تجديد وتنوير

المنفلوطي بين الأصالة والاجتراء (2)

عصمت نصارإذا كانت الأقوال السابقة التى أوردتها «للمنفلوطي» تبرهن على أصالة خطابه؛ فحسبنا في السطور التالية الكشف عن الجانب الاجترائي في أقواله التى عبّر خلالها بشجاعة عن رفضه للكثير من الآراء السائدة والمعتقدات الفاسدة التى تبنتها معظم قادة الرأي المحافظين ونقلوها إلى الرأي العام والعقل الجمعي وجمهور العوام، الأمر الذى جعل منها مُثّلاً مقدسة لا ينبغي الخروج عليها أو العزوف عنها.

ومن أمثلة هذه المبادئ والأصول والآراء، الإجماع أو استبداد الكثرة وتقديس العوائد وجحد البدع واتهام الأغيار بالدُّونيّة والجهل وإقناع الجمهور بأن منبر الدين الذى فسّروه وأوّلوه هو عين الحقيقة ودونها باطل، فها هو يحتج على المفاهيم والأحكام الذائعة في الدين التى تستند إلى ما يطلقون عليه إجماع، مؤكدًا أن حجية الإجماع الشرعي ليست مطلقة بل مشروطة إمّا ببرهان نقلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، أو برهان عقلي لا يقبل الشك في صحته - بديهي لا يختلف عليه عاقل.

إنّ من يتأمل حجية الإجماع بذلك المعنى؛ فإننا نؤكد أنه يستمد قوته من حجية العلة التى يستند إليها فلم يجمع الفقهاء في الإسلام إلا على الواضح، الضروري والثابت من الوحى - مثل قواعد الإيمان وأصول الإسلام - أما ظني الدلالة من النصوص والمحتكم إلى الواقع من الفروع والمحتاج إلى إمعان النظر لاستنباط المقصد من الأوامر والنواهي، فليس فيه إجماع، بل هو موقوف على ظهور المجددين والمجتهدين وأصحاب الرأى لمسايرة الواقعات ومعالجة المشكلات التى تتعلق بأمور الدين والمجتمع، وأن من يشكك في أن الإجماع ليس حجة في ذاته عليه بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي واختلاف الأئمة الذى يعد برهانا على منهجية المفكرين في الاستنباط من جهة واحترامهم لرؤى الأغيار من المجتهدين بغض النظر عن كم المؤيدين أو المعارضين من جهة أخري.

وهو يتفق في ذلك مع «الشيخ حسن العطار» ومدرسة «الإمام محمد عبده»، الذين قدموا الاجتهاد في الأمور الظنية من الأمور الشرعية وبينوا أن تجديد الدين مرهون بوجود الاختلاف، كما أنهم أنكروا تمامًا الادعاء الشائع بأن خير المسلمين في التمسك أو الانتصار لرأي واحد حتى لو كان غير صائب مادامت الكثرة معه؛ فالمراد بالإجماع عندهم هو إجماع المجتهدين في كل عصر وأن رأيهم غير ملزم الآخذ به في عصرٍ آخر أو في أوضاع وظروف مغايرة لرأي المجمع عليه من السلف.

كما يرفض «محمد رشيد رضا (1865م - 1935م)» ما يدعيه بعض المحافظين بعصمة المجتهدين أو أهل الحل والعقد بل هو رأى الذى يصدق عليه الصواب والخطأ، ومن ثمّ فالمعيار هو المصلحة وتحقيق المقصد الشرعي.

ويضيف «عبدالحميد الزهراوي (1855م - 1916م)» أنه من العسير الوقوف على كل آراء المجتهدين قديمًاً وحديثًاً ومن ثم يصبح مصطلح الإجماع غير موجود في الحقيقة، ويشهد بذلك الواقع المعيش؛ فالقائلون بوجود الإجماع أقرب إلى الوهم منهم إلى الحقيقة، وأن «ابن تيمية (1263م - 1328م)» قرر بأن الإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم المعرفة بالمخالف.

ومن أقوال «المنفلوطي» في ذلك «ليس إجماع واحد أو عشرة آلاف أو مائة ألف متأثرين بشعور واحد مستمدين قوة واحدة على رأى من الآراء دليلًا على صحة ذلك الرأي، لأنه رأى فرد واحد تأثر به الباقي تقليدًاً وعدوى، ورأى الواحد مترجح بين الخطأ والصواب».

وقد تأثر بهذا الرأي «الشيخ على عبدالرازق (1888م - 1966م)» و«الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م - 1966م)» و«خالد محمد خالد (1920م - 1996م)» وغيرهم من المجددين في النصف الأول من القرن العشرين الذين صرحوا بأنه ليست هناك سلطة كهنوتية في الإسلام، وأن باب الاجتهاد لم يغلق بعد عصر الصحابة كما يزعم بعض المتعصبين من الجامدين الرجعيين.

وينتقل مفكرنا إلى الخصومات المذهبية والمناظرات الفكرية موضحًا أن تثاقف العلماء وتناظر المبدعين مطلوب دومًاً لتقدم الأمم وانتخاب الأفضل للتغلب على المشكلات وجلب المصالح وسد الاحتياجات.

أمّا التراشق اللفظي والتعصب المذهبي والعنف الطائفي واستبداد الكثرة أو أصحاب السلطة أو المتطرفين فكل هذه الأشكال غير مرغوبة تماماً، أمّا الاصطفاف والاجتماع على قرار فليس السبيل إليه تظاهر العوام وعلو أصواتهم باسم الديمقراطية ولا أصحاب المصالح من الحكام باسم القوة والهيمنة والسيطرة ولا بفتاوى المتعالمين من أرباب الفتن الملية والطائفية بل هو الاحتكام للعقل دومًاً والقراءة المتأنية للواقع والظروف المحيطة والمنفعة العامة وفهم دقيق لمقاصد المقدس ومآلاته.

ومن أقواله في ذلك:" إن وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنة من سنن الكون، التى لا يمكن تحويلها أو تبديلها حتى لو لم يبقِ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحد لجرد من نفسه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».

«إن هذه الأحقاد الدينية التى تلتهب في صدور الناس التهابًاً لا تؤججها في صدورهم الأديان نفسها، بل رؤساء الأديان الذين يستخدمونها ويتجبرون بها في أسواق الغباوة والجهل».

ويتضح ممّا سبق أن مفكرنا «مصطفى لطفى المنفلوطي» يعد بحق من الأدباء المجددين الذين أدلوا بدلوهم الإصلاحي في الثقافة العربية، وأثروا في معظم المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين، ولعلّ ما أوردناه من آرائه يبرر حكمنا عليه، ويؤكد في الوقت نفسه صدق دعواتنا إلى ضرورة القيام بمراجعات نقدية لأفكار قادة الرأى في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، والتحرر من التصنيفات والأحكام المتسرعة التى مازلنا نعانى منها. وللحديث بقية عن عالم آخر من المجددين في معية المحافظين.

 

د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم