دراسات وبحوث

الديانة المورمونية.. من التجديف العقدي الى الشطح الفلسفي

إنّ من يتأمل تاريخ الديانات الوضعية الحديثة سوف يُدرك أنها قد انطلقت استجابة لآراء ونظريات ومذاهب وانقلابات سياسية وأهواء أخلاقية رغبةً في إصلاح قضايا اجتماعية وإرضاءً لنزاعات إنسانية، وذلك كله بعد  أن عجزت الديانات السماوية القائمة في زعم أربابها من تحقيق الأمن والسلم والسعادة للمؤمنين بها.

وبغض النظر عن البيئات الثقافية التي ساعدت في انتشار هذه المِلل، والمصدر الرئيس الذي حَبك وسَبك تلك التصورات الجامعة بين السياق الأسطوري والمسحة الروحية من جهة، والرؤى النقدية العقلية العلمية من جهة ثانية، والأزمة الأخلاقية والفراغ العاطفي والرغبة في إصلاح الواقع من جهة ثالثة، والتأكيد على قدرة الإنسان على خلق العالم الموازي الشاغل بالأسرار والغيبيات والمعجزات واجتذاب المؤيدين للحق المغترب والمهدي الغائب المؤيد من السماء من جهة رابعة، كل ذلك سوف يمكن المُفكك والمُؤول لهذه الأنساق الاعتقادية أن جميعها لم يضف على الواقع المعيش إلا مزيدٌ من القلق والخوف واليأس والاغتراب والرغبة في الانتحار والعنف والصراع وغير ذلك من الآلام التي يمسي فيها الإنسان بائساً حزيناً مستلباً.

وسوف يتعجب المتأمل من تلك الأكاذيب البدعية والحيل التي اصطبغت بها بنية جُل الديانات الوضعية، وتلك النسقية المضطربة الجامعة بين المقدس والمدنس، وذلك التلفيق بين العقيدة والفلسفة، وطرافة النسيج الخيالي الجاذب للعقلاء والمُفكرين قبل الجهلاء المُعدمين من العوام المعوزين في مجتمعات جحدت الغيبيات واتخذت من الإلحاد عقيدة حسيّة، ومن الشهوات المادية سبيلاً للعيش ودستوراً للحياة.

وخيرُ شاهد على ما سبق هو ما ورد في الديانات الأمريكية المعاصرة، وعلى رأسها المورمونية صنيعة الفكر الصهيوني الراغب دوماً في الترويج لهذه الأفكار العفنة المخربة.

أهم المعتقدات والشرائع التي روج لها المرمونيون:

أصول التبشير:

يقوم شبان من المبشرين الأمريكان بدق أبواب مساكن المرغوب في اجتذابهم وإقناعهم بالانتماء إلى الملة المورمونية حاملان العهد الجديد وكتاب المورمون ليعلمان بهما أهل الدار التي طرقا أبوابها شريطة أن يمضي سنتان على عملية التبشير قبل أن يعاود أحد المبشرين طرق أبواب هذه الدار ثانية وذلك لمنح الفرصة الكاملة أمام المريدين بالدخول إلى الملة طواعية بعد استيعابهم لأصول التعاليم وقواعد العقيدة عن طريق الحوار الدعوي الذي يتدرب عليه المُبشرين قبل مباشرتهم لأعمالهم، ويؤكد المؤرخون للمورمونية أن دور الدعاة المُبشرين – الذي بلغ عددهم نحو 30 ألف مُبشراً في نهاية القرن العشرين- لم يقف عند الدعوة والنصح والإرشاد بل أمتد إلى تقديم الكثير من المعونات المادية للفقراء ورعاية أسرهم اجتماعياً وصحياً وتعليمياً في الجامعة التي أُطلق عليها “بريغام يونغ”، وقد تأسست عام 1875م في مدنية بروفو بولاية يوتاه بأمريكا التي شيدتها الكنيسة المورمونية، وأضحى عدد طلابها نحو 25 ألف طالب.

ومن الطريف أن نجد أتباع المورمونية في مصر منذ عام 1977م، وذلك على يد بعض المبشرين العاملين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد احتجت الكنيسة الأرثوذكسية على السماح لهم بالتبشير العلني بحجة أنها عقيدة فاسدة ومخالفة ومناهضة لتعاليم الكنيسة المصرية؛ بل اعتبرتها  إحدى الفرق الضالة والمُهرطقة. وبلغ عدد المورمونيين الأمريكان في مصر عام 1995م نحو 500 مورموني. ثم توسع المُبشرون الأمريكان في جذب الأتباع من المصريين تحت ستار التبشير بالبروتستانتية والكنيسة الإنجيلية الأمريكية. وكذا إيعاد المستجيبين بالكثير من التسهيلات للعمل بأمريكا. وتشير بعض الدراسات المعاصرة إلى انتشار هذه العقيدة بين اللبنانيين والأفارقة، وذلك تحت رعاية الدبلوماسيين الأمريكان المنتمين إلى المورمونية منذ بداية الألفية الثالثة.

قدسية الكنيسة المورمونية وتكفير الأغيار:

الإيمان بأن كل الكنائس المسيحية السابقة فاسدة والتعاليم اليهودية التوراتية الواردة في الكتاب المقدس محرّفة ويبدو كل ذلك في أقوال سميث (نبي المورمونية) أن اللاهوتيين الذين زعموا بأنهم ينطقون باسم الرب أبناء زانيات وأرباب الفُحش والكذب والاجتراء على يسوع المسيح، وأن ما جاءوا به في كتبهم محض تلفيق وتدليس، وأن كتاب المورمون هو أصدق كتاب مقدس على الأرض، وأن الكفر بكل ما هو دونه واجب، وأن الشريعة المورمونية ناسخة لكل الديانات السابقة بما في ذلك الإسلام. وأن النبي (سميث) هو الذي تلقى كلمات المخلّص يسوع المسيح، ومن ثم كانت طاعته واجبة وكنيسته هي المرشد الصادق للطوباوية حتى آخر الزمان. وأن أي شك أو ارتياب في كتاب المورمون يرجع إلى حديث الشيطان ووسوسته، وكيد المُحرّفين الذين أخفوا بعض شذرات كتاب المورمون المقدّسة حتى لا يُفضح غييهم وإفكهم.

وقد قُوبلت هذه الآراء بالرفض والاستنكار من قبل كل الطوائف المسيحية وجُل المذاهب اليهودية ويستثنى من ذلك معظم الصهاينة والمسيحيين الإنجيلين الأمريكان الذين آمنوا بالمورمونيّة. وتتمثل أهم الاعتراضات في أن حديث “سميث” عن الكتاب المقدس يخالف الحقيقة، وأن العبارات المنقولة من أسفاره وإصحاحاته التي استشهد بها مُخالفة لمتن الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس التي استغرقت ترجمتها إلى الإنجليزية الفترة من 1604م إلى 1611م، وظهرت طبعته الأولى عام 1612م. ويعني ذلك أن هذه الديانة قد أرتدى قساوستها عباءة المجددين والمصلحين لإنقاذ الشعوب التي تعاني من قسوة العوز المادي والفراغ الوجداني بخلاص دنيوي وسعادة أخروية للترويج لديانتهم .

نسخ قانون الإيمان وطبيعة المسيح:

أمّا زعم “سميث” بما جاء على لسان الرب يسوع المسيح بشأن قانون (الإيمان النيقي) المتفق عليه منذ 325م – وعُدل في 381م في مجمع القسطنطينية الأول – فهو لا يخلو من التدليس، ولا سيما المواضع التي ذكر فيها برهان نبوته وأخبار اليهود الصهاينة وكنيسة آخر الأيام وغير ذلك من الأكاذيب بداية من الألواح الذهبية ونهاية بنسخ الشريعة اليهودية وأقوال بطرس وبولس ويوحنا. بالإضافة إلى المسائل ذات الصلة بطبيعة السيد المسيح وخلاصه؛ فالإله في العقيدة المورمونية ليس مُشخصاً وليس له لحم ودم وطبيعة إنسانية كاملة كما يزعمون، وأنه لم يخلق العالم من العدم؛ بل كان عمله أقرب إلى التنظيم والتهذيب والهندسة شأن إله أفلاطون، وأن أبوته للبشر أبوة غير حقيقية قريبة الشبه بقصة ميلاد البشر في الأساطير الإغريقية والشرقية القديمة مثل (أسطورة الإله زيوس في الإغريقية)، والإله اندرا في الأساطير الهندية، والإله تينيا في الأساطير الأتروسكانية الإيطالية نحو 900ق.م، وكذا أسطورة إبيمثيوز اليونانية)، كما أكد المرمونيون أنه (أي يسوع المسيح) ليس إلهاً منفرداً للكون؛ بل هو عضو في مجمع الآلهة واختص بألوهية سكان العالم الأرضي، وأنه توأم الشيطان، وابن مريم من أحد آلهة السماء، وبكورة الاتصال الجنسي غير المباشر بين الآلهة والجنس البشري.

أمّا الروح القدوس فهو المسئول عن خلق أرواح الإلهة الصغرى في الكواكب الأخرى. وبذلك يُصبح الثالوث المُقدس المورموني على النقيض تماماً ممّا تؤمن به كل الكنائس المسيحية على اختلافها؛ فيسوع المسيح عند المورمونيين ليس إلهاً للكون بل هو عضو في مجمع الآلهة، وأنه مخلوق وليس خالق وله كل الصفات الآدمية وأنه ولد من اتصال جنسي بين الآب إله السماء والكون، ومريم – على نحو خاص- وكان ليسوع زوجات وأبناء وأنه مخلّص بالتفويض وليس له إرادة حرة مُطلقة، وأن الأقانيم الثلاثة التي تتحدّث عنها الأناجيل المسيحية ليست كياناً واحداً في شخص المسيح، بل هي أقانيم منفصلة في الوضع والحالة والزمان والقدرة ويستحيل جمعها في شخص واحد حتى على سبيل المجاز، وأن نصوص العهد الجديد مضطربة ومتناقضة في حديثها عن سيرة المسيح بداية من ولادته وصفاته ومعجزاته.

وعليه؛ لا يمكن الاعتماد أو الاحتجاج بها في سياق الحديث عن طبيعة المسيح. ومع ذلك كله فالعقيدة المورمونية تؤمن بمجد المسيح وقداسته وطهارته وصَلبه وعودته ثانية في آخر الزمان.

ويجمع اللاهوتيون المسيحيون على هرطقة تعاليم المورمونيين وتجديف زعمهم بأن نبيهم نبي آخر الزمان المتمم للشريعة والمُصحح لتحريف الكتاب المُقدس والناسخ للعقائد الإيمانية ومانح حرية تأويل الوحي للعقول البشرية بمعزل عن سلطة الكنيسة وأوهام القساوسة. وكل ذلك لا سند له ولا برهان على صحته عندهم. وينظر المجمع الكنسي لهذه العقيدة بعين الريبة والجحود ويعتبرها بدعةً مُحرمة يجب اجتنابها، وأنها من المعتقدات المهرطقة المعاصرة والمناهضة للاهوت المسيحي بعامة الأرثوذكسية بخاصة.

ويبدو بوضوح تأثر إنجيل مورمون بالعقيدة الآريوسية تلك التي وردت في كتاب “إلثاليا” الذي حرّره آريوس (256- 336م) بقلمه، وجاء فيه:

أن الإله واحد أزلي، غير مخلوق، لا بداية له ولا نهاية، وهو الحكيم الديان والذي لا ينقسم ولا يتحول ولا يتغير.

وهو الذي أنبثق عنه أبنه الوحيد يسوع، (أي أنه ابن بالتبني شأن غيره من المُختارين والمُصطفين) قبل كل الدهور، وبه خلق العالم وما فيه من الموجودات المحسوسة.

وأن يسوع لم يُولد كسائر البشر بل وجد بإرادة إلهية “كن فكان” فهو مخلوق ويستمد وجوده ومجده من الإله المُطلق (الآب)، فأضحى الكلمة التي لا تتغير، ومن ثمَّ كان وجود الآب سابقاً على كل الموجودات بما في ذلك الابن الذي خُلق بإرادة الإله قبل الزمن، وقبل كون العالم. هو قد نال حياته وكينونته من الآب، الذي أعطى مجده للابن، وأعطاه سلطاناً على كل شيء.

والخلاصة أن “جوزيف سميث” قد ذهب مع الآريوسيين إلى أن يسوع المسيح ليس إلهاً، وأنه ليس من جوهر الآب الخالق، كما أن الذي وُلد ونَمى وصُلب وتألم لا يمكن أن يكون الإله، ولا الكلمة الخالدة، بل هو الابن الذي تجسد في صورة يسوع البشري.

وإذا أمعنا النظر سوف نجد هذا التصور المورموني للقانون الإيماني الجديد قد تأثر إلى حد كبير بالكثير من الآراء الفلسفية المطربة والنحل العقديّة المجترئة، نذكر منها آراء البطريرك نسطوريوس (386- 451م) والفيلسوف الفرنسي أبيار أبيلار (1079- 1142م) والفيلسوف البوهيمي يان هوس (1369-1415م)، والفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو (1548م- 1600)، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677م) وغيرهم من الذين وسموا بالهرطقة لانتصارهم للعقل وتشكيكهم في سلامة الكتاب المقدس.

الأبوة الإلهيّة والبنوة البشريّة:

يُعلّم “سميث” في كتاب المورمون والأحاديث التي روتها زوجته عنه، بأن إله السماء له مئات الزوجات اللواتي وهبهن القدرة على الحمل والإنجاب، ثم وهب هذا الحمل الروحي المادة الجنينية التي حولت النطفة الروحية إلى لحم ودم، وتشكل في هيئة البشر ومخلوقات أخرى لها طبائع مختلفة مثل (المردة والجن والعفاريت والشياطين) وذلك وفق إرادته. ولم يُدرك الأنبياء السابقين حقيقة إله السماء فوقعوا في التجسيد والتشبيه واعتقدوا أن أبوته للبشر أبوة مادية، وأن مواقعته للبشريات أو الجنيات مواقعة حسية (زواج ونكاح). والحقيقة أنه اتصال جنسي مجازي وأبوة ربوبية ميتافيزيقية (أقرب إلى فيض أفلوطين أو تصورات الغنوصيين أو الهرامسة التي حولت الوجود الروحي إلى وجود مادي) وعليه؛ فالبشر في رأي المورمونيين “أبناء الرّب”، والرب أي الإله أباً لهم من أم بشرية مخلوقة في زمن سابق على اتصاله بها، والأمهات قد تشكلت وفق تصور إله السماء فحملت ببشر وملائكة ومردة وشياطين وعلى رأسهم آلهة صغرى تحكم الأجناس والأمم. وقد منح الرب لهؤلاء الآلهة الصغار بعض قدراته وخصاله وطباعه، وذلك وفق ما صورته الأساطير المتواترة. أما الأبناء فينمون ويكبرون ثم تموت أجسادهم وتعود أرواحهم إلى سابق عهدها بعد تطهيرها فتعود إلى المعيّة الربانية، أو تُرد ثانية في ميلاد ثاني في أجساد أخرى وفق طبائعها الجديدة. وهو تصور أقرب إلى الفكر الهندوسي الرواقي والبوذي وسيوصوفي (تناسخ الأرواح) وغير ذلك من تصوّرات الجماعات الروحيّة.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم