دراسات وبحوث

الصوفية ليست مذهبا دينياً

بل حركة انسانية من اجل استقامة الأخلاق ولقيَم

ما نكتبه اليوم ليس من بنات أفكارنا.. بل مما كتبه الأخرون عنهم.أختلفت الأراء فيهم بين مُحبٍ وكارهٍ.. وبين مُكفرٍ، ومؤمن بهم.ومهما تعددت الاراد وأختلفت فمن حق الانسان ان يؤمن بما يرى ويعتقد، شرط ان لا يكون مشككاً بالحقيقة، ومفرقا للأخرين.. فحرية الرأي والفكر مصانة ومحترمة في الاسلام الصحيح، وليس اسلام الفقهاء المذهبيين المزيف.. لان التشريع الاسلامي قائم على البينات المادية، وأجماع الأكثرية من الناس، وان حرية التعبيرعن الرأي، وحرية الأختيار، هما أساس الحياة الأنسانية في الأسلام.

أجمعت الأراء على ان التسمية جاءت نسبة الى لباس الصوف من قبلهم، وقيل نسبة الى صفوة الفقهاء منهم.. وقيل جاءت من صفة الصفاء التي ادعوها لأنفسهم. فاصلها ينسب الى صوفة بن بشر قبل الاسلام كما يدعي البعض منهم.ومهما تعددت الاراء الا ان لفظ الصوفية غدا علماً مختصاًعلى طائفة محددة طغت به على اراء المشككين فيها ويقف ابن تيمية في المقدمة منهم.وهم ليسوا من المبتدعين للعقيدة كما يدعي ابن تيمية وغيره.لانهم لم يخرجوا على العقيدة والدين ولم يكونوا وسيلة من وسائل انشقاق المسلمين كما مورست من غيرهم من فقهاء الاخرين.

 الصوفية هي وحدها طريقة معينة في العبادة والاعتقاد، بل هناك طرقا اخرى مثل الشاذلية والرفاعية والطريقة الخلوتية وغيرها كثير.. ويدعي معارضوها انها طريقة خالفت النص القرآني الذي يقول: "وان هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم.. الانعام153".. لكن المقصود من الاية الكريمة كما تقول الصوفية : ان الاسلام هو طريق الهداية فلا تسلكوا سبل الضلال فتفرق بينكم، فالاية لا تدعو الى الامتناع عن الاجتهاد في الرأي بعيداً عن الشك في العقيدة.. بدليل الاية: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين ، النحل 9". اما كثرة الاحاديث الكثيرة في تعدد الاراء في التفسيرفقد نشرت الاختلاف بين المسلمين دون تثبيت.

اما مفهوم التصوف ومعناه فهو يتلخص في الصفاء والنقاء والصدق في القول والعمل والاستقامة في العقيدة دون حرمان النفس من متع الحياة، يقول الفقيه سفيان الثوري المعروف باستقامته: "لولا ابو هاشم الصوفي احد منشئي مذهبهم ما عرفنا دقيق الرياء". وقال السهروردي انه مذهب جديد وسكت.اما الحلاج فكان رمزهم الذي لا ينسى حتى بعد اعدامه حين اتهم بالزندقة والكفر حين قال: انا الحق متشبها بالآله فهو لا يقصد الشك بل التمسك بصفات الآله الخالق العظيم.. لكن السلطة تخاف حتى من خيالها المظلم.. وقال الكثير بما يتخالف من الاراء التي لا يركن اليها في صحيح.

ان منشأ التصوف هومدينة البصرة في ديرة عبد الواحد بن زيد من اصحاب الحسن البصري، وفي الكوفة على يد مالك بن دينار وغيره كثير ولكن ليس بالمفهوم الخاص كما يفهمه الاخرون، بل بالزهد في العبادة والمبالغة فيها، حتى ترى المتصوف وكأنه انقطع عن الحياة.. لكن نكران هذا النوع من الزهد كان مفاجئا للكثيرين الاوائل الذي شهدوا عهد رسول الله(ص) ولم يروا لهذه العبادة والمغالاة فيها من اصل.ويقول المؤرخ ابن الجوزي: التصوف فكر ديني جديد نشأ عند الخائفين من النار والاخرة الذين عرفوا بالبكائين والزُهاد ولم ينتشر الا في عصر المتوكل العباسي.. بعد سنة 200 للهجرة.. ومهما قيل في تاريخهم لكن الاجماع يؤشر الى انهم حديثي عهد به ولم تُعرف الصوفيه على العهد النبوي.

ومن مصادر التلقي عندهم هو ما اخذ عن الرسول (ًص) يقظة او مناما والالهام الشخصي والفراسة وما اخذ عن الكشف الحسي والاحلام والملائكة والجن.. وعقائدهم المغالاة بعدم الانفصال بين الخالق والمخلوق.. لكن الولاية عندهم تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات واجتناب المنكرات، وقيام الذكر كما في طريقة النقشبندية وطرق اكتشاف الخوارق كاخراج الافاعي من الجحور ومعرفة المفقودات ومكانها.وعندهم مبالغات المعرفة بلا حدود.. ويبدو انها من المبالغات التي لا تصدق..

ويبدو من خلال الدراسات لهذه الشريحة لم تظهر بما التزمت به من المغالاة في الزهد الا بعد الغزوات الاسلامية للشعوب والايغال في سلوكهم الاجتماعي من العيش المرفه والزواج المكرر واسر ابنا ء البلدان المفتوحة واخذ اولادهم ونسائهم والتمتع بهم مستغلين " الاية القرآنية: "وما ملمكت ايمانكم" كما يفعل الدواعش والقاعدة اليوم،  فجاء كرد فعل عنيف لهذه الحالة التي كانت تدعي الزهد والتبتل والمساواة بين المسلمين وغيرهم مما اسهم في ظهور المتصوفة من اصحاب الضمائر الحية الذين اختاروا العزلة على اراقة دماء الناس دون قانون.

ويبدو ان مراحل التصوف قد مرت باداور متعددة منها:

مرحلة القرنين الاول والثاني للهجرة التي جاءت على اثر تطبيق تعاليم الاسلام التشددية دون مرونة مما اوحي للبعص ان الزهد والتبتل في العبادة هي الاساس في الاسلام.

وفي المرحلة الثانية اي في القرنين الثالث والرابع الهجريين قد تطورت الحركة الصوفية مصحوبة بحركة فكرية اجتماعية منتظمة سميت بالتصوف فظهرت فيها المقامات الانشادية والمعرفة الفكرية والتوحيد لهذه الاتجاهات.ولكن رغم الالتزام بما جاءت به من اراء التوحيد الا انها تنوعت بين الصوفية المذهبية والحرة وكل له رأيه في العادات والتقاليد رغم التشدد والانحباس الفكري فيهما.

لكن هناك من التصوف الفلسفي الذي يحتوي على النظر العقلي منطلقا لافكار اصبحت تتجه الى الاتحاد والحلول في الرأي والتطبيق. لقد تطور هذا التوجه الفلسفي في القرنين الخامس والسادس الهجريين متأثراً بالفلسفة اليونانية الاشراقية كالمذهب الافلاطوني مثلا كما في توجهات الفيلسوف محي الدين ابن عربي الذي ادعى بوحدة الوجود في تربية النفس الانسانية والوحدة المطلقة في الحياة بالكشف والمساعدة وعدم اتباع الوسائل الشرعية التي اعتبروها مخترعة من الفقهاء.. وبمرور الزمن تعرضت الحركة الصوفية الى الاضطهاد فأصابها التدهور والركود. وللصوفين اراء كثيرة يطول الكلام فيها.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم