه القيم والوقائع في المجالين العربي والإسلامي.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: ان غياب مبدأ المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية عن واقعنا العربي والإسلامي، ينذر بتطورات كارثية على المستويات كافة. ولا خيار أمام النخب السياسية السائدة، إذا أرادت الاستقرار لأوطانها، إلا الانخراط في مشروع الاصلاحات السياسية والوطنية، المتجهة صوب إرساء دعائم المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية الملتحمة في خياراتها الاستراتيجية مع خيارات مجتمعها، والساعية نحو إزالة كل رواسب الدولة التسلطية من واقعها ومؤسساتها وهياكلها المختلفة. وحده الاصلاح السياسي الحقيقي، هو الذي يوقف الكوارث القادمة وعلى الصعد كافة.

المواطنة والوحدة الوطنية:

لاعتبارات سياسية واجتماعية عديدة، مرت على دول المنطقة وبالذات تلك الدول والمجتمعات التي تعيش التعدد المذهبي، فترة من الزمن، كانت تعتقد أن خلاصها الواقعي في توزيع الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية بين الطوائف والمكونات التي يتشكل منها المجتمع العربي هذا أو ذاك، ودخل الجميع في سياق هذه الرؤية ومن زخمها، في أتون الصراعات والنزاعات المفتوحة على كل الاحتمالات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المجموعات البشرية.

لا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لايمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

ولكن شعر الجميع أن ما نسميه المحاصصة الطائفية، سيضيّع الوطن، وسيدخل الجميع في انقسامات لا تنتهي. تبدأ بالانقسام الطائفي، ولكن هذا ومتوالياته يفضي إلى انقسامات فرعية متلاحقة ومتواصلة. لذلك فالذي يريد أن يحافظ على وطنه ويصون وحدته الوطنية وانسجامه الاجتماعي، عليه أن يطرد من واقعه وقبل ذلك عقله، كل نزعات المحاصصة الطائفية. لأن هذه المحاصصة ستضيع الأوطان كما أنها ليست هي السبيل الأفضل لنيل الحقوق وانجاز معنى الإنصاف بين جميع المكونات والتعبيرات.

وعليه فإننا نعتقد أن الطائفية، ليست حلا لأي طرف، وإنما هي جوهر المشكلة التي يعاني منها العديد من المجتمعات العربية والإسلامية.

ولا خيار أمام الجميع إلا بالعودة إلى الوطن والمواطنة، ومهما كانت الصعوبات والمشكلات، لايمكن الهروب منها إلى داء الطائفية، الذي يفرق ولا يجمع، يغرس الإحن والأحقاد بين الناس، ويضيع على الجميع فرص العيش بوئام في دائرة الوطن الواحد والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. وعليه نصل إلى قناعة مركزية لا لبس فيها، أن فتح المجال لإبراز التعبيرات الطائفية بوصفها هي عنوان الإنصاف ونيل الحقوق، من الأوهام التي تضيع الحقوق وتبعد الجميع عن الانصاف وتبعثر وحدة الناس الوطنية.

وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن الأوطان خالية من العيوب والأمراض، ولكن لا يهرب الناس من مرض حتى يقع في مرض أشد من الأول فتكا وضررا بالإنسان على المستويين المادي والمعنوي.

ولنا في التجربة السياسية العراقية خير مثال وبرهان. مع العلم أن في الشعب العراقي ثمة حقائق تقلل من امكانية الانقسام الطائفي الحاد. إلا أن الحرب الطائفية المستعرة منذ سنوات في العراق، ضيعت حقائق الوحدة والانسجام التي يعيشها الشعب العراقي أو بعض فئاته على الأقل، وأدخلت الجميع في أتون القتل والقتل المضاد، وأضحى العراق نموذجا لتلك الحروب الطائفية العبثية. فالعنف يستدعي العنف، والدم المسفوك يقابل بدم مسفوك آخر، وهكذا دخل العراق في لعبة الموت والموت المضاد في سياق دائرة جهنمية لا تقف، دمرت كل شي جميل في العراق، ورجع العراق في علاقاته والنظر إلى شريكه الوطني، إلى زمن الحروب الطائفية التي تدمي القلب، ولا تبحث إلا عن القتل، وكأن القتل سينهي شريكك الوطني ويدخله في طي النسيان. فالحقائق الطائفية في أي مجتمع، لا يمكن إدارتها والتعامل معها بعقلية الاستئصال، وكأن القتل ينهي الحقائق ويفني معطيات الوجود والخصائص الثقافية والاجتماعية. فمن يقتل شريكه الوطني بعنوانه المذهبي والطائفي، سيدفع من يقف وراء المقتول إلى التشبث بطائفيته بوصفها هي خط الدفاع الأول عن الوجود والمصالح.

ومن يتحصن بطائفيته، لصيانة حقوقه ستضيع من جراء هذا التحصن قيم الوطن والمواطنة. وحتى لا يندفع الناس إلى التحصن وراء طوائفهم، من المصلحة الوطنية صيانة حقوقهم ومصالحهم على قاعدة وطنية راسخة، تعيد كل الانتماءات مادون الدولة الحديثة إلى حجمها الطبيعي. ولكن حينما تتضخم هذه الانتماءات، ستكون على حساب المواطنة المتساوية، ما يضيع فرص الوحدة بين المواطنين الذين ينتمون مذهبيا وطائفيا إلى مذاهب وطوائف متنوعة. بمعنى أننا في الدائرة العربية والإسلامية، لا نود أن نعيد تجربة العراق في أي دولة عربية وإسلامية. نريد لجميع دولنا أن تحترم انتماءات المواطنين الدينية والمذهبية، وعلى قاعدة هذا الاحترام تكون المواطنة بكل حمولتها الرمزية والقانونية هي مصدر الحقوق والواجبات.

وعلى ضوء هذه الحقائق نتمكن من القول: إن كل انتماءات مادون الوطنية الحديثة والمواطنة المتساوية، هي تساهم في إدخال كل المجموعات البشرية في كانتونات مغلقة تضيع حقائق ومقتضيات الوطن الواحد والمواطنة المتساوية. فهي عناوين تشظي أبناء المجتمع الواحد، وتجعل كل مكون يحصر شبكة علاقاته ومصالحه مع من يشبهه في الانتماء المذهبي. ونحن هنا لا ندعو إلى محاربة هذه الانتماءات، وإنما ندعو إلى احترامها وتقديرها وصيانتها، وعليه فان ما ندعو إليه أن يرتفع الجميع إلى مستوى الوطن الواحد، بحيث يكون الانتماء الوطني هو قاعدة الحقوق والواجبات. بحيث كل مواطن ينتمي إلى هذا الوطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات. بحيث لايمنع الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي أي مواطن من نيل حقوقه كمواطن.

وحينما يرتفع الجميع إلى مستوى الالتزام بكل مقتضيات الانتماء الوطني، سيتمكن هذا المجتمع من التخلص من أمراض الطائفية والقبلية وكل الأمراض الأخرى المرافقة لانتماءات ماقبل المواطنة الحديثة. وتتحول هذه الانتماءات إلى حالة اجتماعية طبيعية، بدون نزعة عصبوية، تثير الفروقات والتمايزات مع بقية الانتماءات. فالوطن يتسع لجميع المدارس الفقهية، ولا يضير هذا بوحدتها ولحمتها الداخلية؛ لأن هذه الوحدة تبنى على احترام التعدد والتنوع، الاحترام الذي ينزع كل نزعات الخصومة والعداوة بين المكونات الاجتماعية المذهبية. وخلاصة الأمر آن الأوان وعلى ضوء تطورات المرحلة، ثمة ضرورة فائقة للاعتصام بالوطن والمواطنة المتساوية، والتعالي على كل الانقسامات التي تهدد وحدة الوطن وانسجام أهله الاجتماعي. فالوطن وحده هو القادر على جمع الجميع وتوحيد كل التوجهات على قاعدة الوطن الواحد الذي يعزز وحدته الداخلية بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات.

المواطنة هي الحل:

تتعدد انتماءات الإنسان وميولاته والتزاماته الأيدلوجية والفكرية والسياسية. حيث إننا من الصعوبة بمكان على المستوى الإنساني أن نجد كتلة بشرية متجانسة في كل شيء.. فإذا كانت هذه الكتلة البشرية متجانسة دينيا، فهي متعددة مذهبيا، وإذا كانت متجانسة مذهبيا، فهي متعددة عرقيا أو قوميا، وإذا كانت متجانسة عرقيا أو قوميا، فهي متعددة دينيا أو مذهبيا أو مناطقيا..

فعلى كل حال فإن التعدد والتنوع من لوازم الحياة الإنسانية. ولا يمكن أن نحصل على حياة اجتماعية واحدة متجانسة في كل شيء..

وعدم التجانس في بعض دوائر الانتماء والحياة، لا يعني أن تسود حالات الجفاء والتباعد بين الناس، وإنما على العكس من ذلك تماما. فإن تعدد دوائر انتمائهم ينبغي أن يقودهم إلى الحوار والتواصل وتنمية المشتركات. فالناس جميعا بصرف النظر عن منابتهم الأيدلوجية، يعتزون بخصوصياتهم الذاتية، ولكن هذا الاعتزاز ليس استغناء عن الآخرين أو الخصومة معهم أو الانغلاق والانكفاء في الدوائر الخاصة. فالحكمة الربانية اقتضت لاعتبارات عديدة، أن نكون متعددين ومتنوعين في دوائر وأنحاء مختلفة، ولكن هذا التنوع ليس من أجل الانغلاق والانطواء، أو الخصومة والعداء، وإنما من أجل التعارف الذي يقود إلى البناء والعمران. إذ يقول تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا]..

فالباري عز وجل جعلنا في دوائر متعددة ( شعوبا وقبائل ليس من أجل أن نتخاصم ونتعادى ونقتل بعضنا البعض، وإنما من أجل (لتعارفوا) وأول التعارف الاعتراف بحق الوجود والتعبير عن الرأي، وتنمية المشتركات، وتنظيم عناصر وموضوعات الاختلاف والتباين..

فجمالنا الإنساني في تعددنا وتنوعنا، وأية محاولة قسرية لتوحيدنا أو لإلغاء تنوعنا، هي محاولة مناقضة لناموس الخالق عز وجل في هذه الحياة..

والاعتراف بتنوعنا، يحمل الجميع مسؤولية العمل على صيانة وحماية هذا التنوع. ولا حماية لهذا التنوع إلا بالاحترام المتبادل والتواصل المباشر وكسر كل الحواجز التي تحول دون التضامن والتعاون.. فنحن ينبغي لنا جميعا ومن هذا المنطلق يجب علينا أن نرفض الإساءة إلى بعضنا البعض سواء كانت هذه الإساءة مباشرة أو غير مباشرة. قد تتباين آراؤنا ومواقفنا، ولكن هذا التباين لا يشرع لأحد ممارسة الإساءة. بل على العكس من ذلك تماما حيث أن التباين في الرأي والموقف ينبغي أن يقود إلى الاحترام المتبادل..

كما أن وجود إساءة هنا أو هناك، ينبغي أن لا يدفعنا إلى إطلاق الأحكام والمواقف التعميمية. فالإساءة مرفوضة مهما كان شكلها، وقيام البعض بها، لا يشرع لأحد التعميم أو التشنيع على الكل.. فآفة العدالة التعميم ومن أراد الالتزام بمقتضيات العدالة، فعليه توخي الحذر وعدم الانجرار وراء المواقف والآراء التعميمية، التي تأخذ الجميع بجريرة البعض..

يقول تبارك وتعالى [ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..

فحينما تتباين الآراء وتتعدد المواقف والقناعات والانتماءات، هذا ليس مدعاة لتجاوز حدود العدالة في التقويم وصناعة الرأي والموقف..

فالانتماءات الفرعية المتعددة، لا تدار بحروب التشنيع المتبادل، ولا تدار بعقلية الاستئصال والتشويه المتبادل. وإنما تدار بالحوار والتواصل والاعذار المتبادل وتنمية المشتركات..

والفكر القانوني والدستوري والحضاري الحديث، أبدع رؤية قانونية متكاملة في ترتيب العلاقات الداخلية بين مكونات وتعبيرات المجتمع الواحد.. وهذه الرؤية تتكثف في مقولة [المواطنة]..

فالانتماءات المتعددة ينبغي ألاّ تقود إلى الانطواء والانكفاء، كما أنها ينبغي ألاّ تقود إلى الخيارات السياسية والثقافية التي تهدد الاستقرار والأوطان.. وإنما من الضروري أن تقود إلى بناء العلاقة على أسس مشتركة، تتجاوز حدود الهويات الفرعية. وعلى رأس الأسس المشتركة (المواطنة). فهي القاعدة القانونية والسياسية التي تضبط العلاقة بين جميع المواطنين، وهي التي تحدد المسؤوليات وتعين الحقوق والواجبات..

وفي زمن انفجار الهويات الفرعية، لاعتبارات عديدة، من الضروري العمل لإبراز مفهوم المواطنة. فهي ( أي المواطنة ) هي الحل، التي تنقل الجميع من دائرة الهويات الفرعية، إلى رحاب المواطنة المتساوية والمجتمع والوطن الواحد. وفي سياق تعزيز خيار المواطنة، نود التأكيد على النقاط التالية:

1) إن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة الوطنية وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة..

فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

فالمشاكل الطائفية والمذهبية في أي بيئة اجتماعية، ينبغي ألاّ تقود العلماء والكتاب والمثقفين فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

وإنما ينبغي أن ينطلق جميع هؤلاء ومن موقع المسؤولية الدينية والثقافية والوطنية، إلى البحث عن حلول ومعالجات لهذه المشكلة، والعمل على تطويق هذه المشاكل التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

فالتوترات المذهبية اليوم، لا تعالج بالتعبئة الطائفية، ولا بشحن النفوس ضد الآخر المختلف والمغاير المذهبي. وإنما بتعزيز خيار المواطنة، وتشجيع الجميع عبر رؤية متكاملة ومشروع وطني شامل، لجعل المواطنة هي حجر الزاوية في مشروع العلاقات البينية بين جميع المواطنين والمكونات والتعبيرات..

والمواطنة كمشروع حل ومعالجة للتوترات الطائفية والمذهبية في المجال العربي والإسلامي، ليست حلا سحريا وناجزا، وإنما هي البوابة السياسية والحقوقية والثقافية، لا نجاز الوحدة الداخلية في المجتمعات المتعددة دينيا أم مذهبيا أم قوميا وعرقيا.

وحدها المواطنة هي التي تخلق الوحدة بين المكونات المتعددة في الدائرة الوطنية الواحدة.

2) إن ثقافة الاستئصال والفصل بين مكونات الوطن الواحد، على أسس طائفية ومذهبية، لا يبني استقرارا، ولا يحرر المجتمعات من عقدها وتوتراتها التاريخية والمعاصرة، وإنما يزيد من أوار التوتر ويفاقم من مشكلات المجتمع والوطن.

وأحداث التاريخ تعلمنا أن المجتمع الذي يحتضن تعدديات وتنوعات، لم يبن استقراره بمنهج الاستئصال وبناء الكانتونات المنعزلة، وإنما تم بناء الاستقرار، بثقافة الاستيعاب والمرونة السياسية وتنمية الجوامع المشتركة، وبناء العلاقة على أساس المواطنة الواحدة.

والمنطقة اليوم حيث تكثر فيها العناوين المذهبية، وتتزايد التوترات السنية الشيعية في أكثر من موقع عربي وإسلامي، أحوج ما تكون إلى ثقافة الوصل والاستيعاب، وتفكيك نزعات الغلو والتطرف ومحاولات المفاصلة الشعورية والعملية بين أبناء الوطن الواحد على أسس طائفية ومذهبية.

فالمسألة الطائفية في المنطقة العربية والإسلامية، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتويتر الأجواء وخلق الخطابات المتشنجة التي تزيد المشكلة اشتعالا. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة العامة التي تفكك المشكلة، من موقع التعالي عن الاصطفافات الضيقة. فالنخب العلمية والثقافية في المجال العربي، ينبغي أن تكون جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.

وإننا مهما كان الوضع على هذا الصعيد صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والتسامح والاحترام المتبادل.

ووجود قناعات أو ممارسات سيئة وسلبية من أي طرف، ينبغي أن لا يكون مبررا للتمترس الطائفي، وإنما هو المبرر الحقيقي لضرورة الخروج من هذا السياق الضيق، والعمل على معالجة كل الظواهر السلبية من خلال الحوار والتواصل والنقد البناء..

3) إن التعصب المذهبي بكل مستوياته، هو أحد العوامل المضادة لمفهوم المواطنة.. بمعنى أن التعصب يحول دون أن تكون المواطنة، هي قاعدة العلاقة، وتكون بدل ذلك العلاقة المذهبية..

لذلك فإن تعزيز خيار المواطنة، يتطلب بناء كتلة اجتماعية - معتدلة ووسطية، عابرة للمذاهب ومتجاوزة لكل عناوين الهويات الفرعية بدون هذه الكتلة الاجتماعية، ستبقى العصبية تنخر في جسم المجتمع. وسيهدد التعصب المذهبي الاستقرار الاجتماعي والسياسي للوطن..

فلا يكفي اليوم أن نلعن الطائفية، أو نحذر من التمترس المذهبي، وإنما المطلوب هو العمل على خلق حقائق وطنية واجتماعية مضادة للنزعات الطائفية. ويبقى العمل على خلق الكتلة الاجتماعية المتجاوزة لكل العناوين الخاصة، لصالح العنوان الوطني العام والجامع، هو الجواب عن كل محاولات التخندق الطائفي والمذهبي..

ومهمة هذه الكتلة، هي حمل مشعل الوحدة والمواطنة، وصياغة العلاقة بين مختلف المكونات على أسس المواطنة المتساوية.

بهذه الكيفية تتحول المواطنة كقيمة ومتطلبات ومسؤوليات، إلى حل لكل نزعات التوتر الطائفي بكل مستوياته.

التربية على المواطنة مجددا:

في مقال سابق تحدثت عن موضوع التربية على المواطنة، انطلاقاً من قناعة رئيسية اننا باستمرار بحاجة؛ أفراداً ومجموعات أن نتربى على المواطنة. لأن هذا المفهوم من المفاهيم المركبة والتي تتطلب التزاماً قيمياً وسلوكياً، مما يجعل من وسيلة التربية هي السبيل لإنجاز مفهوم المواطنة.

وأرى أن هذا الموضوع بحاجة إلى المزيد من المقالات والعطاءات الثقافية والفكرية، التي تظهر حقائق هذا المفهوم، وتهيأ الأرضية الاجتماعية للالتزام بكل الحمولة المعرفية والسلوكية لحقيقة المواطنة. فالمجتمعات الإنسانية هي المعنية بالتقدم باتجاه المواطنة. بمعنى اننا جميعاً بحاجة إلى جهود نفسية ومعرفية وسلوكية للوصول إلى رتبة المواطنة. لأنها ليست مقولة مجردة تقال، أو مزايدة عاطفية بين مختلفين، وإنما هي سعي وكفاح، وعي وبناء، تعليم وتنشئة، ممارسة عقلية واعية، مسنودة بعاطفة جياشة تجاه الوطن والمواطنين. لأن الأوطان بدون مواطنين لا قيمة لها، ولا يمكن صيانة الأوطان إلا بصيانة حياة المواطنين.

ومفهوم المواطنة بحمولته الدستورية والقانونية والأخلاقية، لا يتشكل في البيئات الاجتماعية صدفة أو فجأة، وإنما هو بحاجة إلى جهد وعمل وكفاح وتربية لتحويل هذه القيم التي يتضمنها مفهوم المواطنة إلى حقائق شاخصة في البيئات الاجتماعية والوطنية.

لأن الكثير من البيئات الاجتماعية، لا تدرك المعنى الجوهري لقيمة المواطنة، أو تتعامل معها وكأنها هي المرادف لمفهوم الوطن.

مفهوم المواطنة بحمولته الدستورية والقانونية والأخلاقية، لا يتشكل في البيئات الاجتماعية صدفة أو فجأة، وإنما هو بحاجة إلى جهد وعمل وكفاح وتربية لتحويل هذه القيم التي يتضمنها مفهوم المواطنة إلى حقائق شاخصة في البيئات الاجتماعية والوطنية

لذلك ثمة ضرورة للتربية على المواطنة، وإخراج طبيعة العلاقة بين الإنسان وأرضه وترابه ووطنه من الحيز العاطفي المجرد إلى حيز المسؤولية ومنظومة الحقوق والواجبات.

لأنه لا وطن بالمعنى الحقيقي لمفهوم الوطن بدون مواطنة. فهذا المفهوم بمضمونه الحقوقي والدستوري، هو الذي يمنح مفهوم الوطن معناه السياسي والإنساني.

لذلك فإن السبيل لتعزيز قيمة الوطن، لدى أي بيئة اجتماعية، هو في إبراز وتظهير قيم المواطنة. فالسديم البشري لا يدافع عن وطن، ولا يضيف إلى أرضه منجزات إنسانية خالدة.

ولا سبيل لنقل المجموعة البشرية من حالة السديم إلى حالة المواطنة، إلا بالمضمون الحقوقي والسياسي لمفهوم وحقيقة المواطنة.

من هنا فإن المواطنة بحاجة إلى تأهيل وتربية، حتى تتحول أجيال الوطن الواحد إلى مواطنين ملتزمين بكل مقتضيات المواطنة. فما هو الطريق إلى التربية على المواطنة:

1 التربية على المواطنة تتطلب وجود مشروع ثقافي وتربوي وطني يجمع جميع فئات وشرائح الوطن، ويتوسل بكل وسائل التنشئة والتثقيف والتوعية من أجل إقناع الشعب بعناصر وحقائق المشروع الثقافي والتربوي الوطني.

وحينما يغيب المشروع الثقافي الوطني، بالضرورة ستغيب إمكانية تربية الناس على المواطنة بحقوقها وواجباتها والتزاماتها النفسية والسلوكية.

لذلك نجد أن المجتمعات التي تمكنت من تربية أبنائها على المواطنة، هي تلك المجتمعات التي تمتلك مشروعاً ثقافياً وتعمل عبر وسائط الثقافة ومنابر الإعلام وقاعات الدرس والتحصيل العلمي على ترويجه وتربية الأجيال الطالعة على هداه ومقتضياته.

2 حينما تتحول قيمة المواطنة إلى القيمة المركزية التي تحدد منظومة الحقوق والواجبات في الوطن. لأن المجتمعات المتنوعة التي لا تعلي من قيمة المواطنة، فإنها تجعل من انتماءات أبناء المجتمع الطبيعية أو التقليدية هي مبرر للمنح أو للمنع. وبالتالي فإن أجيال المجتمع على طريقة أن الوصول إلى حقوقه الوطنية، لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن انتمائه التقليدي والطبيعي. وهذا بطبيعة الحال سيدفعه للتمسك التام بهذا الانتماء لأنه هو سبيله للحصول على حاجاته العامة. ولكون المجتمع تتعدد فيه الانتماءات، فإن المؤدى العملي لذلك هو وجود مجتمعات عديدة تعيش فعلياً بمسمى واحد، وهي بعيدة كل البعد عن هذه الحقيقة.

أما إذا كان الانتماء الوطني هو وحده بعيداً عن الأصول وانتماءات ما قبل الدولة الحديثة، هو مرتكز منظومة الحقوق والواجبات، فإن الجميع سيحترم هذه القيمة وسيعمل على الالتفات إليها وتعظيم لوازمها في الواقع الاجتماعي.

من هنا فإن التربية على المواطنة، تقتضي أن يكون الانتماء الوطني وحده هو مصدر الحقوق والواجبات.

3 تهذيب نزعات الانتماء الفرعية لدى جميع المواطنين. فمن حق الجميع أن يعتز بمختلف دوائر انتمائه، لأن هذه الدوائر تلبي حاجة ماسة لدى الأفراد والمجموعات.

ولكن الاعتزاز شيء، والتفاخر وخلق العصبيات بعناوين هذه الانتماءات مسألة أخرى. لأن تضخيم هذه الانتماءات سيضر بالمفهوم الجامع الذي يضم كل هذه التنوعات ألا وهو مفهوم المواطنة.

والمجتمعات الإنسانية التي تمكنت من الإعلاء من قيمة المواطنة، لم تمارس الإلغاء والنبذ لانتماءات مواطنيها الفرعية، وإنما عملت على تهذيبها في سياق قانوني ثقافي، بحيث تتحول هذه الانتماءات إلى رافد ثقافي واجتماعي عميق يثري الواقع الوطني، دون أن يلغيه.

وفي ذات الوقت ثمة سياسات وتوجهات وأنظمة وإجراءات، تجعل من الانتماء الوطني والمواطنة هو النظام الذي يحكم العلاقة بين جميع المتنوعين في السياق الوطني الواحد.

فالانتماءات الفرعية لدى الآحاد والمجموعات، ليس بديلاً عن الانتماء الوطني الجامع للجميع. وعملية تثبيت هذا الجامع، تتطلب بشكل طبيعي ضبط كل الانتماءات الفرعية بقانون عادل، لا يغير على هذه الانتماءات أو يعمل على طمسها وتغييبها وإنما يعمل على حماية هذه الانتماءات وجعلها في سياق وطني متناغم أو في أقل التقادير غير معاد للانتماءات الفرعية لبقية المواطنين.

بهذه الآلية يتم التربية على المواطنة، بحيث لا يشعر أي مواطن أن ثمة خللاً أو تعارضاً بين مختلف دوائر انتمائه التقليدية والمعاصرة، الدينية والمدنية، ما قبل الدولة الحديثة ومع الدولة الحديثة.

فالتربية على المواطنة رؤية تعمل على استيعاب جميع دوائر الانتماء لدى جميع المواطنين وجعلها في حالة تكامل وليس تضاد ومخالفة.

بهذه الطرق تتمكن الأنظمة السياسية التي تدير مجتمعات متنوعة ومتعددة، من إدارة هذا التنوع الاجتماعي، بطريقة تعزز دور هذه التنوعات في إثراء الحياة الوطنية، وجعل المواطنة هي المعيار وهي العنوان الذي يحتضن الجميع بصرف النظر عن أصولهم أو ذاكرتهم التاريخية.

والأوطان المستقرة لا تعادي انتماءات مواطنيها الفرعية، بل تعمل على استيعابها ودمجها الناعم في البناء الوطني الواحد.

***

محمد محفوظ

في المثقف اليوم