تجديد وتنوير

سامي عبد العال: إنسان بلا جذورٍ: الدين، العولمة، الهوية

سامي عبد العالإزاء عصر العولمة والتكنولوجيا واسعة النطاق والتأثير، تحدث ذات مرةٍ الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن "خطر اقتلاع الإنسان من الجذور". حيث يتعرض هذا الإنسان إلى الإلقاء في العراء مقذُوفاً به في وجه العواصف. وبالفعل (كما نرى الآن) لقد دُفع به إلى ساحة العالم جُملةً واحدةً دون إختيارٍ. فمنذ أنْ يستيقظ باكراً حتى يخلُد إلى الراحة لا يستطيع فتح نافذته نحو الأشياء اللصيقة بقدر ما تقتحمه رياح العولمة في كل مكان وزمان. تقتحم وجوده الحميم (عارضةً) إيّاه على قارعة الكون والتاريخ والحياة الرائجة.

وكلمة (العَرْض display) هنا كلمة مثقلة بكافة الحُمولات الثقافية:

1- فقد تعني الإنكشاف ونزع الخصوصية: فالعالم ليس قريةً واحدةً كما يُشاع، بل هو أضيق من ذلك: إنه غرفة كونية غاصةٌ بالوجوه والأشكال والمودات والأقنعة. فما بالنا لا نتخيل هذ التراكم البشري إزاء بعضنا البعض، وأنّ ما يفصلنا ليست سوى النظرات المحملقة في الأشياء. حتى باتت الخصوصية من أحلام المثاليين لا الذين يعيشون في ثنايا الحياة الاعتيادية. والأنكى أننا عرفنا عاجلاً أن الخصوصية ليست إلاً وهماً كبيراً، لأن صورتنا حول أنفسنا أخذت تتشكل عبر هذه الحملقة التقنية المتواصلة. وهي الصورة الملوثة حتى النخاع بما لدى الآخرين بعد أن انكشفتَ أنتَ لهم في أدق التفاصيل.

2- وقد تعني الكلمة التسليع والتسوُق: فأنت مادة رائجة للعيون والرغبة في البيع والشراء. دوما لا تنسى هذه الأسواق التي تنتصب في كل مكان ولا تنتهي بمجرد الإطلالة الافتراضية عبر التقنيات وصولاً إلى الإطلالة القصيرة خارج منزلك. فما إن تخطو خطوات قليلات حتى تجد نفسك معلقاً في متجر أسمه (الفيس بوك) أو حانة تسمى بـ (التيك توك Tik Tok) أو ممتداً بكل شغف (منك ومن المتابع) على طاولة تويتر وقد خرجت أحشاؤك النفسية والفكرية والأيديولوجية.

3- وقد تدل كلمة العرض على الإلقاء عُرياً في العوالم الإفتراضية: وليس العُري بمعناه الاخلاقي عادة وإن كان متضمناً في المشهد، لكنه يعبر عن انعدام أية حماية ولا مناعة، وحتى الهواجس لم تسلم، فالفيس بوك لو تأخرت عنه قليلاً يباغتك بسؤال مباشر: أيا هذا.. ما الذي تفكر فيه الآن؟ ما الذي يشغلك حالاً؟ بماذا تشعر؟ هل تريد التواصل مع الآخرين؟

والعُري نوع من الاستدراج الذي يعول على جزءٍ أنت ترغب فيه وعلى جزء آخر لا تستطيع تجنبه. الجزء المرغوب هو الرغبة في الاستعراض، إغواء التجلي للآخر، القول بأنك هنا ويا حبذا لو كنت هناك أيضاً (عكس قانون عدم التناقض في المنطق: إما أنْ يكون أ موجوداً- هنا أو غير موجود- هناك) . والجزء الآخر أنك لن تكون ملْك نفسك من فورها. أنت خرجت بلا عوده لتُعرض كصورة حية هنالك حيث ترغب. وليس هذا فقط وإنما ستتناولها الأنامل والأبصار فضلاً عن كونها قد سكنت الذاكرة التي لا تمحى.

4- وقد تعني الكلمة الإفتضاح إلى حدَّ اللعنة: الافتضاح ذو أبعاد متعددة، وفي أحد أبعاده أنه لم تعد أحشاء المجتمعات واعماقها محجوبة عن النظر. هناك آلاف الأقمار والعيون الالكترونية والمجسات الفضائية التي تنزع الجلد عن العظم وتخلع الأغطية الثقافية الراهنة وصولاً إلى التراثات العميقة لبنية الواقع وحركته اليومية. وظهرت الصراعات والحروب جميعها كأنها عمليات جراحية مفتوحة في غرفة طبية عسكرية كبيرة، ووفوق ذلك يُجرى العمليات أناسٌ لا ينتمون إلى السياق ذاته بالضرورة. ولكن المؤكد أنهم يشكلون هيكل الجثة الممددة أمام الأنظار بحسب ما يريدون. ويؤكد ذلك على أن الفاعل الكوني جزء من تكوين الصور المحلية. وهذا هو الشيء المرعب في الأمر: أنك منزوع الحرية الذاتية وقد تلاعبت أيد أخرى بأخص ما تملك وما لا تملك.

5- وربما تعني كلمة العرض جعل الإنسان كياناً تافهاً: لأن الأيدي والعيون والمعارف والتقنيات التي تتناولك ليست لها حدود، كما أنها تضعك في سياق آخر يُخرج ما يريد إخراجه. وليس أقرب إلى ذلك من التفاهة ولاسيما مع ثقافة التسلية وأهدار الوقت وضعف القدرات وقلة الوعي وانعدام الإختلافات الثرية بين البشر. أن تكون تافها هو أن تدخل حلبة التسابق على الغث ولا تجد فوارق مميزة بينك وبين سواك. وهذا المحتوى هو التسطيح النافذ إلى قلب أعقد المشكلات وأكثرها أهمية. مثل التراشق بالألفاظ والمكايدات حول قضايا مهمة في حياة الشعوب واستعمال لغة التهريج والبهلوانية في شأن الحياة العامة. عندئذ فإنك إذا وجدت نفسك وسط بهلوانات، فلن تكون الحياة سوى سرك للإستعراض بطبيعة الحال، كل منهم يحصل ما يريد بابتياع تفاهاته الأثيرة لتافهين أمثاله حيث التسابق المحموم نحو الهاوية.

6- وقد تشير الكلمة إلى مضامين الاستعمال والتوظيف: وهو تحويل الإنسان من قيمة إلى خامة، ومن أساس إلى جاسوس، ومن إبداع إلى استنطاع ومن حقيقة إلى شيء زائف عليه الالتصاق بغيره. كل العولمة قائمة على هذه المعاني. تسلب إنسانية الإنسان وتلصق بدلاً عنها عنواناً هو يريده ويحبه. وبالتالي سيكون أداةً في أيدي غيره، أصبح مجرد ورقة نقدية خارج سياقها تُشترى بها المصالح وتنفذ بها الخطط وتعلَّق تحت أية شعارات عولمية.

وهنا يبدو أنَّ الأديان بظلالها السياسية قد خطت سريعاً كخيول جامحة نحو بعض تلك الأفكار. ذلك حينما خلعت جذور الإنسان من قاع التربة الاجتماعية والثقافية ملقيةً إياه في الخارج بعناوين: مملكة الرب أو دولة الخلافة أو الجهاد أو الصراعات الدينية، تركته وحيداً معلَّقاً من عرقوبه في فضاء مفتوح على مصراعيه يتأرجح باستمرار. وإذا كان التدين "اعتناقاً شخصياً " لما هو متعالٍّ ومقدس، فالمسئولية عن الإيمان لابد أن تُترجِم المعاني على سطح الأرض. ففي تاريخ الأديان كان ثمة (تكوير لا هوتي) لفكرة الأرض بعمومها في دوائر توضع تحت سلطة معينةٍ. إذ لا توجد ديانة متأخرة (وبخاصة المسيحية والاسلامية) إلاَّ وتنحت هذه (الكُرة الترابية) بين شعاراتها وأيقوناتها (مثل فكرتي: كثلكة العالم التي تعني العالمية واستاذية العالم عند الاسلام السياسي) .

كانت تلك الوضعية انحناءة تاريخية حاسمة لتدفق الهويات القاتلة نحو أية مواقع يحددها الإرهاب في أرجاء العالم. مثلما رأينا تجمُع واختلاط المجاهدين من كل حدب وصوب في أماكن الجهاد الديني عبر قارات العالم الست (افغانستان وليبيا والعراق واليمن وسوريا وألمانيا وفرنسا..) . وكأن الهويات أصُول حصرية تندفع لتحريك كائنات من جنس الاسلاميين (الاسلام) وفي السابق من جنس المُبشرين وأصحاب الارساليات اللاهوتية (المسيحية) . وقد وجدوا ترحيباً عولمياً بهم في أكثر بقاع العالم سخونة واضطراباً وصراعاً (لأنهم جزء من تكوين المشاهد السياسية المعولمة)، لدرجة أنَّ هؤلاء وألئك كانوا أكبر ممول لمشروعات الدول الكبرى ثقافةً وهيمنةً وتسلطاً وحروباً ونهباً لثروات الأمم. وفي غير حالةٍ، كانت هويتهم الدينية أداةً خفية لتحريك الجموع السائلة كالجراد المنتشر لإرباك الصورة. وتم الزج بهم في صراعات عرقية وسياسية فتتت دولاً شرقية كانت متماسكة في يوم من الأيام. ولعل هذه المسألة لا تنفصل عن بعضها البعض داخل أجواء الدين والعولمة (العراق وسوريا نموذجاً) .

بالأحرى نجحت العولمة في تسويق أصوليات دينيةٍ، حتى وإنْ بدت هذه الأصوليات تعادي بعض نقاطها ومنطلقاتها المركزية. وربما كان المقصُود ترويج العداوة بين الاثنين (الدين والعولمة) لاقتناص الفرص المتاحة بشكل مقلوبٍ. ومن ثمَّ، فإننا لو تصورنا كون العولمة تناقض معنى الخصوصية، فهذا محض خطأ فادح. فالعولمة لا يهمها على الإطلاق: ما إذا كانت ثمة هوية من عدمها، ولا يهمها كظاهرة كوكبية إلاَّ اعاد ة تدوير الرأسمال الرمزي والعيني داخل دوامات مصالح القوى الكبرى، سواء أكان الرأسمال شرقياً أم غربياً، أبيض أم أسود، ميتافيزيقياً أم أرضياً، توحيدياً أم وثنياً، ملائكياً أم شيطانياً. الأهم هو: كيف يمكن استثماره في تأكيد الأهداف والمارب وجنى الأرباح المادية ونهب الثروات بشكل نّهم.

ثمة نقطة التقاء راهن بين العولمة والدين السياسي. نقطة " الهوية المطاردَّة stalked identity " كفريسة بين أنياب هذين الوحشين الكبيرين. وهكذا ضاعت جذور الهويات بين شد وجذب وتقطيع ونزع وترقيع حتى تمزقت واهترأت ولم يبق منها غير آثار الحنين إلى الماضي. لكن الهوية (رغم ذلك) تصالحت مع العنف على المستوى ذاته، وكم زحزحت الإنسان عن موطنه الأرضي المحلي وعن جمجمته البشرية بالمثل. وبوضوح عام أضحت تلك الهوية (جثة خيالية) تتلاعب بها الجماعات والحركات الدينية والسياسات على نطاق أوسع. وفي هذا الشأن ستتعشق الأيديولوجيات الدينية مع العولمة وستخدم الواحدة منها الأخرى بقدر ما تستطيع، بل هناك تناغم شبه كوني بينهما. لا لشيءٍ إلاَّ لأنهما يلعبان اللعبة الواحدة نفسها حول خلخلة الهويات ونزعها من الجذور. بلغة الإقتصاد، هناك (تعويم مثل تعويم العملات المحلية) لكل هوية خاصةٍ بأصحابها، حين يرونها قدرةً على احداث (ثقب أسود) يمتص كل انفتاح حُر على العالم.

أولاً: أيديولوجيات الدين والعولمة تتبادل تأثيرات عنيفة تصنع صوراً وخطاباً حول الإنسان. فلئن كانت العولمة لا تستأذن الهويات، فأيديولوجيا الدين ترد بشكل أعنف لنزعها بالتكفير والإرهاب والتوظيف. إضافة إلى ذلك تعمم (تصنِّم) هوية واحدة كامنة في المعتقد خارج أسوار الدولة الوطنية. إنَّ الحس التسويقي التعبوي الاستثماري هو الرابط المشترك بين الطرفين (الدين والعولمة) . وإن كانت نتائج العولمة كارثية من جهة تسطيح الأرض، تسطيح قضاياها وامتدادها بلا أعماق لخصوصيات الثقافة، فأيديولوجيا الدين تُسطّح العقل والعاطفة والاعتقاد عن طريق الإيمان بأن (صورة الإله كما رسمتها هذه الجماعة أو تلك) هي الوطن الأول والأخير. ومن حينه بات هذا الانتماء يشترط خلع كل آفاق الإنسان الأخرى من التاريخ والجغرافيا. كما يجعل منه بمثابة الكائن الراكض الأبرز وراء (جماعته المؤمنة كما يعتقد) أينما حلَّت أو ضاعت بالمثل. لأنَّ الجماعات الدينية تضيع بالفعل في غابات العولمة، أي أنها تنخرط في مآربها ومخططاتها الإقتصادية السياسية دون أنْ تعي ماذا تفعل ولا أين موضع أقدامها، فتبدو كفرائس تقتل وتمتص الدماء لإطعام وحش أضخم وأكبر امتداداً هو قوى العولمة الشرسة.

وحالما ينخلع البشر من جذورهم وأصولهم، ينبغي توضيح ما هي صورة الإله. هكذا سيشرح الاسلام السياسي عبر كلِّ مراحله ما معنى الإله. لأنه يدرك قدرة تلك المقولة المقدسة في تدمير جميع الهويات الأخرى. ابو الأعلى المودودي على سبيل المثال ذكر ذلك في كتابه الشهير" المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والعبادة والدين". وهو يحاول تقعيد المساحة الكبرى للإله من وجدان الاسلاميين ومشاعرهم كما يرسم ويعتقد. فليس ثمة (أي تكوين هوياتي) لا يمر بدلالة الإله حصرياً من وجهة نظره. وقد أكد على أن معنى الإله هو الأساس، معتبراً أن الانتماء الأول والنهائي لمفهوم (الله الإسلامي) الذي هو مطلق التوحيد والتوجُّه والجدير بالاخلاص في السر والممارسة. ولكن لم يره المودودي سوى مفهوم بحده الجهادي والاقصائي لجميع المفاهيم المختلفة عنه. فإما هو المفهوم الإسلامي الذي يجب أن يكون فوق كل المفاهيم في جميع الأديان، وإما فهو الكفر به.. لا خيار ثالث ولا توجد أية بدائل أخرى. ولئن كان هناك أناس أخرون يؤمنون بمفاهيم غير المفهوم الإسلامي للإله، فيجب محاربتهم طالما لم يخلصوا لصحيح الاعتقاد وحده.

من هنا أخذ سيد قطب المعنى ذاته والنتائج ذاتها في "كتابه معالم في الطريق" ليؤكد أنَّ "لا إله إلا الله" وحدها شهادة هوية كونية لحياة مكتملة، هي الوطن والأرض والسماء والجنة في الآخرة. شهادة لا تحتاج أي شيء سواها لكي تضمن اندماج المسلم داخلها إقامةً واعتقاداً وحرباً. وكانت الشهادة- امتداداً لهذا- بمثابة (الفيزا) التي تسمح للأفراد والجماعات الناطقين بها بالهجرة إلى الله وحده تاركين أوطانهم وثقافتهم وأدمغتهم. وبالفعل أخذ يشجع في كتاباته الأخرى ضرورة الهجرة إلى الجماعة المؤمنة التي تعتنق هذه الفكرة بملئ الكلمة. بينما المهاجرون (في الحقيقة على أرض الواقع) كانوا يهاجرون إلى الإخوان والقاعدة وداعش وجيش النصرة والسلفية الجهادية والوهابية المسلحة التي تتجاوز الحدود والدول. وستتواصل عمليات الهجرة طالما كانت الهوية قابلة للتمدد والتمطع في هيئة سلع دينية معولمة ضمن حروب قذرة أو غسيل أدمغة أو تجارة مرتزقة أو إدارة مصالح للدول الكبرى على الأرض.

ثانياً: أيديولوجيا الدين والعولمة يتعايشان لدى مناطق الحدود دائماً. ويمارسان أدوارهما السياسية بامتياز لاهوتي أدائي. وفي هذا الإطار غدت الهوية صناعة وتوليف. لأن كل مظاهر العولمة دعت الاسلاميين المؤدلجين للتعبير عن هويتهم بجميع السبل الممكنة. وحدثت المطاردة الاسطورية بين بعض الدول والإرهابيين بشكل جيو سياسي مع حركة العالم. ذلك أنه لم تكن هوية الاسلاميين منكفئة على ذاتها فقط، بل سمحت للاعتقاد بأن يلتهم غيره من اعتقادات مغايرة. حتى بواسطة الصراع الصريح معها. وكأن الاسلاميين هم الحاضر الغائب في كل مكان. ونتيجة التطور المذهل لمنتجات العولمة (الحروب والتقنيات والإتصالات) بات الناس يتوقعون وجودهم هنا أو هناك.

إن الحدث الارهابي (أي حدث كتفجيرات برجي التجارة بنيويورك مثلاً) لا يقف بمفرده. إنه يخطط لعولمة ما كانت لتأتِ بصورة سواه رغم عنفه الواضح. عندئذ سيكون الحدث تعبيراً عن حدود تتنازع البقاء حتى الرمق الأخير. وسيكون الصراع حول حدود داخلية بينه وبين العولمة وليست خارجية. فالعولمة توجد بخرائطها داخل خطط هؤلاء الارهابيين والعكس صحيح أيضاً. ومع هذا تتمايز فجأة الأشكال والأحداث وتكشف أبعاد الملاحقة داخلياً كذلك. من يلاحق من؟ رموز قوى العولمة أم رموز الإرهاب؟ أين حدودهما من حدود الآخر، أي أين الحدود خارج الآخر؟ يثار ذلك الاستفهام بفضل الهوية المتجاوزة، المتقاطعة التي يعبرون عنها في الموضع نفسه الذي تتنازعه العولمة.

وبالمناسبة هي أيضاً تلك الحدود التي تتخطى كل حدٍّ عبر الأقاليم السياسية التي اشتعلت فيها الحروب تسويقاً وصداماً واسثماراً (دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط والثروات) . وفي هذا السياق فإن عبارة صمويل هنتنجتون " صراع الحضارات" قضية تحتاج إلى تفكيك ونقض، إن مجرد صياغتها تقتضي مساءلة جذرية من الداخل. لأن حضارة الرأسمالية هي الغالبة في الواقع. كما أن جميع الحدود التي تلعب فيها ليست خارجة عنها، بل لا يبدو أن ثمة خارجاً لها أصلاً. بالقطع عندما تتكلم حضارة رأسمالية مهيمنة عن الآخر، فإنها تلجأ إلى قانونها الخاص لنصب محاكمة تاريخية له لن تكون عادلة بحال. ولن يفلت أي آخر مهما يكن من حكم إعدامها المؤكد لسبب بسيط. مؤداه: أن كل آخر هو بالفعل يعيش في كنفها ولا يستطيع أن يرى نفسه إلاَّ عبر مرآتها. والتأثير الأبعد أن تلك الحضارة الرأسمالية تحدد نقائضه، حتى هواجسه وماذا يريد وما عساه أن يفعل. هي تمارس هذا الدور الاستعماري حتى وإن لم يكن الآخر يناصبها العداء المباشر.

ثالثاً: تقدم العولمة نماذجها المشوهة في زحزحة الهويات وتنويعها وتهجينها. وقد التقطها الاسلام السياسي (أي الهويات) كغنائم حرب افتراضية في الفضاء السبراني cyber space. ذلك عن طريق انتشار الايديولوجيات الدينية والخُطب والمذاهب وعودة المقدس إلى الواجهة الثقافية في العالم. لعل العولمة قد خدمت الأيديولوجيات الدينية حين أضفت طابع التفضية (إزاحة الكيان العضوي والخيالي) بحكم عدم ربط الإنسان بأصوله الثقافية. وبخاصة أن الدين السياسي يضع أتباعه باستمرار في مفترق طرق الاختيار بين معتقداته وبين سواها. وإذا نجح في خلخلة تلك النقطة سيكون للتيارات المتشددة عامل الحسم في جر الإنسان نحو التطرف والإرهاب. كم كان الاخوان قصيري النظر عندما دفعوا بهوياتهم المحلية نحو التنظيم الدولي، حيث تلقفتهم القوى الدولية لجعلهم حشواً لإقتصاد المؤامرات والحروب. وظل خطاب الإخوان يعمل على تعميق اللاهوية non- identityظانين أنهم يخدمون الاسلام بينما تتربص بهم تلك القوى وتستعملهم لأغراضها النوعية كما قلت. حتى بمجرد اعطائهم مساحة للحركة والنشاط عبر اراضي الدول الأوروبية، فهذا يجعل فكرة الهوية غير ذات موضوع خارج ذاتها.

وفي الإتجاه نفسه، يحافظ الاخوان على فكرة الولاء للجماعة باسم الدين. ويظل الاعضاء يمارسون تلك التراتيل اليومية جرياً وراء اقتلاع هوياتهم، وهم على ثقة (فيما يظنون) بأنهم يسايرون الاسلام في منطلقاته وغاياته. غير أنَّك مع الأحداث ستجدهم يفرون إلى الأوهام القاتلة خارج أوطانهم. لأنه لا توجد هوية متخيلة في تلك الدوائر المحكمة والمراقبة دوماً إلاَّ وتسير نحو التوظيف العولمي الاستعماري الأكبر. والأصل في المسألة أنه ما لم يكن الإنسان قادراً على الانفتاح الإنساني بلا حدود، سيكون مصيره البحث عن هوية بديلة وإن كانت مشوهة. والهوية بالنهاية سترتد إلى دجما جماعية أشبه باليوتوبيا المستحيلة. ولهذا كانت مشكلة الاخوان هي معنى الواقع ذاته.. كيف يفهمونه؟ ولماذا هو لا ينحو نحو ما يتوهمون وكما يرغبون؟

رابعاً: ترسيم وتخطيط المسافات آتٍ من اللامكان الذي تشجعه العولمة وكأننا أحرار بينما الأمر عكس ذلك. فالارهاب الديني لم يكد يختفي في موقع حتى يقفز بالظهور في مواقع تالية. حيث أنه نتيجة تصفية الهويات سيُحدث الفراغ الحاصل تصوراً ضبابياً ومشوشاً. إذن فكرة الهوية من تلك الجهة تتقمص الأفكار والوعود والآفاق وأخيلة الجماعات المصطفاة. فالخلافة الاسلامية هي هوية مؤجلة منذ الإسلام الأول حتى المستقبل لدرجة أنها أصبحت وعداً لعمل الجماعات الإسلامية. ولقد سقط في استعجالها الدواعش تحت قصف المدافع وتحت سيكن الذبح باسم الدين، فكان نموذج الخلافة كهوية هو هذا السفك المتواصل للدماء.

كانت دولة الخلافة بهذا المفهوم خريطة عولمية جديدة لحروب الهويات. لقد انضمت تحت لوائها فصائل الاسلاميين من شتى اصقاع الأرض، باحثين عن أصل تم الإيمان والوعد به. وإذ ذهبوا تاركين بلدانهم وهوياتهم الخاصة فقد ساروا إلى الهوية الجديدة بأدواتها وطرائقها في النظر إلى العالم والحياة. إنه معنى الجهاد الذي يقطع كل ارتباط بالواقع. وفي القرآن جاءت بعض العبارات التي تؤكد أنَّ " أرض الله " بها الوسع والسعة لهوية الإنسان. لكن ليس الاسناد هنا تلقائياً ولا مطلقاً كأن الأرض التي سيختارها المسلم فارغة من البشر. لأنه لا يوجد أي مكان غير سياسي بالمرة. وهو بنية الدولة الحديثة التي تلتئم حول اقليم وشعب ونفوذ اقليمي ودولي.

على وجه الإجمال ربما يظهر شكلياً التناقض بين اختلافات العولمة والنزوع المحافظ للدين. إلاَّ أن الدين يحقق الامتلاء الشاغر فيما وراء الوطنية بمعناها الحديث والمعاصر. لقد كانت تلك هي فكرة كون الاعتقاد وطناً رمزياً والتي تحدث عنها المودودي وأخذها سيد قطب. وبصرف النظر عن اتساع فهمهما للدين والإله وما إذا كانت هذه مفاهيم متعلقة بقضايا عقدية أم لا، غير أنها مفاهبم تعين النقطة الأضيق للهويات في أيديولوجيا سابحة عبر اللا أرض. وكان ذلك تحولا جوهرياً في مفاهيم الهوية وانماطها نحو العنف لا الانفتاح الإنساني المفترض. فإذا كانت الهوية تقليدياً هي مجموعة السمات الجوهرية الفاصلة لشعب ما والمانعة لضياع كيانه المعنوي والثقافي مع شعوب أخرى، فالأيديولوجيا الدينية تقطع هذا الجذر لصالح معان خارج الواقع لتعود وتحارب المعنى الأول. فهي لا تدعه وشأنه إنما تشتبك معه في كل مجال. حيث تؤسس لهوية مرتهنة بماهية الإله حصراً وما يسقطه من أخيلة تالية على تفاصيل الواقع.

خامساً: ليس ثمة تعارض على الإطلاق بين الإسلام السياسي والقوى العولمية، كما قد يتبادر إلى الإذهان نتيجة حروب القوى الدولية (أمريكا وروسيا وانجلترا وفرنسا) على الإرهاب، بل إن الجماعات الإرهابية هي الامتداد الطبيعي والمكمل للرأسمالية، إنها الإستثمار الحقيقي والسلع باهظة الثمن والتي تجلب الثروات الطائلة وتغذي الوحوش الكاسرة دولياً. وبالتالي فهذه الجماعات جزءٌ لا يتجزأ من العتاد الإقتصادي العابر للقارات. وأعضاؤها ومجاهدوها هم فاتحو أسواق السلاح والنهب والخدمات العولمية التي ستموت ما لم تكن هناك جماعات تحرك أسباب فتحها وشراء الأصول وحرق الممتلكات والتواجد على الأرض. ليست ثمة رأسمالية عولمية دون وجود إرهاب وأيديولوجيات ومذاهب وطقوس وشعائر تنظيمية تطعمها وتسقيها. وصحيح أن بعض منها أيديولوجيات مخلَّقة كما تخلق الفيروسات في المعامل السرية، غير أنَّ انتشارها وحقنها بالتضخم العولمي شيء له آلياته وطرائق عمله.

لكن اللافت أن الهوية العائمة (كما لدى الجماعات الدينية) كانت هي العملة النقدية الرائجة التي فتحت المضاربة العولمية واجترت كافة المجاهدين وغير المجهدين لدخول الجنة (تحت رايات الجهاد) رغم أنهم بالفعل في (جهنم العولمة) بامتياز، وإنْ كان الجهل فيما يبدو حجاب ثقيل الوطأة من حيث لا يدري المتوهمون.

اختصاراً، رغم أنَّ (الهوية بمعناها الصحي والثري) تنطوي على (اللا هوية مهما تكن)، إلاَّ أنه لايجب الإقرار بانحرافها نحو الفهم الديني الأيديولوجي تحديداً. إنما لا بد من تنوع الهويات مع اغراقها الفاعل في النسبي من التواريخ والثقافات والحيوات المتداخلة. ولهذا تنطوي كلُّ هوية على استحالة أن تكون كذلك هوية جامعة مانعة. شريطة أن يكون الانتماء اختلافاً وثراءً إنسانياً لا البحث عن مرجعية ثابتة أو قوى مهيمنة تنقلب إلى عنفٍ في أية لحظة من اللحظات.

 

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم