تجديد وتنوير

خيار التعارف كبديل ثالث؟! (1)

يحكى أنه جرى حوار بين عالم عارف ومتعلم على سبيل نجاة، حول نقد الذات ومحاسبتها، ومع نهاية الحوار نظر العالم في تلميذه المتعلم، قائلا: أذكر لي مساوئي وعيوبي ونواقصي التي قد استشعرتها أو استوحيتها طيلة تعاملك معي...!!

انصدم التلميذ المتعلم متعجبا من طلب معلمه، واعتذر وطلب من أستاذه أن يعفيه من هذا الأمر، لكن العالم ألّح وأعطاه الأمان بأنه لا يغضب منه مهما كانت صراحته قاسية... فنزل التلميذ عند طلب معلمه، واستهل ذكر عيوبه وبعد بضع دقائق توقف مستحييا من النظر في وجه معلمه لجرأته غير المسبوقة، ثم استعاد أنفاسه وقال لمعلمه بوقار: سيدي هل تكرمت وذكرت لي عيوبي ونواقصي فأنت أجدر بهذا مني....تبسم العالم وقال لتلميذه: بني وهل يصف ناقص ناقصا؟ أنا وأنت متعلمين على سبيل نجاة وتعارفنا الصادق هو تمهيد لتصالحنا مع ذواتنا وبعضنا البعض...قد يتفكر القارئ ماذا نستفيد من قصة كهذه؟

هذه القصة هي درس بليغ للأفراد وللشعوب والأمم في أبعاد حياتهم، لتفهم أن الله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ويتبادلوا الفنون والآداب والمهارات ويتنافسوا على فعل الخيرات ومحاربة الأهواء والأوهام، وعلى الرغم من صور الحياة الإنسانية المشتركة والسامية التي يطرحها كل شريك في البنية الإجتماعية، إلا أن الواقع يكاد يكون متناثرا، ومرتكزاً على المصالح الضيقة التي حملت بعداً وهدفاً لا يمت إلى تلك الصور بصلة إلا مع الذات الخاصة لا العامة..

لقد أصبحت الحاجة إلى تكريس ثقافة التعارف على خطوط  طول وعرض التفاعل الاجتماعي في الأمة، ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، لما وصلنا إليه من صور العنف من الأسرة إلى الشارع والمؤسسات بشتى الحقول، ووسائل العنف تعددت وتنوعت، وارتكابه بحق شركاء الاوطان والأمة والإنسان عموماً أصبح مشرعنا، فباتت مواجهة الصراعات بين شركاء الوطن والإخوة في الدين وداخل المذاهب، والتي تعدّدت صورها لا يمكن أن تستمر، ولا يمكن أن يظل نفي الآخر -بجل تمثلاته- أساساً للحياة، لأنه إن استمر فهذا سينهي وجودنا كأوطان وأمة، ويدمّر أركانها معاً، أصبح لابد من نشر مبادئ العيش المشترك، وتطبيق تلك المبادئ، دون أن يتم تهميش عنصر من عناصر الوطن والأمة او الدين والمذهب دون الآخر. وأن يكون التعارف منطلقا لبناء التعايش بكلّ صوره الإيجابية قائماً ومصاناً من الجميع عبر الركائز التالية:

- التعريف بالذات دون تسقيط الآخر بكل تمظهراته أو تهميشه.

- معرفة الآخر عبر التواصل والتبادل المعرفي من مصادره الأصيلة.

- الاعتراف بنسبية الحقيقة والشراكة في ملكيتها وتنمية آثارها في الحياة.

- لابد من وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة الحقيقية المشتركة بين أهل الفكر والمذاهب والطوائف الإسلامية في التعارف؛ والنابعة من نزعة العدالة الإسلامية..

-  دراسة وتدريس تجارب وممارسات التعايش والتضامن والسلام الخاصة بالشعوب والحضارات الأخرى التي تمكنت من تأسيس وتنمية التوافقات الاجتماعية بين عناوين التعدد فيها، بعد أن مرت بصراعات دموية...

- عدم فهم خيار التعارف كصيغة تفاوضية، لأن الإرث مشترك والمصير واحد فلابد من فهم عنوان التعارف كبديل ثالث وأهم لمستقبل الأمة والأوطان والأجيال ..

 إن الحاجة إلى التعارف أساس التسامح وروح التواصل وغاية الحوار ومنتهى بغية المكرمين، وليس أبلغ وأدل على أهمية التعارف في حياة الأفراد والمجتمعات مثل الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1]، والتي توحي لنا بضرورة مراجعة حقيقة التعارف في حياتنا كعرب ومسلمين، كعنوان حضاري إسلامي عظيم، ولابد أن نفهم أن التنوع الإنساني كخلق وجعل من الله تعالى، بالمنطق الإسلامي ماهيته تتحدد في التعارف ومدى الصبر عليه كإمتحان لمدى حيوية الكرامة عبر حركية التقوى في حياة الفرد والمجتمعات (شعوبا وقبائل)، وما القصة السابقة سوى قطرة من بحر جواهر الآية الكريمة السابقة من سورة الحجرات التي تفتح آفاقا رحبة على ثقافة التعارف كأساس لأسلمة الحياة عبر استحضار توحيد الله الذي يجمعنا على التواضع واللقاء والتراحم والتسامح...

 إن الشطحات الشعبوية والقبلية والمذهبية ورمي التهم والتباغض الإنساني بكل تمظهراته، ما هي سوى محاولة القفز على الحقائق الإنسانية الاسلامية المنيرة بنور الحق والعدل عبر ضخ الترميزات الصاخبة في مقياس الطائفية... وأي سيناريو يتجاوز أساس التعارف بكل لوازمه المشتركة بين أطرافه، هذا السيناريو ماهو سوى محاولة الانقلاب على أمر إلهي عظيم يتعلق بكرامة الناس وبالتقوى كمطلب ثقافي في المنظومة الحضارية للمسلمين.. ثم إن التعارف في المنظور الإسلامي فرض إلهي وحق لكل أبعاد التنوع الإنساني (أفرادا ومجتمعات) آثم تاركه من المسلمين إبتداءا، ظالم منكره، وجواب سؤالنا التاريخي كأمة رهينة أزمات نفسية وإجتماعية ذات منشأ ثقافي وتاريخي: لماذا أنيميا الوحدة تنخر جسدنا الإسلامي؟ هو لأننا كشعوب وقبائل تعوّدنا على مقاطعة فاكهة التعارف!!!

 إن الطائفية المحلول الوحيد الذي يكشفها في يومياتنا السياسية والمذهبية الثقافية والاجتماعية، هو ماء التعارف (الحوار العلمي، النزعة الانسانية، الشراكة في الحقيقة)، ومهما قرأنا عن شجاعة التعارف وسمعنا عنها لا يمكننا تذوق حلاوة ثمار التعارف إلا بالممارسة عبر الحوار والانفتاح لإكتشاف حقائق التسامح والتعايش... وتجاوز المأزق الحضاري  الذي يكمن في البنية التحتية المولدة لأفول وغياب ونكران قيمة التعارف، كمقولات احتكار الحقيقة وفتاوى العجب الطائفي وغيرها. حيث تتمركز معضلات ضحالة النظر وتعطيل مشاريع التجديد والانفتاح على بعضنا البعض في ظلال المحبة الإسلامية ...

إن ثقافة التعارف تبقى الوصفة المثلى للتنمية بكل أبعادها، ومركز ثقلها هو التواضع كأفراد وأساسا النخب منهم وكشعوب وقبائل وطوائف وقوميات، حتى نكون أهلا للتعارف والرقي للكرامة الحضارية الحقة التي لا تتجلى عبر الزمن كله إلا تحت لواء التقوى في تفاصيل الحياة كما في العبادات.. فتعالوا إلى نستلهم آفاق قيمة التعارف..

 

بقلم: مراد غريبي - كاتب وباحث

 

 

في المثقف اليوم