دراسات وبحوث

حرية المرأة وازمة الهوية.. دراسة انثروبولوجية

تجري اليوم في العالم بوجهيه الواقعي والافتراضي تغيرات خطيرة تمس وتطال طبيعة التكوين النوعي والنفسي والعقلي للجنس البشري، وبات من الواضح ان مشاريع كبيرة تقف وراء ذلك عندما عدّت دول كبرى على السنة بعض مسؤوليها، اولئك الاشخاص الذين يعلنون عن رغباتهم في التحول الجنسي او المثلية بأنهم ابطال، لأنهم تمكنوا من مواجهة مجتمعاتهم والتصريح برغباتهم، واعتبر ما يقومون به من شذوذ يندرج ضمن الحريات الخاصة التي دعا الى احترامها ودعمها، واذا كان ذلك مقبولاً في بعض البلدان، فإن ما لا يمكن تجاوزه في مجتمعاتنا العربية  هو اننا بشكل او بآخر صرنا ملزمين في حاضرنا بالتبعية لحركة العالم في كل المجالات بعد ان تمكنت الماكنة الاقتصادية الصناعية من معالجة مشاكل استعصت على السياسة العالمية مثل نضوب المصادر الطبيعية  للطاقة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وازمة الغذاء والماء والتصحر واحتباس الأمطار وغيرها، وكان من ابرز مخاوف المعنيين بدراسة علم الانسان هو محاولات تلك المشاريع إعادة برمجة حياة الناس على وفق تقنيات حديثة تخدم عالم الاشياء الذي يندرج فيه الانسان كرقم الى جانب الكائنات الاخرى، وفي ضوء ما قدمه علماء المستقبليات من توقعات رسمت صورة مخيفة لمستقبل الانسان على الارض كونه مهدد في حياته ووجوده بسبب نتائج السياسة العالمية، فقد تسببت هذه الرؤى في إحداث تراجع نفسي وإحباط لدى كثير من الناس، وهنا يأتي دور الثقافة والمثقف في انقاذ واقع الحال والوصول به الى حالة من التوازن حفاظاً على سلامة النسيج الاجتماعي من التمزق الذي بات يهدده، ما بين تنامي معدلات العنف الاسري، وكثرة حالات الفساد، وارتفاع معدلات الطلاق، وتفشي المخدرات وانتشار المقاهي الموبوءة، والنوادي الليلية، والأفكار المتطرفة والمنحرفة، والسلوكيات الغريبة والشاذة احياناً..

في هذا الجو القلق المضطرب نشطت دعوات تحرير المرأة، والذي يجعل هذه الدعوات تختلف عن غيرها، هو دخول رجل الدين على خط المناداة بخلع حجاب المرأة، كما ظهر على شاشات بعض القنوات الفضائية، وأياً كانت خلفية من تصدى للدفاع عن عدم مشروعية حجاب المرأة من متدينين وعلمانيين ومتغربنين ومتعلمين، فإن الموضوع يحتاج الى دراسة متأنية في طبيعة الجنس البشري في المجتمع العربي بنوعيه الذكر والأنثى، ويجدر بنا ان نذكر ان الدكتور مصطفى جواد في كتابه “قل ولا تقل” ج1 ص103 قال: (فالبشر جنس وهو الجنس البشري، والذكورة منه نوع والأنوثة منه نوع، والجنس أعم من النوع والنوع أخص من الجنس ..) ..

 تقتضي الدراسة الوقوف عند مفهوم الحرية، الذي دخلت عليه كثير من التعديلات في التأويل والتحليل، فأرتبطت الحرية بالهوية الشخصية، وصار السلوك الذاتي يندرج ضمن مفهوم الحرية الشخصية، التي ينبغي احترامها طالما لا يترتب عليها إلحاق الضرر بالغير، ومن هذا المنطلق تعالت اصوات المدافعين عن الحرية بتغيير نظرة المجتمع الى المرأة وإعادة صياغة هويتها خارج حدود الحجاب والجلباب والنقاب كون حريتها الشخصية صارت تتيح لها ان تخرج وتتعلم وتعمل، وهذا الوضع الجديد يستلزم إعادة النظر في الصورة التقليدية التي يدخل فيها الحجاب كجزء مهم من هوية المرأة في مجتمع لم يكن يتقبل خروجها من المنزل، ثم هو يمانع تعلمها ويعارض عملها، اسوة بالتغير الاجتماعي الذي رافق الرجل في انتقاله من البدو الى الريف والمدينة ودخوله المدرسة والكلية ومزاولته انواع الاعمال، فقد تغير شكله وملبسه، فبعد ان كان لا يخرج الى الناس إلا معتماً ملتح، “وفي حديث ام سلمة: انه كان يمسح على الخفّ والخمار، أرادت بالخمار العمامة لأن الرجل يغطي بها رأسه كما ان المرأة تغطيه بخمارها”  ص257 لسان العرب لابن منظور، خلع عمامته وحلق لحيته، وعدَّ المجتمع ذلك من التغيرات المقبولة، وشيئاً فشيئاً اقتصرت العمامة واللحية على فئة محددة من المجتمع هي فئة رجال الدين بعد ان كانت ظاهرة اجتماعية عامة في السابق، وانحصر انتقاد هذه التغيرات في الفئات االمحافظة، فقد ذكر الدكتور علي الوردي في كتابه ” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق المعاصر” ان المتعصبين للدين كانوا يطلقون صفة ” زنديق” على الأفندي في القرن الثامن عشر، وكان الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي  قد كتب مقالاً في 1910م  يدعو فيه الى تحرير المرأة وخلع حجابها، مما تسبب في احتجاج اهالي بغداد، ومن الجدير بالذكر ان الزهاوي من عائلة دينية وكان معمماً قبل ان يحسب على الأفندية، يذكر الدكتور علي الوردي ان الزهاوي لزم بيته لا يخرج منه خوفاً على حياته حتى تعهد للذين هددوه بعدم تطرقه لهكذا موضوع مرة اخرة .. في سنة 1924م تسببت موضوعة الحجاب في إحداث “ضجة كبرى” كما يذكر د. علي الوردي: (وكان العامة مستعدين للاعتداء على كل من يدعو الى السفور إذ هم يعتبرونه كافراً يريد إفساد اخلاق الناس ودينهم . وكان كثير من المتعلمين يؤيدون العامة في ذلك. أما دعاة السفور فكانوا قليلين جداً وكان معظمهم من “الافندية” ..)

يرى بعض الباحثين ان التغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية التي انتجتها الأحداث السياسية والاقتصادية في زمن الاستعمار، وفي زمن التحرير بعد ذلك، كان لها دور بارز في اعادة صياغة مفهوم الحرية والهوية بما يتلائم مع المعطيات الجديدة التي طرأت على الحياة الإجتماعية، فبعد ان قوبلت آراء قاسم امين في مصر وابو العلاء المعري في العراق وغيرهما في انتقاد النقاب – غطاء وجه المرأة – برفض كثير من الناس، اصبح من غير المستحسن اليوم رؤية المرأة وهي تخفي وجهها، وربما صار النقاب مجلبة للمشاكل في وقت نشطت فيه الجماعات المتطرفة المسلحة، فمثلما كانت قريش الضلال تستخدم المرأة للتجسس على المسلمين ونقل الرسائل من وراء نقابها وحجابها، استخدمت التنظيمات الإرهابية المرأة المنقبة والمحجبة لنقل الأحزمة الناسفة والاسلحة ..

ونحن نتحدث عن موضوعة الحجاب عند المرأة فمن الضروري جدا ان نتحدث عن شخصية الرجل العربي وان نعتني بخصلتين او صفتين يكاد يتفق عليهما جميع الرجال في العالم العربي وهما الغيرة والجنس، فعلى الرغم من ان الجنس يشغل حيزاً كبيراً وحيوياً في نفس وفي تفكير الرجل الشرقي، فإن الغيرة تشغل ايضاً مساحة كبيرة جداً، فالجنس تمليه عليه فطرته البايولوجية، والغيرة تمليها عليه بنيته الشخصية، يرى بعضهم ان نظرة الرجل للمرأة في المجتمع الشرقي انعطفت عن الاتجاه الذي كانت عليه قبل ان يعرف الملكية التي سوّلت له حب التملك، ولأن المرأة جزء في حياته كما المال والارض والاملاك والاولاد،  فقد اضفى صبغة الانانية، او الحرص العالي، او الحب، على تعامله مع ممتلكاته الحية وغير الحية، واصيب بعض الرجال بازدواجية في الشخصية، بدت مكشوفة عند بعضهم، ومخفية عند آخرين ممن انقسموا الى متوازنين ذاتياً ومأزومين، ولعل (سي السيد) في رواية نجيب محفوظ (بين القصرين) قد ترجم واقع تلك الشخصية المأزومة .

ربما تقوم إشكالية حجاب المرأة على ازمة الهوية، وامام موضوعة الهوية نقف عند نوعين منها: الهوية الذاتية، والهوية الجمعية .. ترتبط مشكلة الحجاب بالهوية الجمعية اكثر من ارتباطها بالهوية الشخصية، فقد سجلت المشاهدات ان الحجاب على مستوى الهوية الذاتية او الشخصية لم يكن مشكلة مانعة لدى كثير من النساء ممن يدرسن ويعملن ويتصدرن مواقع متميزة في الادارة والقيادة والانشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وعلى قدر تعلق الأمر باعتقاد ديني او نفسي او روحي كل حسب رؤيته، فإن الحجاب عند عدد غير قليل من النساء يرتبط بالظروف البيئية والاجتماعية التي تعيشها، وقد سجلت ملاحظاتي على بعض الظواهر الاجتماعية لنساء عراقيات محجبات التحقن بأزواجهن العاملين في ليبيا نهاية التسعينات وقد دخلن ليبيا محجبات وبعد فترة من الاستقرار خلعن حجابهن على الرغم من ان المجتمع الليبي مجتمع محافظ تلتزم فيه النساء بالحجاب ولكن يبدو ان شعوراً تملك تلك الأسر انهم اصبحوا خارج دائرة الرقابة المجتمعية لمقربيهم في العراق فطاب لهم التبرج، بينما شاهدت امرأة تلبس العباءة العراقية في ليبيا في المنطقة التي كنت اعمل فيها وبقيت على هذا الحال وكانت مثار اعجاب الليبين لالتزامها بزيها الاصلي، وبعضهن بقين على غطاء الرأس لكنهن تنازلن عن “الجبة الإسلامية” ولبسن البنطلون، والأعم الاغلب من النساء بقين على ما كنّ عليه قبل سفرهن ” جبّة وحجاب ” ..

ربما تأتي دعوات بعضهم الى خلع الحجاب من واقع اليأس من قدرة المجتمع على تحقيق العدالة الاجتماعية في وسط درج فيه الناس على ان القوة والقيادة والقرار بيد الرجل، يتم ذلك في كثير من الاحيان بدون ضوابط، فقد يكون الرجل غير مشتمل على تلك القوة لكن ذكورية المجتمع تخوله بها وهو ما كان وراء وقوع كثير من المظالم.

ان جزءاً كبيراً من الفهم الخاطىء لنظرة المراة الى حريتها تتحمله الدولة ويتحمله المجتمع، فقد سجل على السلطة استخدام نفوذها لمحاباة نصوص دينية واحكام شرعية تارة، وتارة اخرى لمجاراة اعراف اجتماعية أواعتبارات مرحلية، كما سجّل على المجتمع توظيفه التشريعات الدينية لخدمة اعراف اجتماعية تحظى بقبول واسع، فظهور المرأة محجبة محتشمة في الشارع يبعث عند وليّها ارتياحاً يمنحه اطمئناناً يوازن به خشيته وعدم اطمئنانه من الناس، خصوصاً وان المجتمع العربي ومنذ امد بعيد لا يعيش حالة من التوافق مع السلطة، وهو ما يجعله فاقداً للثقة بإدارتها لشؤون البلاد، ومن تلك الشؤون ضمان سلامة عدم التعرض للآخر او التحرش، فقد نرى ان الشرع لا يرغم المرأة على التزام بيتها بقدر ما يستحسن ذلك، نظر المجتمع من خلال هذا الاستحسان الشرعي نظرة ايجابية الى المرأة التي لا تُرى خارج بيتها إلا للضرورة الملحة، وبالتالي فهي موضع انتقاد المجتمع على كثرة خروجها، يذكر ان الحاكم بأمر الله في مصر طاب له ان يصدر اوامره  بعدم السماح بوجود المرأة في الطرقات، ومنع  المشتغلين بصناعة الأحذية ” الأساكفة ” من عمل النعل وما شابه للنساء .

نأخذ بنظر الإعتبار وجود دوافع غير دينية تقف وراء رفض بعض التشريعات الدينية المرتبطة بموضوعة الحجاب عند المرأة وحقها في الميراث وما الى ذلك، ومن تلك الدوافع التوجه العام الغالب على هذه الفترة الزمنية من عمر البشرية خصوصاً في عالمنا العربي، وهي فترة التوجه المادي نحو لغة الجسم والتلذذ بالشهوة، شهوة الطعام وشهوة الجنس وشهوة المال، حيث يمثل الجسم محور كل هذه الاصناف من الشهوة، سواء بالنسبة للرجل او للمراة، ومن ذلك ظاهرة “الوشم” التي شاعت كثيراً بين الفتيان والفتيات ممن يعرضون جلودهم لأشعة الليزر لعمل رسم او كتابة اسم، على الرغم من الأضرار الصحية المترتبة على ذلك، شأنها شأن “الأركيلة” التي اصبحت تقليعة كثير من الشباب رجالاً ونساءً في اماكن عامة. وهناك البنطلون الجينز الممزق في بعض مواضعه، وهناك “البرمودا” وهو سروال قصير يلبسه الشاب حيث تظهر ساقه وركبته، فضلاً عن موضة “الكلاسك” في ملابس الشباب الضيقة الملتصقة باجسامهم، وتشبّه بعض الشباب بالبنات في شد شعورهم الى الوراء وربطه بقراصة بطريقة الذيل، وظهور بعض النساء في المقاهي العامة وهن يدخنّ “الأركيلة” .

يمارس الإعلام المرئي والمسموع عبر كثير من وسائل التواصل والقنوات الفضائية دوراً في الإساءة الى بنية الشخصية العربية عموماً، من حيث تناوله لقضايا هابطة تحت عناوين مثيرة وجذابة مثل قضايا الفساد الإداري والمالي والاخلاقي في السلطة والمجتمع، ويوظف لهذا الغرض شاباً وسيماً وفتاة جميلة يستخدمون لغة هابطة تخاطب في المستمع والمشاهد حبه للمال وحبه للشهوة وحبه للشهرة، وتتناول القيم العليا والمثل والكرامة تناولاً مسطحاً بقصد الحط منها والنزول بوعي المتلقي الى ادنى من إدراك ما بعد الشهوة، فيصبح التفكير خصوصاً لدى الشباب مقصوراً على حاجة الجسم والعاطفة، فيوظف تفكيره لخدمة هاتين الحاجتين لا اكثر، فقد اظهرت مقاطع فديو، لقاءات طبيعية واخرى مصطنعة مع فنانات وفتيات ونساء في ستوديوهات واماكن عامة وجهت لهن اسئلة من قبيل: كم مرة تزوجت، وهل تعرضت للتحرش، وما هو اكثر جزء يثيرها في جسم الرجل، ماذا تفعل لو انها تحولت الى رجل مدة 24 ساعة، وكم عملية تجميل عملت، ولماذا بدت مؤخرتها لافتة للنظر في آخر ظهور لها، ومن يصمم لها فساتينها المثيرة، وغيرها من الاستفهامات الهابطة التي تشغل المتفرج بالتفكير بكيفية شد الخصر وقص المعدة ونفخ الشفاه وتجميل الحواجب وتغيير حجم الصدر والارداف. وبوجود مثل هكذا توجه عام للمحيط الاجتماعي، فمن غير المستغرب ان تنتقد امرأة وجود قطعة قماش على رأسها وقد استغنت عن الجلباب ببنطلون جينز وصارت تقود السيارة وتذهب الى المكان الذي تريده دون مرافقة احد من افراد عائلتها، وبعد ان دخل الكذب المنمق او ما يطلقون عليه “الكذبة البيضاء” سوق التعامل الاسري والاجتماعي، فقد بدا الحجاب و غطاء الرأس موضع انتقاد ورفض عندما وجدت المرأة متسعاً لم يكن موجوداً في السابق يتيح لها ان تتصل وتلتقي بأغراب عبر العالم الافتراضي، وقد يأتي ذلك في سياق التوجيه الإعلامي لدعم لغة الجسم بدلاً عن لغة العقل ..

حين يفقد الإعلام رسالته الانسانية الايجابية الثقافية يلجأ الى سبل اخرى من شأنها جذب المشاهد من اجل جني اكبر عدد من المشاهدات والاعجابات عبر طروحات تافهة مثيرة يؤديها اعلاميون تربطهم بالإعلام شهادة جامعية اكثر منها رسالة ثقافية فيسأل الاعلامي ضيفه: هل تتبول وانت تستحم .. من اين يخرج الطعام الذي تأكله .. هل تحب المرأة القصيرة ام الطويلة ..

سُئلت احدى مطربات وراقصات النوادي الليلية: ما الشيء الذي تحملينه معك دائماً في كل مكان، اجابت: ثياب الصلاة .!!! وصرحت اخرى انها حين ترجع الى البيت آخر الليل منهكة متعبة، لا تشعر بالراحة ولا تتمكن من النوم إلا وهي تستمع الى القرآن، قد يبدو ان تناقضاً في الأمر، لكني حين لاحظت مواقف كثيرة مثلها، ربما تأتى لي ان اقول ان اعتياد الراقصة على سماع ايقاعات موسيقية تتلائم مع جو الرقص في الملهى، جعلها تشعر بالمتعة وهي تستمع الى ايقاع من نوع اخر بصوت قارىء القرآن ولا علاقة لمحتوى النص المقروء وتأويلاته في التأثير على نفسية تلك الراقصة، مثلما ظهر في التسعينات منشد ديني مصري وهو يغني اغاني مختلفة تماماً في جوها عن الجو الروحي للأناشيد الدينية التي كان يؤديها قبل ذلك، لأن شعوراً بالغرور انتابه لما اخبره احدهم ان صوته جميل جداً وسيكون له جمهور كبير اذا غنى لهم .. الذين ينظرون الى الدين على انه مجموعة تصرفات وسلوكيات هدفها الأساس الحصول على هوية اجتماعية مقبولة تمنحهم حضوراً بارزاً مقبولاً بين الناس، يتصرفون حسب البيئة الاجتماعية، والمكانة التي يتواجدون فيها، فتجد المرأة التي تعتقد بأن الحجاب عرف اجتماعي اكثر منه التزام ديني، تلتزم بنمط الحجاب حسب طبيعة الحدث او المكان الذي تتواجد فيه، قد يتبنى الشخص ايديولوجيا معينة لانه وجدها تلائم بنيته الشخصية، وقد يطوّع بنيته الشخصية لخدمة ايديولوجيا معينة، وقد يصبح الدين في ظروف كالتي يعيشها جيل اليوم حاجة يقتضيها الواقع من حيث رغبة الناس الى الشعور بالأمان وراحة البال، فيتقلص بذلك دوره من جوهر للحياة الى حاجة من حاجاتها كما في سيدة اكاديمية  ظهرت محجبة محتشمة وهي تزور احدى دور العبادة، وظهرت متبرجة في مطعم عائلي ومرفق سياحي، ولم يكن بادياً عليها انها تعاني تناقضاً او اضطراباً ولا تجد نفسها مضطرة الى الاستجابة للمجاملات الاجتماعية، فهي تعتقد ان من اللياقة لبس الحجاب في اماكن العبادة كما انه من اللائق الظهور بملابس جميلة ملونة وشعر مكشوف ومكياج مميز في اماكن اجتماعية عامة، انها ترى نفسها موفقة في وضع الشيء الصحيح مكانه، ولعل توجه الشارع هذه الأيام يدفع باتجاه هكذا انماط سلوكية، فقد تعرضت وزيرة الاتصالات العراقية دكتورة هيام الياسري الى حملة انتقادات بسبب حجابها وملابسها المحتشمة , ونقلت قناة الخليج 24 عن وكالة فرانس برس ان السعودية سمحت للنساء بارتياد شواطىء الممكلة التي كانت حكراً على الأجانب وسمحت لهن بارتداء  ” البكيني”، وعدّ بعضهم ظهور عروس تونسية في مقطع فديو وهي تخلع بدلة الزفاف لترقص بين الحضور بملابسها الداخلية، انه تعبير شخصي عن شدة فرحتها بيوم زفافها، بينما عدّه اخرون تصرفاً مشيناً مخلاً بالذوق العام .. يقول آلبورت ” الشخص ذو التوجه الظاهري يستغل دينه، بينما ذو التوجه الجوهري يعيش دينه” .

العقل البشري تبرمجه اللغة، فإن صحت صحّ التفكير وصدر عنه إدراكاً واعياً للذات .. ان ضعف ادراك المرأة لهويتها الانسانية يدفعها باتجاه إظهار انوثتها في المجتمع الذكوري لأمرين اساسيين، اولهما ارسال دعوة الى المجتمع عبر التبرج، للنظر اليها نظرة عطف او لطف، وهو الجانب المرن في الشخصية الذكورية في المجتمع العربي، لكي تضمن سلامة حضورها دون اذى قدر الإمكان، والامر الثاني، انها تحاول من خلال شكلها وملابسها ان تبرز هويتها المهنية او الاجتماعية او .. في عيون الآخرين في مجتمع لا يعطي للهوية الانسانية حضورها الاكبر مثلما يعطي للهوية النوعية، فقد نرى انتقاد الناس تبرج ربت البيت وغظهم الطرف عن تبرج الموظفة في البيئة الاجتماعية الواحدة ..

يهيىء مناخ الفوضى في اي بلد جواً مناسباً لابتعاد او انشغال المجتمع عن اداء دوره التربوي تجاه ابنائه وتعاني الاسرة اضطراباً في حركة نموها داخل البيت وهي مرتبطة بكثير من سلبيات الواقع الحياتي في الشارع، فمن المهم جداً ان نأخذ بنظر الاعتبار التجانس الاجتماعي في مناقشة اي إشكالية او ظاهرة او مشكلة او دعوة .

ان محاولات إعلاء قيمة الفرد الشخصية دون ضوابط وثوابت وقواعد من شأنه ان ينتج هوية فردية غير هادفة، مثلما يحدث مع المثليين والمنحرفين والمتحولين بايولوجياً والمتطرفين فكرياً، هذه الانشطة لا تقدم لمسيرة البشرية جديداً يخدم وعيها وادراكها للذات ادراكاً يسهم في تحجيم وحل المشاكل التي تواجهها، ربما على العكس، فإن هذا الإعلاء الفردي وبهذه الصورة، وفي هذه الفترة المرتبكة والمربكة من عمر الانسانية يسهم في صرف انظار الناس عما ينتظرهم من مشاكل يتوقعها علماء المستقبليات .

تلعب السياسة العالمية على وتر حساس جداً، فهي تدعو الى الاهتمام بقيمة للشخص  وحريته التي اعلنها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الانسان، فهو حر في التعبير والتفكير والتقرير والتغيير، ولكن هذا التغليب للهوية الفردية في زمن وفرة المعلومات وشحة الوعي نتيجة اضطراب في القدرة على معرفة الصحيح من الخطأ، مع ازدياد اعداد الفقراء وظهور فقر الرفاهية عند آخرين، يستهوي الفرد لأنه يفتقر الى مقومات الشعور الجمعي ويعيش فراغاً نفسياً وعاطفياً وثقافياً، وكان من الصراع النفسي الذي يعيشه الفرد انه اخذ يبرر سلوكياته الخاطئة من خلال مفاهيم انسانية، كأن تبرر امرأة عملها في النوادي الليلية بإعالتها عدداً من الفقراء، وقد يبرر رجل دين ظهوره في اماكن تتنافى مع حرمة الزي الديني الذي يلبسه، انه لا يتجاوز الموروث، لكنه يرفض تقييد ماهو طبيعي واعتيادي مثل ملاطفة النساء ومداعبة الصغار مادام لا يصل الى ارتكابه المحرم ..

يدفع الفقراء حياتهم ثمناً لصراع الهويات الفردية لجهات واشخاص في مواقع القرار في البلاد، فهم الأسهل تجنيداً اوقات الحروب والأزمات والصراعات، في حالات السلم حيث يجري تقسيم الهويات بدون اسلحة، فإن فقر الرفاهية الذي يعاني منه كثير من الشباب، يقودهم الى تبني تقسيم الهويات من حيث لا يشعرون، فهم يفعلون ذلك ليحصلوا على موبايل احدث أو سيارة احدث، لذا فهم لا ينتبهون الى ان سعيهم هذا يبعدهم عن هويات اخرى عليهم تفعيلها في حياتهم مثل الهوية الانسانية والهوية الإسلامية والهوية الاجتماعية والهوية الثقافية، فقد صار واحدهم معني اكثر مما ينبغي بتفعيل هويته الاقتصادية، فهو يريد ان يكون في افضل حال بأسرع وقت وأيسر السبل، وقد يقدّم لهذا الغرض تنازلات تطال هويته الدينية أو الاخلاقية، أو ..

يحاط المجتمع اليوم بمجموعة مشاعر غريبة تفرض نفسها عليه في واقع منهك اقتصادياً ومشتت سياسياً ومنفلت امنياً ومتردي تربوياً ومصاب اخلاقياً، وكل هذا يتضارب مع الهوية الإسلامية، وهو ما دفعه الى التفكير بعدم جدوى الدين في هذه المرحلة، لذا لم يعد يجد ما يدعوه الى التمسك بالهوية الدينية مثلما يجد مبررات كثيرة تدعوه الى المضي في طريق المشاريع الصناعية الاقتصادية العالمية  وان كانت تشعره بالتبعية التي يترتب عليها شعوراً بتدني قيمة الذات واختراق الخصوصية، فالواقع يفرض في كثير من الأحيان اموراً لا نقبلها .

ان تعدد الهويات مهم وضروري، ولا يعوق نمو الوعي الجمعي، فقد يبدو طبيعياً ان تكون للفرد هويته الدينية وهويته المهنية وهويته الاجتماعية وهويته الثقافية، لكن المخيف هو ان لا تتحرك تلك الهويات في ذاته بالمستوى نفسه، وما التطرف إلا نتاج تغليب هوية معينة على غيرها، ولنا ان نتصور اهمية تعدد الهويات من خلال المشاهد المخزية والمحزنة التي مرّت بالعراق، بلد التعدد الديني والمذهبي والقومي والعرقي، فقد تمكنت التنظيمات الارهابية من ايجاد قاعدة لها في مواقع ومناطق تحركت من خلالها لتوسيع دائرة العنف والقتل على الهوية .

 اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الهويات القومية والوطنية اصدرتها الظروف السياسية والاقتصادية لبلداننا في عهود الاحتلال والاستعمار ومن ثم في عهد التحولات الثقافية والتطورات التقنية والثورات العلمية، فإن اكساب الإرهاب هوية إسلامية من قبل السياسات الغربية، هي محاولة لتشويه الهوية الإسلامية الغالبة على طبيعة البلدان العربية، وهي بذلك تعمل على إبعاد الجيل الحالي والاجيال القادمة عن الهوية الإسلامية لإرتباطها بالعنف والارهاب، وهما صفتان مرفوضتان اجتماعياً سواء في بلدان الغرب او بلدان الشرق، وهي محاولة لجر الشباب الى صياغة جديدة لهوياتهم في بلدانم، ان في ظهور حالات الشذوذ والتطرف سواء في مجالات الفكر او الاخلاق او السلوك ما يدلل على هذا المشروع العالمي ..

ومن المفيد ان نذكر ان دعوات تحرير المرأة اليوم تظهر في فترة يتعرض فيها المجتمع الى اختناقات واحتقانات واشكاليات بسبب الاوضاع العامة عالمياً واقليمياً ومحلياً لمختلف بلدان العالم على اختلاف مواقعها الجغرافية وقدراتها الاقتصادية ومواردها البشرية وامكاناتها الثقافية وخلفياتها الحضارية وتاريخها الديني والادبي والاخلاقي، وبالتالي فإن المجتمع يتعرض الى ما يدفعه باتجاه القبول او الاستسلام لضغوطات الواقع بعد ان اصيب بالضعف في قدرته على تفعيل الرقابة المجتمعية، فبدت هنا وهناك سلوكيات غريبة او هي شاذة في رأي بعضهم وخطيرة في رأي اخرين مثل تشبه بعض الشباب بالبنات في اعادة بعض الشباب مكننة حركة اجسامهم ليغدو اقرب فسيولوجياً الى جسم المرأة منه الى جسم الرجل، يضاف الى ذلك ما تشهده من قصات شعر ومكياج يظهر بها بعض الشباب .. انها قضية خطيرة تدفع بالمجتمع يوماً بعد آخر الى التفريط بأهم شريحة فيه وهي الشباب، فإذا ما التبس على الشاب امر رجولته، شعرت المرأة  بتهديد يطال انوثتها، لأن الفطرة البشرية للمرأة تقوم على البحث عن مصادر الاطمئنان بوجود رجل يرعاها ويتكفلها ويحميها لتعيش وجودها معه كما هو الحال مع الرجل، وعندما اريد التلاعب بجينات الفطرة البشرية بهدف انتاج جيل لا يعرف هويته البيولوجية، فإنه لا شك جيل فاقد لأي قدرة على تكوين هويته الشخصية والفكرية والثقافية تكويناً سليماً، ولعل اخطر ما استشعره في طروحات حرية المرأة اليوم هو ان المجتمع معرّض الى التفريط بالمرأة، واذا حصل هذا، فهو يحكم على مستقبل الحياة بالعقم، لأنه لن يعود بوسع المجتمع الاستمرار على النمط الذي اريد للبشرية ان تنشأ عليه، وقد يدخل التاريخ ولأول مرة مرحلة التشويه بعدما يتم الإعداد لظهور جيل فاقد لهويته البيولوجية، او هو غير متأكد من نوعها، او هو يضع احتمالاً مستقبلياً لإعادة تعريفها من جديد على وفق ميول نفسية دون النظر في المناخ العام الذي تتولد فيه هذه الميول، ولقد نسمع هنا وهناك عن توجه الغرب الى الغاء فقرة نوع الجنس في لائحة التعليمات المراد من الشخص املاؤها لدخول المدرسة او المستشفى او غيرها، وهناك توجهات الى تجاوز مفهوم الاسرة المتكونة من اب وام واولاد وترك هذا التحديد مفتوحا على اكثر من احتمال في اشارة الى امكانية تكوين اسرة من رجلين واولاد او امرأتين واولاد، او .. او..

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم