تكريمات

شهادات حية: المعلم الباهر أ.د. عبد الرضا علي / شوكت الربيعي

 وأزمعت أن أرسله في نهاية اعمال ملف التكريم، الذي نشر على صفحات المثقف من 17-8 لغاية 15-9-2010، لأقدم تهنئتنا  الصادقة الى صديقي وعزيزي المعلم الكبير والعلامة الباحث الناقد لمناسبة تكريمه من قبل  مؤسسة المثقف العربي، شهادة تقدير. والآن،  أنحني اجلالا لعلمك ياسيدي، وأقبل تربة العراق بين يديك، وفوق جبينك، أيها المعلم الأديب البارع والباحث المتيقن بعلمه ومعرفته  والمتواشج أبدا بروح العصر، والمتطلع الى المستقبل في رؤيته..

 

(2) -  استذكار في مرابع الروح :  في الثلاثين يوماً من بقائي في صنعاء، عام 1994شعرت خلالها بشيء من الهدوء النفسي.وكنت أنوي زيارة المدن التاريخية في اليمن. ولكن ظروفاً طارئة، حالت دون ذلك.

ازدادت العلاقات التي ربطتني بالمثقفين اليمانيين، وغدت في الزيارة الثالثة، أشد عمقاً وأوسع مدى من ذي قبل. فقد جئت هذه المرة الى جامعة صنعاء أستاذا زائرا في كلية الأعلام، قسم الصحافة. حاولنا أن نؤسس مشروعاً فنيا ثقافياً يستقطب وينمي الطاقات الشابة في الجامعة، وينهض بمستويات الطلبة الإبداعية. وكنت آمل أن تتحول فكرة تأسيس محترف فني، يعنى بالرسم والتصميم والطباعة والخط والزخرفة الإسلامية وتصميم الملصقات الجدارية والإعلان. وترتبط الفكرة أساساً بالمنهج الدراسي المقرر في كلية الاعلام. لأن الفكرة تحمل نواة مشروع ثقافي تأسيسي.. وهكذا  كنا نعشق الأفكار الجميلة، ونسعى إلى تجسيدها بأحلام اليقظة.. ويزداد عشقنا لها كلما بدت لنا بعيدة المنال.              

ولكن.. ربما جنيت من مرابع السفر، سنابل الوصل، مع أصدقاء باعدتنا ظروف الحياة عن اللقاء مجددا، كما حدث مع الصديق الكاتب الباحث د. عبد الرضا علي، الذي تمتد علاقتي به ثقافياً، الى فترة الستينيات، الفترة الذهبية المزدهرة في العراق. فقد كنا في أتون ذلك البناء الثقافي الشامخ، منشغلين ببناء أنفسنا. وكان هو أديباً ناقداً متابعاً، ينشر هنا ويكتب هناك ويناقش ويحاور في هذه الندوة أو تلك. وكان يغرف من روحه وينقل عن وحيه، في ما كتب فأبدع، وفي ما بحث، فصوّر أعمق ممّا وصف. يكثر الحزّ ولا يصيب المفصل. وما قرأت كلاماً أجزل في رقة ولا أعمق في يسر، ولا أبلغ في إيجاز، من مفاصل بحثه في تجربة الشعر العربي الحديث، وبخاصة، كتاب " نازك الملائكة ناقدة ". وكتابه الأثير عن (السيّاب)..

لقد كان ثملاً في التعرف على نافذة الشعر ودراسته، فرفع وعيه بذلك إلى مقام الفكر المتأمل فالناقد، على قدر فكره فرؤاه. وهكذا بدأ خطوة البحث بلطف القول والمعنى.. وهو حينما تخرج في جامعة بغداد عام 1970 وحصل على الماجستير من القاهرة عام 1976. كان قد أنجز كتابه البكر "الأسطورة في شعر السيّاب" وطبعه في بغداد عام 1978. وأصدر بالتعاون مع صديقه د. سعيد الزبيدي، كتاب " الجواهري " في جامعة الموصل، " كلمات وتنهدات " عام 1980. وعقد العزم على نيل الدكتوراه من جامعة بغداد عام 1987 ليعود مجدداً، هذه المرة مع سفر مشترك جديد بعنوان " في النقد الأدبي الحديث " عام 1989 مع د. فائق مصطفى. ثم يغدق من خرائد فكره، على عقول وعواطف القراء، وهم يطيلون الجلوس بسفر صفحات كتابٍ أساس آخر هو " نازك الملائكة، ناقدة"، وذلك في عام 1995.. أتحفنا بجوهرة أخرى شعّت عنوان " دراسات في الشعر العربي المعاصر"، طبعه في بيروت عن المؤسسة العربية، عام 1996. ثم انتدب للعمل في جامعة صنعاء عام 1993. التقيت به مجددا بعد عام واحد من وصوله اليمن، واستمرت علاقتنا الحميمة عبر الرسائل والهواتف و" الفاكس"  "حتى لو حللت ربوع نجم " على هدي ما قاله العزيز الباهي، المقالح، الموصوف بمعاني ذاكرة الإبداع، في شعره وأدبه وعطائه، الذي بنوره دلني على "قبر مالك بن الريب".. إن الشجى يبعث الشجى ويستوقد زمان الرقة، ويشدّ الوجدان، هديا إلى ارتجافات الأعماق. فكانت تجارب المبدعين، قد ألهمتني كيف أتدارك شيخوخة العصافير المبكرة في داخلي وأنا بحاجة الى اتساع قلوب الذين لا يتعبون من حمل ذرة من أوجاعي: أوجاع رسام يتشح بسواد الغربة. أخاطب فيهم المبدع منفرداً، دون أن أثقل عليهم نواحي، لعلمي بعمق مياههم، واتساع أفقهم، بينما تفد إليهم أشواقي وفادة المحبين ".

في أواخر عام 1996 وأوائل عام 1997، لم أتصل كعهدي السابق بصديقي د. فلاح ( بعد وفاة أبيه الشاعر الكبير الجواهري (في الشام).. وكان (مغتاضاً) جداً، لأنه لم يتوقع مني بالذات عدم مواساته حتى ولو برسالة أو هاتف. وكان على حق لأنه لم يعلم بظروفي الصعبة آنذاك. عدت مجدداً الاتصال به هاتفياً وعادت المياه الى سواقيها العذبة. وهو يسكن الآن مع عائلته في السويد، وفتح له قاعة عرض فنية في جنوب فرنسا). وقد كتبت إليه رسالةً خاطبته فيها: بأنه ليس وحده الذي شعر بفقد شاعر أمة العرب. إذ قلّة هم الشعراء، من المحدثين المؤثرين، بين المتنبي والبحتري وأبي تمام والعباس بن الأحنف وأبو نؤاس، وبين (الجواهري).. ولكن الشعر العربي الحديث، ونحن في أواخر القرن العشرين، هو الذي فقد رائداً من روّاده، ومعلماً من أعلامه، ومؤرخاً لجانب من روائع مفاصله. "نحن" لا نرثيه، بل نستمد من تجربته، القوة على الحياة.

 

(3) -   كانت تجربة المعلم الباحث أ.د. عبد الرضا علي تتجدد، أصالة  وخصوبة وقيمية ابداعية وحياتية وفكرية .. ومن آيات ذلك فيوض أدبه وعلمه المستمر في روح قيمية كتاباته النقدية..  وقد باحت قيمه ومثالبه، بازدهار فترة العقد السادس من القرن العشرين المنصرم فنياً. مما جعل منطلقات فكره تشهد على ثمرة التيارالنقدي  الذي يحمل سمات رؤيته المحدثة المتميزة  المتواصلة مع مديات مستقبلها.  وهنا يظهر دوره  الفاعل في التمهيد لها من خلال تطويره مفهوم النقد ومعناه الروحي والعقلي وهدفه وغاياته التربوية، بضوء قيمته الجمالية والوظيفية، وذلك ما بين اكتشافه المبكر لمفردات ومصطلحات لاتقرأ كمثلها شبيها بين مناهج نقدة الأدب العربي الحديث. ابتداء من الناقد الرفيع الدكتور على جواد الطاهر ومؤلفاته ودراساته وبحوثه ومقالاته، والى  الأعمال النقدية التي كتبها د. شجاع مسلم العاني، والدكتور عبد الآله أحمد، ود. عناد غزوان،  ومجموعة من النقاد العراقيين ( فاضل ثامر، مالك المطلبي، حاتم الصقر، باقر محمد جاسم ويسين النصير وسليم عبد القادر، وغيرهم من الجيل السابق) ولو أنهم كشفوا عن تقصير واضح في انعزالهم عن المفاهيم المستجدة التي جاءت بمفرداتها البنيوية، والسيميولوجيا، وعلم الدلالة، وتطبيقها على نحو واسع في مجالات الأدب العراقي. وكشفت نصوصهم عن مكانة وقيمة وأهمية النقد العراقي التقليدي أواسط الثمانينات، في واقع الأمر، فكان النقاد في العراق منبهرين أمام موجة النقد الجديد التي تجاوزتهم بما لا يقاس، ثراء وحداثة موجة النقد الجديد القادمة من بلدان المغرب العربي. (.. إن من جملة الأسباب التي جعلت النقد العراقي يرتاب بالنقد البنيوي هو أن هذا النوع الجديد القادم من شمال المغرب العربي يستبعد من موضوعه كل اعتبار حول قصد العمل، ويزيح أية علاقة بين النص والقيم السوسيولوجية المنتجة له، ويستند هذا النقد إلى نوع من إعادة الترتيب، والتنظيم للعناصر المؤلفة للنص، بعيداً عن الأيديولوجيا التي تحكمه، أنه يحيا عبر علاقة تأثير وغائية ينحو به إلى أن يكون شيئاً وغرضاً، وينزله إلى مستوى المعرفة المجملة للكائن البشري، ولا يؤوله إلا بتقنياته، ولا يفسره إلا بسياقه النحوي، لا بسياقه التاريخي وبدلالته القائمة على علاقات الشكل، لا بمضمونه الأيديولوجي، إنه مفهوم المجال الذي يستبعد كل ضرورة كامنة خارج العلاقات المكونة لنص.) (*)  وقبل ذاك، كان السائد في تلك الفترة دعوة (الأدب العصري) التي جاءت بها مجلات المقتطف والهلال والمقطم من القاهرة، ومثلما كان النقد العراقي آنذاك منشغلاً بالشروح الفقهية، ودائرة التأليفات اللغوية كان في الثمانينات منشغلاً بالمقاربات السيوسيوتاريخية، والأيديولوجية، والماركسية، والوجودية، ومثلما كان المثقفون في المراكز العلمية والدينية (في النجف، والحيدرخانة) منشغلين بالأيديولوجيا المؤسسة للنصوص، كان النقد في العراق يتبنى بشكل جذري التحليل المضموني للنصوص، وهو النقد الذي يستجيب لحاجات أيديولوجية وأخلاقية أكثر من استجاباته إلى الحاجات الفنية والتقنية والجمالية.) (*) بينما كانت رؤية الباحث الحداثوي المتجدد أ.د. عبد الرضا علي، تبحث عن التوازن في شكل العمل الفني، كما المبدع ينشغل في أي عمل فني.  كما الرسام والنحات والموسيقار والمؤدي والكاتب والناقد لخلق معادلة توازن،(..بين النص وما يدلل عليه، وبين المنتج والقارئ ) (*)  لذلك تتجلى الأسباب من وراء شيوع أغراض وأهداف بحوثه وكتبه، لحقق نوعا من الإلهام المؤثر الفاعل في المجتمع . وتلك غاية نبيلة سعى اليها المبدعون في مختلف النشاطات الثقافية والفنية كافة.(..  هذا اذا نظرنا إلى أن الشكل في الفنون التشكيلية يجب أن يكون مكانياً، أما الأدب الذي يستعمل اللغة المؤلفة من كلمات متتالية تتقدم عبر زمن ما... يجب أن يعتمد على شكل ما من التسلسل القصصي. لكن الناقد يرى أن أعمالاً أدبية كبيرة صدرت في القرن العشرين: (نشيد الكانتونات) لعزرا باوند و(الأرض والخراب) لأليوت، و(يولسيس) لجيمس جويس و(التخلص من الزمن الضائع) لمارسيل بروست، قلبت هذا المنظور، وصار الشعر الحديث في رأي فرانك" يتميز بشكل جمالي يعتمد على منطق مكاني، بحيث صار يتطلب من القارئ إعادة تنظيم كاملة لتفكيره، في اللغة التي باتت في القصيدة الحديثة -عاكسة- وأصبحت الرابطة بين المعاني فيها -أي في القصيدة الحديثة- لا تتم إلا بإدراك القارئ للمجموعات الكلامية في آن واحد من حيث المكان (ونحن عندما نقرؤها متتالية من حيث التسلسل الزمني فإنها لا تملك أي علاقة مفهومة بين بعضها والبعض الآخر. ويعيدنا الأمر إلى ما ذكرناه سابقاً من أن القصيدة الحديثة تعتمد على مجموعة من الجمل المتجاورة والتي تخلو من أدوات الربط وتكون بمجموعها كاللوحة في الفن التشكيلي، ومن الجدير بالذكر هنا أن النية الفضائية أو المكانية للقصيدة، والقائمة على التوازي، صارت مع جيرار هوبكنس وياكوبسون وتودوروف من المسلمات أو البديهيات المعروفة اليوم.) (*)( قراءات فـي الأدب والنقد) لهذا يشيراسلوب  الكاتب الناقد د. عبد الرضا علي،  بكل يقين،  الى عمق وسهولة وبساطة منهجه، المتلازم مع قيم المجتمع، حتى قبل أن ينهي مراحل دراساته الجامعية: (الليسانس واالماجستير والدكتوراه.). ولقد تبلورت خصوصية منهجه النقدي،  تجربة بعد ثانية، في تمييزها الضروري بين المنهج، والعملية النقدية بوصفها واقعة تجريبية. بينما غدا النقد الأدبي السائد في العراق، متخلفا عن ركب النقد الحديث الشائد في مغرب الوطن العربي، قياسا ومقارنة بالمنهج الذي طبع مسيرة النقد العراقي على مدى قرن كامل (منذ صدور أول تعليق نقدي في مجلة خردلة العلوم أوائل هذا القرن، إلى يومنا هذا). (*).

 

(4) - لقد انطبعت سيرة ورؤية الباحث الحداثوي المتجدد (أ.د. عبد الرضا علي)، الفنية والسلوكية، بالمنحى التواصلي الاجتماعي وبتنمية علاقاته الدؤوبة مع رموز عصره من الأدباء والشعراء والموسيقيين والمؤدين والفنانين التشكيليين . نجده منذ البداية يشع وهج قلمه الملتزم الصريح ويرعف  في الملاحق الثقافية التي كانت تصدر في بغداد والموصل والبصرة، ويدون آراءه بوحي الواثق المريد انمندفع بحيوية في مماحكاته الثقافية ومقالاته الأسبوعية، وهي تزدان بروح ريادة ما يطرحه في موضوعاته.  كان لا يتوخى منها الإثارة والضجة لغرض التباهي والتودد الشخصي، لكي يصبح من أصحاب أشهر نقدة الأدب في العراق، وبين أسماء كبار الكتاب والأساتذة من  المؤسسين في الثقافة العربية داخل العراق والوطن العربي. وكانت تجمعه ثوابت معرفية ومنطلقات وصداقات حميمة مع عمالقة منهم. اضافة الى علاقته الشخصية بطليعة الشعراء المحدثين والكتاب والصحفيين. انها كانت علاقات   تمثل زاده المبكر في الثقافة الأدبية والنقد الأدبي.  شوكت الربيعي

 

......................

(*)- لاحظ –ص7: من كتاب - د.  شجاع مسلم العاني- قراءات فـي الأدب والنقد- منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق -  -1999)من مقدمة بقلم الآستاذ علي بدر الذي كان يرى أيضا

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم