علوم

كمال الكوطي: الحقيقة العلمية من منظور "كوانطي"..

نموذج "فيرنر هايزنبرغ"

تقوم ميكانيكا الكوانطا على مبادئ أساسية شكلت جزءا من الغرابة التي ميزت ولا زالت تميز هذه النظرية الفيزيائية الحديثة (1):

أولهما: هو مبدأ التراكب principe de superposition، ويعبر عنه رياضيا بالصيغة التالية:

2462 كوانتم 1

فإذا كانت حالة état نسق فيزيائي هي A، وكانت B حالة ثانية مميزة لنفس النسق، فإن A+B هي أيضا حالة ممكنة، الأمر الذي لا يتماشى مع حدسنا المألوف: إذ أن الشيء إما أنه يوجد في الموقع A أو B (نفس الشيء يصدق على السرعة...ألخ)، وبالتالي لا يمكنه أن يوجد في الموقعين معا.

الثاني: يخص معادلة "شرودينجر" Schrödinger الشهيرة التي تصف لنا تطور نسق فيزيائي في الزمن، وصيغتها الرياضية هي كالآتي:

2462 كوانتم 2

أي الطاقة الإجمالية للنسق هي حاصل جمع الطاقة الكامنة بالطاقة الحركية.

أما الثالث: فيعود للفيزيائي المجري "فون نيومان" Von Neumann، ويتعلق بانهيار أو إختزال دالة الموجة (أو متجه الحالة vecteur d’état)، ويقول بأن عملية قياس النسق المدروس عادة ما تؤدي إلى إنهاء حالة التراكب، وبالتالي الحصول على حالة محددة، وهي الحالة التي قد تكون إما A أو B وليس A+B ، ويعبر عنه رياضيا بالصيغة التالية:

2462 كوانتم 3لكن التساؤل المطروح، هو: أي المبدأين سنختار لوصف النسق الفيزيائي، معادلة "شرودينجر" أم المبدأ القائل بانهيار دالة الموجة؟ هنا بالضبط يتجلى ما أصطلح على تسميته بمشكلة القياس في ميكانيكا الكوانطا. الأكثر من ذلك هو أن هذه المبادئ الثلاثة جعلت من مفهوم الواقع، ومن خلاله الحقيقة، مفهوما إشكاليا، فما الذي نعنيه بالواقع والحقيقة في هذه النظرية؟ بمعنى أخر هل هناك واقع منفصل عن الذات الملاحظة؟ وهل الحقيقة العلمية، بلغة "فان فريزن" Van Fraassen(2)، إبداع أم إكتشاف؟ (3). لن نجانب الصواب إن نحن قلنا بأن "هايزنبرغ" ينزع إلى اعتبار الحقيقة العلمية إبداعا وليس إكتشافا، فحين يقول: "لا تمثل المعادلات الرياضية الطبيعة بل المعرفة التي لدينا حولها." (4) فإن هذا يعني أن مهمة العلم لم تعد كما كانت في السابق، أي وصفا للطبيعة، أو استنساخا سلبي لمعطيات منظمة موجودة هاهنا قبل تدخل العقل،  بل وصفا للتجارب التي يقيمها العلماء، وهي التجارب التي أضحت أكثر دقة بفعل التقدم الذي أحرزته الفيزياء الذرية. من هنا بدأت تطفو على السطح مشكلات أساسية تخص منح تفسير، كما يقول "هايزنبرغ"، فلسفي لنظرية الكوانطا، وهو ما قاد أيضا إلى تضارب ما بين أراء العلماء بلغ حد التناقض. هذا الوضع ذهب ببعض الآباء المؤسسين ("اينشتاين" على رأسهم) لهذه النظرية إلى درجة اعتبارها ناقصة وغير مكتملة، لأنها في نظرهم لا تستجيب لنموذج الحقيقة العلمية القديم، وعلى وجه الخصوص نموذج الواقعانية الفيزيائية le réalisme physique  الذي طبع الفيزياء الكلاسيكية. لكن هل هذا يعني أن الإطار النظري الذي شكلته هذه الفيزياء الأخيرة طيلة ثلاثة قرون هو إطار نهائي يلزم أن تخضع لمفاهيمه وقوانينه مجمل الظواهر الطبيعية؟

بخصوص هذه المسألة اعتبر "هايزنبرغ" بأن لا وجود لما أسماه "بالحلول النهائية"، فقد أوضح بأن مجال علم الطبيعة الدقيق لم يعرف أبدا مثل هذه الحلول سوى في بعض مجالات التجربة المحدودة جدا. هكذا، على سبيل المثال، وجدت المشكلات التي طرحتها مفاهيم الميكانيكا النيوتونية Newtonien حلها النهائي داخل قوانين "نيوتن" والخلاصات الرياضية الناتجة عنها. لكن هذه الحلول لا تتجاوز المفاهيم والتساؤلات التي تطرحها تلك الميكانيكا، لهذا لم يكن بالإمكان إخضاع علم الكهرباء مثلا للتحليل القائم على هذه المفاهيم. من تم عمل هذا العلم الجديد على تشييد أنساق مفاهيمية مختلفة، بشكل مكن القوانين الطبيعية لعلم الكهرباء من إكتساب صياغة رياضية نهائية. من هذا المنطلق يدل مفهوم "نهائي"، عند تطبيقه على العلوم الطبيعية الدقيقة، على وجود أنساق مفاهيمية، وقوانين تشكل كلا منغلقا قابلا للصياغة الرياضية؛ أنساق تصدق على بعض مجالات التجربة، حيث تكتسي صلاحية كونية، بشكل لا تقبل معه تغييرا أو تجديدا. لهذا لا يمكن أن نأمل تمثيل حقول جديدة من التجربة بإعتماد نفس المفاهيم والقوانين. تماما كما هو الحال في فيزياء الكوانطا حيث لا تستطيع مفاهيمها وقوانينها أن توصف بكونها نهائية إلا بهذا المعنى المحدود جدا حيث تصير المعرفة العلمية ثابتة بشكل نهائي داخل هذه اللغة الرياضية أو تلك. فالقوانين المعبرة عن الحق، مثلا، متغيرة بتغير الشروط والظروف ومع بروز كل مستجد جديد وطارئ، لكن فكرة الحق موجودة في ذاتها دوما وأبدا. نفس التحليل يصدق على علوم الطبيعة، التي تنطلق من تصور مفاده بأنه بالإمكان دوما فهم الطبيعة في كل ميدان جديد من ميادين التجربة، وبالتالي لا يمكن إضفاء طابع الإطلاقية على نسق نظري سابق مهما كانت النجاحات التي راكمها. ويكفي هنا التذكير بالنقاش الذي دار حول طبيعة الضوء، والتصورات النظرية المتضاربة بشأنه، وحول أيضا حقيقة وجود الذرات من عدمه، وإن كانت تمثل البناء النهائي للمادة، وإن كانت المادة جسيمات أم موجات...ألخ.

لكن، لا يجب أن يقودنا، بحسب "هايزنبرغ"، هذا الوضع إلى التقليل من قيمة وصلابة الأساس الذي يقوم عليه صرح العلوم الطبيعة، بل المطلوب هو فقط تغيير التصور المعتاد الذي لدينا حول مفهوم "الحقيقة العلمية". لذا يجب التأقلم مع وضع المعرفة الجديد حيث لم يعد بالإمكان "موضعة الطبيعة" objectivation de la nature، بقدر ما يلزمنا بناء علاقة معها. لهذا يقول "هايزنبرغ": "إذا كان مسموحا لنا الحديث عن صورة الطبيعة كما تقدمها لنا علومنا الدقيقة الحالية، فإن ما يلزمنا فهمه من هذا القول ليس صورة الطبيعة، بل صورة علاقتنا بها."(5). لم يعد ممكنا اعتبار ذلك التقسيم "الديكارتي" القديم للكون إلى وقائع موضوعية تجري في زمكان espace-temps (الجوهر الممتد) من جهة، ونفس بشرية âme humaine (جوهر مفكر) تنعكس عليها تلك الوقائع من جهة ثانية، لم يعد ممكنا اعتباره نقطة بداية إن نحن أردنا فهم علوم الطبيعة الحديثة. بعبارة أخرى، إن المواجهة ما بين ذات عارفة بمقولاتها الخالدة(الفكر) وموضوع معرفة (الواقع) ماثل أمامها لم تعد صالحة لفهم خاصية التلازم الجدلي ما بين الذات والموضوع، حيث الأول يغير مفاهيمه وقوانينه بتفاعله مع واقع لا ينفك ينضب حيوية وعطاء مع كل اتساع لنطاق التجربة، وكل نفاذ لعمقها. إن الجانب الأهم، في نظر "هايزنبرغ"، هي شبكة العلاقات التي تربط الإنسان بالطبيعة باعتبارها الهدف الرئيس للعلم. وبفضلها، أي بفضل تلك العلاقات، نصير باعتبارنا مخلوقات فيزيائية حية أجزاء تابعة للطبيعة، لكن من منطلق أننا بشر نجعل منها في نفس الآن موضوعا لفكرنا ولممارستنا (6). وبما أن العلم لم يعد ينظر إلى الطبيعة كمتفرج، فإنه قد أصبح يتعرف على نفسه كجزء من تأثيرات متبادلة ما بين الطبيعة والإنسان. خلاصة القول: لم تعد الحقيقة صورة لواقع في ذاته منفصل عنا، بقدر ما هي صياغة وبناء نظري صادر عن تفاعل جدلي للذات العارفة مع موضوع التجربة.

 

كمال الكوطي

.......................

الهوامش:

1-  أقول حديثة وليس معاصرة بحيث دأب المهتمون بتاريخ وفلسفة العلوم إلى اعتبار الفيزياء الكلاسيكية تلك التي تمتد من "جاليلي" إلى "اينشتاين"، بينما خصصوا سمة حديثة لفيزياء ما بعد "اينشتاين"، فيزياء الكوانطا.

2-  للمزيد من التفاصيل أنظر كتابه:  The scientifique image : Oxford University Press Inc, New York, 1980.

3- لكثرة التفاصيل المرتبطة بهذه الإشكالية سأركز باختصار شديد في هذه الورقة على موقف "هايزنبرغ".

4- Heisenberg Werner : La nature dans la physique contemporaine, Editions Gallimard, 1962, p., 138

5- المرجع نفسه، أي: La nature dans la physique contemporaine, p., 142

6- تصور "هايزنبرغ" لعلاقة التداخل ما بين الذات الباحثة وموضوع البحث ناتج عن موقفه من مسألة القياس، وهو التصور الذي يتقاسمه مع كل من "نيلس بور" و"فولفجونج باولي"...، لكن "شرودينجر" عارضه لرفضه الشديد لما يسمى "بانهيار دالة الموجة"أو  "متجه الحالة" l’effondrement de la fonction d’onde ou du vecteur d’état.

 

 

في المثقف اليوم